هل يزيل إقرار مجلس النواب تعليق السرية المصرفية العوائق أمام التدقيق الجنائي، أم أن الشيطان يكمن في التفاصيل وبالتالي فإنه عند الانتقال الى مرحلة تنفيذية سيتبين أن في القانون ثغرات تجعل التدقيق الجنائي يرزح مجدداً تحت شروط شركات التدقيق وتراجع "همة" المسؤولين؟
سؤال مشروع كان على كل شفة ولسان بعد تعليق مجلس النواب قانون السرية المصرفية بعدما حال هذا القانون دون تمكن شركة "الفاريز ومارسال" من تنفيذ عقدها مع الدولة اللبنانية لاجراء التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، وقد اتى القانون ليشمل المؤسسات والإدارات العامة والوزارات والهيئات والصناديق خاضعة بدورها للتدقيق الجنائي الذي يعتبره رئيس الجمهورية العماد ميشال عون المدخل الحقيقي لعملية الإصلاح والمضي في مسيرة مكافحة الفساد في البلاد. ولعل ما يبرر السؤال "تاريخ" البحث في عملية التدقيق منذ آذار (مارس) 2020 حين أقر مجلس الوزراء بدء التدقيق لكن التوقيع على الاتفاق مع شركة "الفاريز ومارسال" انتظر نحو خمسة اشهر حتى اصبح واقعاً وعندها انطلقت عملية المد والجزر تارة في ما يتعلق مع الشركة نفسها، وتارة أخرى في ما يتعلق بقانون السرية المصرفية والتذرع به لعدم تسليم المعلومات والبيانات المطلوبة من قبل الشركة للقيام بواجبها. وفتح جدال عما اذا كان القانون يعيق فعلاً التدقيق الجنائي ام انه ذريعة للتهرب، الى ان "هشلت" وأنهت شركة "الفاريز ومارسال" في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي الاتفاقية الموقعة مع وزارة المال للتدقيق المحاسبي الجنائي، لعدم حصولها على المعلومات والمستندات المطلوبة للمباشرة بتنفيذ مهمتها، وعدم تيقنها من التوصل الى هكذا معلومات، حتى ولو أعطيت لها فترة ثلاثة اشهر إضافية لتسليم المستندات المطلوبة للتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان.
وبعد هدر فترة 6 اشهر من الوقت في السجالات والمزايدات السياسية، اقر مجلس النواب ما كان يجب عليه اقراره قبل توقيع أي عقد للتدقيق الجنائي في مصرف لبنان، اقتراح القانون المعجل المكرر الرامي الى تعليق العمل بالسرية المصرفية لمدة سنة، عبر دمج 4 اقتراحات مقدمة من كتل "التنمية والتحرير" و"الجمهورية القوية" و" اللقاء التشاوري" والنائب فؤاد مخزومي.
واعتبر رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان، ان المجلس النيابي اثبت جديته بالتدقيق الجنائي، وترجم طلب رئيس الجمهورية قانوناً. وجرى السير برفع السرية المصرفية لسنة، ليشمل التدقيق الجنائي مصرف لبنان والوزارات والإدارات العامة.
حسابات المصارف..
وبعد أيام قليلة كانت شركة "الفاريز ومارسال" تبدي رغبتها بالعودة الى التدقيق بعدما أزال قانون تعليق السرية المصرفية العقبة الأساسية التي واجهتها في عملها ما اضطرها الى الاعتذار. وتكرست عودة الشركة في اجتماع عقد في قصر بعبدا اعلم خلاله وزير المال غازي وزني رئيس الجمهورية عن رغبة "الفاريز" بالعودة الى التدقيق ونال تفويضاً من الرئيس عون لمتابعة التنسيق مع الشركة للانطلاق بعملية التدقيق وفق الأسس الجديدة ، مع العلم ان بعض الحقوقيين كان يعتبر ان حسابات الدولة مكشوفة أساساً ولا تحتاج الى سند قانوني لرفع السرية عنها، فيما كان لمصرف لبنان وجهة نظر أخرى تقول إنها تصير تلقائياً مشمولة بالسرية المصرفية فور دخولها حسابات مصرف لبنان وحسابات المصارف الخاصة حيث انفقت المليارات تحت عنوان الهندسات المالية. الا ان ثمة من رأى من الحقوقيين ان تعليق قانون السرية المصرفية عن حسابات مصرف لبنان لاعمال التدقيق الجنائي يجب ان يشمل حسابات المصارف في مصرف لبنان معتبراً ان تعليق القانون لمدة عام لن يكون كافياً لاتمام اعمال التشريح الجنائي المالي خصوصاً انه يقتضي الاتفاق مجدداً مع شركة متخصصة، مما سيستغرق أسابيع عدة في حال حدوثه فعلاً. بالإضافة الى ذلك، فإن المعنيين بالتشريح الجنائي المالي لا يقتصرون على مصرف لبنان، بل ان الاعمال المذكورة تشمل الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة والمجالس والصناديق. وتخوف حقوقي مطلع على الملف من ان تبرز معوقات تقنية أخرى مفتعلة، بسبب عدم توافر الإرادة السياسية العارمة، ليس برفع السرية المصرفية بل برفع الحمايات السياسية عن زبائن الجماعات السياسية في الإدارات والمؤسسات العامة.
