أما وقد طوي ملف استقالة رئيس الحكومة تمام سلام بعدما فتح الأسبوع الماضي على شتى الاحتمالات، فإن الأوساط السياسية اللبنانية سعت طوال الأيام الماضية الى إجراء قراءة هادئة للأسباب التي جعلت خيار الاستقالة وارداً لدى رئيس الحكومة وتعميم أجواء على وسائل الإعلام في السياق نفسه، ثم العودة عن هذا الخيار، لا بل نفي وروده في حسابات رئيس الحكومة رغم ان الترويج لمسألة الاستقالة في الظروف الراهنة له محاذيره التي يمكن أن تتفاعل في أي لحظة إذا ما استمرت التجاذبات السياسية على حدتها.
في هذا السياق، تقول الأوساط المتابعة ان <نصائح> محلية وخارجية وردت الى السرايا الكبير خلال الأيام الماضية تدعو الرئيس سلام الى عدم الاستقالة أو مجرد التلويح بها ليس لاعتبارات دستورية وقانونية فحسب (لمن تقدم الاستقالة ومن يجري الاستشارات إلخ..) بل لاعتبارات سياسية محلية وخارجية يتناغم بعضها مع البعض الآخر، فتبرز قواسم مشتركة تدعو الى إبقاء الحكومة <حية ترزق> لأنها لا تزال تشكل المتنفس السياسي للجميع رغم معرفة هؤلاء أن استمرار الوضع على ما هو عليه يبقي الحكومة عاجزة عن اتخاذ القرارات المهمة في المواضيع الأساسية، كما ندخلها في مرحلة تصريف الأعمال غير المعلن يجعل التفاهم داخل مجلس الوزراء يطغى على أي إجراء تنفيذي مهما كان صغيراً أو كبيراً.
وفي رأي هذه الأوساط ان الدور المناط بالحكومة السلامية لم ينتهِ بعد مع وجود من يعمل - داخل لبنان وخارجه - وعلى أكثر من خط لإعادة نبض الحياة إليها تدريجياً حتى تكون <حاضرة> لرعاية أي اتفاق مستقبلي يفتح الملف الرئاسي على مصراعيه، فتسهل عملية انتخاب الرئيس العتيد ولو بعد حين. وتعترف الأوساط نفسها ان الأداء الحكومي لن يعود الى ما قبل أزمة التعيينات التي عطلت جلسات مجلس الوزراء لفترة، إلا أن مجرد عقد جلسات للحكومة والتداول في المواضيع المطروحة من دون اتخاذ قرارات تنفيذية يبقي مؤسسة مجلس الوزراء موجودة ولا تنضم الى خانة المؤسسات الدستورية المعطلة، لاسيما رئاسة الجمهورية ومجلس النواب. وعليه فإن خيار <الاعتكاف> الذي ورد في ذهن الرئيس سلام، استبعد هو الآخر لأن الذين طلبوا من رئيس الحكومة العودة عن خيار الاستقالة أبلغوه أيضاً ان الاستقالة كما الاعتكاف وجهان لعملة واحدة، وهما لن يؤثرا على مسار الأزمة لأن الأسباب التي أوصلت الحكومة الى الوضع المأزوم التي تعيشه لم تتغير وهي لن تتغير في المدى المنظور مع غياب أي ضغط إقليمي ودولي في اتجاه حلحلة العقدة الحكومية المستعصية.
سلام تجاوب مع رغبة إقليمية...
وإذا كانت الأسباب الداخلية لتراجع الرئيس سلام عن خيار الاستقالة لا تقدم ولا تؤخر في الواقع الحكومي مع إصرار كل فريق على موقفه وعدم تقديم أي تنازلات، فإن الأسباب الإقليمية التي شجعت - ولا تزال تشجع - على استمرار الحكومة <كاملة الأوصاف> تختصرها الأوساط المطلعة برغبة الفريق الإقليمي المؤثر على رئيس الحكومة وحلفائه في تيار <المستقبل> و14 آذار بعدم إعطاء رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون وحليفه حزب الله أي <مكسب سياسي> من مثل <إسقاط> الحكومة أو دفع رئيسها الى الاستقالة، لا بل مواجهته بالسلاح نفسه أي تحميله مسؤولية التعطيل الحكومي، فيما هو يحمّل فريق الرئيس سلام و<المستقبل> عملية انتهاك الدستور والقوانين من خلال تعطيل تعيين المراكز الشاغرة في قيادة الجيش والمراكز الرئيسية، وتعطيل رئاسة الجمهورية لأن الفريق الحاكم لا يملك الإقرار اللازم بأن الرئيس يمثل الشعب وليس الكتل البرلمانية التي تملك هذا القرار والتي يمكن أن تكون مرتهنة لارتباطات خارجية.
وبدا من خلال سياق الأحداث ان الرئيس سلام قد تجاوب مع رغبة الفريق الإقليمي وبدّل في أولويات مواقفه على ان تساعد التطورات في تجنّب الاستقالة أو الاعتكاف رغم أن مثل هذه التطورات غير معروفة وغير مضمونة النتائج لاسيما بعد المضي في اعتماد خيار تأجيل التسريح للقيادات الأمنية وكان آخرها رئيس الأركان اللواء وليد سلمان. وتتزامن مع رغبة الفريق الإقليمي المعلومات التي توافرت لمرجعيات رسمية وسياسية عن حصول <خلط أوراق> في المشهد السوري الدموي على وقع تدخل تركيا في سوريا وإفادتها من غطاء دولي تحت ستار محاربتها تنظيم <داعش>، إضافة الى التطورات العسكرية التي تلامس الساحل السوري، ناهيك عن الاتفاق الإيراني الذي ترك امتعاضاً لدى الجانب السعودي. وعليه فإن المعنيين الذين <هبط> عليهم الوحي الخارجي دفعة واحدة نصحوا بتهدئة ظرفية تفادياً لأي مواجهة غير محسوبة على الأرض تعطي مفاعيل أخرى قد تؤدي الى انفلات الوضع على نحو تصعب معه إعادة ضبطه كما كاد أن يحصل في ملف النفايات قبل أن يصار الى رفعها من الشوارع والأحياء وتجميعها في أمكنة محددة ريثما يتأمن <تصريفها> في مطامر يتم الاتفاق عليها، أو <تصديرها> الى الخارج رغم كلفتها العالية. وقد قرأت المرجعيات <الناصحة> بقلق بالغ التفلت الذي حصل في الشارع الذي بدا أنه لم يعد محكوماً ولا مضبوطاً حتى من قياداته المباشرة، ما جعل التحرك يتضاعف لمنع زيادة الطين بلّة عن طريق استقالة الحكومة والإفساح في المجال أمام الفوضى العارمة على صعيد الوطن ككل.