وحذر المحامي نزار صاغية، المدير التنفيذي لــ "المفكرة القانونية" ان يكون إقرار القانون مجرد خطوة استعراضية... اما التطبيق هو أمر آخر، وأوضح ان القانون "يتيح التدقيق الجنائي فعلاً، لكن شرط ان تقر الحكومة التدقيق وتكلف شركة جديدة بالأمر من دون مماطلة". وأشار صاغية الى إشكالية أساسية في القانون، تكمن في تعليق السرية المصرفية لمدة عام، وأوضح انه "في حال صدر تقرير التدقيق الجنائي بعد عام، ووصلنا به الى المحكمة، سنعود الى الإشكالية ذاتها مع إعادة العمل بالسرية المصرفية".
في غضون ذلك، لفت موقف متقدم لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي اتهم بعرقلة التدقيق وعدم تسليم المستندات المطلوبة، اذ قال بعيد صدور قانون تعليق السرية المصرفية انه كان ضرورياً "لأننا كنا نريد ان يحصل تدقيق جنائي من دون مخالفة القانون". واكد سلامة ان مصرف لبنان سيسلم بعد ان سلم حساباته الخاصة، حسابات الآخرين الموجودة لدى المصرف التي تخص القطاع العام والدولة، وأيضاً حسابات المصارف تبعاً لطلب المدققين، ما يفترض ان يزيل أي التباس حول ان يسلم ما حجبه سابقاً عن شركة "الفاريز اند مارسال"، وقال: "تبين اننا على حق لأن مجلس النواب شعر أيضاً انه من واجبه إقرار القانون، وبالتالي لم نكن نضع حججاً انما قلنا : لا نريد مخالفة القانون". وذهب سلامة في مقابلته مع "فرانس 24" الى حد التأكيد بأنه "من اصل مليار و 600 مليون دولار خرجت بين 17 تشرين الأول وآخر 2019، هناك مليار دولار من اللبنانيين او الزبائن في المصارف اللبنانية حولت الى الخارج والتحقيق الذي بدأ سيركز على هذا المليار وسندخل في التفاصيل".
... والنص الملتبس
في أي حال، بين مسار التفاوض المستجد والالتزام الصريح الذي اعلنه سلامة يسلك التدقيق الجنائي مساراً قد لا يكون بالضرورة ميسراً في ظل الازمة الحكومية واضطرار الحكومة المقبلة الى تغطية العقد المعدل او العقود مع شركات جديدة اذا تعذر المضي في الاتفاق مع "الفاريز" إضافة الى الموانع "العملانية" التي قد تعرقل عملية تدقيق مالي وجنائي قد تضع رؤوساً كبيرة داخل السجون. وفي هذا السياق يرى مطلعون ان القانون الصادر عن مجلس النواب في 21 كانون الأول (ديسمبر) الماضي يسوده الالتباس خصوصاً انه لم يتضمن نصاً صريحاً حول حسابات المصارف والقطاع الخاص في مصرف لبنان والتي كانت السبب الأساس الذي دفع شركة التدقيق الأميركية الى الانسحاب. ونص القانون المذكور على الآتي: "يعلق العمل بقانون سرية المصارف وجميع المواد التي تشير اليه لمدة سنة واحدة تسري من تاريخ نشر هذا القانون، وذلك في كل ما يتعلق بعمليات التدقيق المالي و(او) التحقيق الجنائي التي قررتها وتقررها الحكومة على حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة أياً تكن طبيعة هذه الحسابات ولغايات هذا التدقيق ولمصلحة القائمين به حصراً كما جاء في قرار مجلس النواب في جلسته المنعقدة بتاريخ 27-11-2020 ويشمل مفعول التعليق كل الحسابات التي تدخل في عمليات التدقيق، وتبقى احكام قانون سرية المصارف سارية في كل ما عدا ذلك".
ويكشف مطلعون ان كلمة "بالتوازي" سقطت من القانون علماً ان كتلة الرئيس نبيه بري كانت أصرت على وجودها بهدف اخضاع حسابات مصرف لبنان وكافة الإدارات والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق بالتوازي للتدقيق الجنائي، كما لم يتضمن القانون إشارة بالاسم الى البلديات. ويرى البعض ان عدم ذكر كلمة "بالتوازي" قابلته الفقرة الملتبسة حول "بقاء سرية المصارف بكل ما عدا ذلك".
ويطرح المطلعون السؤال : هل شركة التدقيق نفسها امام نص ملتبس يؤدي الى "تهشيلها" مجدداً او أي شركة تدقيق أخرى؟.