الحكومة <لا معلقة ولا مطلقة>
من هنا، تضيف المعلومات، فإن الخلاصة التي وصل إليها <الناصحون> المحليون والخارجيون هي ان الانتكاسات المتلاحقة في عمل الحكومة وأدائها، منذ الشغور الرئاسي يوم 25 أيار/ مايو 2014 لا يجوز أن تؤدي، مهما تضاعفت، الى سقوط (أو إسقاط) الحكومة، لأن تلك الخطوة تدخل البلاد في المجهول وتعود مؤسساتها الى حالة غير مسبوقة من التعطيل الذي يخدم من تتهمهم جهات إقليمية بالسعي الى إسقاط كل المؤسسات الدستورية لاعتماد خيار <المجلس التأسيسي>. وبالتالي فإن ضبط الحراك الحكومي على معايير معينة تحت سقف استمرارها مهما كانت أوضاعها بقي الخيار الأبرز ولو بقيت شاهدة على الاهتراء الحاصل ضمن الدولة والشلل الذي يتسلل الى قطاعات اقتصادية واجتماعية. وتشير مصادر مطلعة الى ان بقاء الحكومة <لا معلقة ولا مطلقة> تواكبه <دوزنة> في مسار عملها بمعنى أن <تسجيل النقاط> سيكون متبادلاً، فلا يبدو فريق منتصراً على فريق آخر بل يتعادلان في النهاية، فإذا ما حقق فريق رئيس الحكومة و<المستقبل> خرقاً معيناً في تمرير بند من البنود الملحة أمام الحكومة، سعياً الى تسهيل تحقيق فريق تكتل التغيير والإصلاح وحزب الله خرقاً في مكان آخر، وإذا ارتفع صوت فريق سيكون في مقدور الفريق الآخر أن يرفع صوته أيضاً، بصرف النظر عن أسباب ذلك. فالمهم أن تبقى الحكومة قائمة بكل تناقضاتها وتباينات الرأي فيها لأن أوان سقوطها لم يحن بعد. وعليه، توقعت المصادر نفسها أن يبقى الوضع الحكومي في دائرة الشلل زمناً غير قصير ما لم تحصل مفاجآت غير متوقعة.
الحريري <فرمل> اندفاعة <مستقبليين>
تقول أوساط تيار <المستقبل> ان الرئيس سعد الحريري ضغط للملمة الخلافات الحكومية ومنع استقالة الرئيس سلام بعدما تبلغ أن ثمة من يسعى داخل <التيار الأزرق> لتشجيع رئيس الحكومة على الاستقالة و<قلب الطاولة> ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم. واللافت في هذا السياق ان الرياض أوعزت الى الرئيس الحريري بالتدخل بعدما تأكدت من رغبة بعض <المستقبليين> في دفع الرئيس سلام الى اعتماد خيار الاستقالة، فكانت الإشارة السعودية بضرورة الذهاب الى تهدئة سريعة التقطها الرئيس الحريري وعمل على أساسها خلافاً لما كان عليه رأي فريق فاعل داخل <التيار الأزرق>، ثم كانت زيارة السفير السعودي في بيروت علي عواض العسيري للسرايا الكبير وما صدر بعدها من مواقف تدعو الى التهدئة وتوفّر للرئيس سلام الغطاء الذي مكّنه من تجاهل <نصائح> من شجعه على الاستقالة. ولعل القاسم المشترك الذي برز في تحرك الرئيس الحريري من السعودية والموقف الحاسم للسفير السعودي في بيروت كان ضرورة تجنّب أي مواجهة غير محسوبة. ومن تابع النقاش الذي دار في جلسة مجلس الوزراء الأسبوع الماضي والذي بقي تحت سقف الانضباط وعدم التفلت، أدرك أن <الوحي> الخارجي والداخلي الذي هبط على الوزراء ورئيسهم هو من النوع الذي لا يمكن <مقاومته> أو التصرف خلافاً لإرادته...
ويقول وزير <هادئ> في حكومة الرئيس سلام ان <فرملة> الاندفاع نحو استقالة الحكومة بدت واضحة وسط معادلة تقوم على ضبط إيقاع الوزراء ذوي الأصوات المرتفعة، في مقابل توقف الرئيس سلام عن التهديد بالاستقالة وإدارة الجلسات بشكل يعطي جميع الراغبين بالكلام الحق بذلك، وعندما يحين موعد انتهاء الجلسة يرفعها رئيس الحكومة لاستكمال <الحكي> في الجلسة التالية... ولا حاجة لقرارات ومراسيم حتى لو كانت البلاد <مجتاحة> من تلال النفايات وما فيها، ذلك ان معالجة هذا الاستحقاق المرتبطة بالسلامة العامة شُكلت له لجنة وزارية مصغرة هي البديل عن مجلس الوزراء مجتمعاً. وفي رأي الوزير نفسه ان مواقف الوزراء داخل الجلسة كانت رجع صدى لمواقف <معلميهم> الذين تناوبوا على بث أجواء التهدئة وسحب أي معلومة تتصل باستقالة رئيس الحكومة. وأبرز هؤلاء كان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الذي حذر من <الأوهام> معتبراً ان الحكومة <ضرورة للجميع> وتمثل آخر صمامات الأمان الداخلية>. وبالتالي فإن انهيارها ينطوي على مغامرة متهورة خصوصاً ان الانتخابات الرئاسية لا تزال بعيدة، لأن التفاهم على رئيس توافقي ليس ممكناً في المدى المنظور. أما حزب الله، فظل على موقفه لجهة رفضه تحمّل انهيار الحكومة أو اتهامه بتداعيات استقالتها إذا عزم عليها رئيسها، لأنه - أي حزب الله - منشغل باستحقاقـــــات أخــــــرى لاسيمـــــا في سوريا. أما المعادلة التي رسمها الحزب أمام حلفائه انطلاقاً مما تقدم، فتقوم على ان لا مصلحة لاستقالة الحكومة ولا في اعتكاف رئيسهـــــــــا، لكن في المقـــــــابل لا عمــــــل محتملاً للحكومــــــة من دون الأخذ في الاعتبار مطالب حليف الحزب العماد ميشال عون.
حزب الله لا يشجع ولا يعترض...
وفي هذا السياق، يقول نائب في كتلة الوفاء للمقاومة النيابية ان من تابع جيداً خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الأسبوع الماضي، لاحظ أولاً ان لا دلالات واضحة في أفق الاستحقاق الرئاسي بانتظار حصول تطور ما في العلاقات الايرانية - السعودية، وهو أمر غير وارد حالياً. كما لاحظ ثانياً ان الحكومة في مرحلة ما بعد استقالتها (إذا حصلت) ستكون شبيهة لحالها اليوم، إذ لا اتفاق على جدول أعمال مجلس الوزراء أو هي لا تجتمع. وإذا اجتمعت، لا تستطيع اتخاذ أي قرار، وإذا اتخذت قراراً (مثل دعم تصدير المنتجات الزراعية) فهي لا تستطيع تنفيذه في ظل الانقسام الحاصل، ما يجعلها قريبة الى مرحلة تصريف الأعمال السياسي أكثر منه القانوني، فالأفضل والحالة هذه ان تبقى الأوضاع على حالها: لا تشجيع على الاستقالة، ولا مجهود لإعادة تفعيل العمل الحكومي طالما استمر الخلاف السياسي الحاد بين مكونين أساسيين فيها، هما تيار <المستقبل> والحلفاء لتكتل التغيير والإصلاح... إلا ان قيادة الحزب، وفقاً للنائب نفسه، تدعم بقوة استمرار الاستقرار ولا تقبل ان يحملها أحد أي مسؤولية عن الخلاف بين <التيار الأزرق> والعونيين، لاسيما وان <إنجازات> عدة حققها الطرفان عندما كانا في <شهر العسل> منذ تأليف الحكومة ثم إقرار تعيينات شملت عشرات المديرين العامين... الى ان حصل الخلاف بينهما والذي لا علاقة لحزب الله به.
ولأن لا حلول جذرية في الأفق، فإن ثمة من يعتقد بأن الأوضاع السياسية ستبقى مجمدة، في وقت يؤكد فيه الرئيس سلام انه لم يلمس أي انفراج أو حلحلة أمام الاستحقاقات الراهنة ولم يلاحظ أي اختراق وان كثر الحديث عنه، لكنه سيظل يعمل لتوفير مستلزمات عمل مجلس الوزراء... وكل الاحتمالات مفتوحة مع إدراكه ان انتخاب رئيس الجمهورية ليس قريباً على ما يبدو، واي قرار سيتخذه يأخذ في الاعتبار مصلحة العباد والبلاد.
ويضيف أمام زواره: <معروف عني انني غير متهور أو متسرّع وأمارس عملي بكثير من الدراية والحكمة>.
واللبيب من الإشارة يفهم!