بقلم علي الحسيني
لم يعد الانتحار يقتصر على حـــــالات فرديــــــة كأن يــــــرمي الشخص نفســــه من على علو شاهق او تنـــــاول كميـــــة من العقاقير وإطلاق الرصاص على النفس، فبالأمس شهد العالم عملية انتحار نفذها طيار بحق نفسه وبحق ركاب آخرين كتب لهم القدر ان تكون رحلتهم الاخيرة.
أثـــار سقوط طائرة <جيرمان وينغز> المتفرعة من شركة <لوفتهانزا> الألمانية الاسبوع الماضي في منطقة جبال الألب الفرنسية الجبلية، حالة ذعر عامة في انحاء العالم كافة خصوصاً بعد تسريب معلومات عن التحقيقات الاولية تفيد أن مساعد الطيار <أندرياس لوبيتس> تعمّد إسقاط الطائرة التي قضى معه فيها مئة وخمسين راكباً معظمهم من الطلاب.
من هم أول الطيارين الانتحاريين؟
يعود تاريخ أول عمليات انتحار لطيارين الى زمن الحرب العالمية الثانية أبطالها طيارون يابانيون كانوا نفذوا هجمات انتحارية بطائراتهم المحملة بالمتفجرات وبخزانات الوقود المملوءة ضد سفن الحلفاء في المحيط الهادي عند مرفأ <بيل هاربور>، بهدف إغراق أو إلحاق الضرر بأكبر كمية ممكنة من السفن وخاصة ناقلات الطائرات، وقد أطلق على هؤلاء الطيارين لقب <كاميكاز> وهي كلمة يابانية تعني الرياح الإلهية، ومنذ ذاك التاريخ أصبحت كلمة <كاميكاز> تدل على كل العمليات التي يضحي فيها منفدها بنفسه بشكل طوعي من أجل تحقيق هدف ما يعتبره صاحبه حقاً طبيعياً له منحته إياه الطبيعة او التركيبة البشرية لكن بشكل بعيد كلياً عن تعاليم الديانات وتطبيق الشرائع السماوية او المعتقدات الروحية.
أسئلة مشروعة حول الانتحار
تغيير مفاجئ طرأ في التحقيق بشأن حادثة تحطم الطائرة الالمانية أثار عدة تساؤلات: لماذا ينتحر مساعد طيار شاب رياضي لم يتجاوز الثامنة والعشرين من عمره؟ لماذا لم يفعل ذلك وحده؟ ولماذا أراد أن يموت معه أصدقاءه أفراد الطاقم والركاب الـ 144؟ ولماذا أراد أن يلحق الضرر بالطائرة وبالشركة أيضاً؟ وهل للموضوع اي علاقة بالعمليات الارهابية التي تحدث بين الحين والآخر عبر الطائرات والتي كان آخرها العملية الشهيرة التي تبناها تنظيم <القاعدة> ضد أحد أهم الابراج التجارية في اميركا وضد مركز <البنتاغون>؟
حطيط لـ<الأفكار>: الطيار يخضع لفحوصات شاملة
بداية يعتبر الطيار اللبناني المتقاعد عبد المنعم حطيط أن شركة بحجم <لوفتهانزا> وهي إحدى أهم شركات الطيران في العالم، ليس من المفروض ان تتعرض لمثل هذا الحادث خصوصاً انه وكما هو معروف فإن طياري هذه الشركة او شركات أخرى يتم اختيارهم بدقة متناهية ومن ثم يخضعون لفحوصات طبية ونفسية بين الحين والآخر، وأي شخص تنكشف لديه مشكلة سواء جديدة او قديمة لا يتم قبوله في سلك الطيران. ويؤكد حطيط انه بعيد إجراء عملية اختيار الطيارين يتم وضعهم تحت اختبار نفسي شديد لمعرفة مدى تحملهم حجم الضغوطات التي يمكن ان يقعوا تحت تأثيرها، فيتم وضع الشخص داخل غرفة محكمة تشبه الى حد قريب قمرة قيادة الطائرة ومن ثم يبدأ فحصهم على الشكل التالي: التفت نحو اليمين، الى اليسار، الى الاسفل، الى الاعلى، إضغط على هذا الزر، إرفعه ثم أدره الى اليمين ثم الى اليسار، وهكذا دواليك الى ان يُنهي امتحانه من دون تذمّر او اعتراض.
ويضيف حطيط: بعد سنة ونصف السنة من الدراسة في معهد الطيران نخضع لعلوم نظرية بالإضافة إلى دراسة لعشر مواد تقريباً وهنا تزداد حجم الضغوطات بحق الطيارين، وكثيرون منهم يتوقفون في تلك الفترة عن متابعة دراستهم ويقررون الانسحاب نتيجة الضغوط العملية والدراسية، كما أنه يتم إخضاع الطيارين لفحص شامل لدى طبيب اختصاصي في علم الطيران كل ستة أشهر. ولكن رغم كل هذه الضغوطات والامتحانات التي يمر بها الطيارون تبقى عملية المراقبة التي تقوم بها إدارة الطيران لكل حركات طياريها الوسيلة الأفضل لمنع حصول عمليات انتحار او ما شابه.
اختلف مع زوجته فانتحر بطائرته
السؤال الأبرز هو: ماذا عن المشاكل الحياتية التي يتعرض لها الطيار؟
يجيب حطيط: قد يمر اي طيار خلال حياته الطبيعية بوضع خاص تماماً كما حصل ذات مرة مع طيار أوروبي اختلف مع زوجته، وأثناء طيرانه قرر ان يجنح بها نحو منطقة سكانية ليقتل نفسه ومن معه من الركاب. الطيار بالنهاية هو انسان مثله مثل بقية الناس، وقد تحصل معه مشاكل او يتعرض لضغوطات نفسية، لكن يبقى الاساس في عملية تنقية هؤلاء الطيارين، فمن لديه ضعف منذ البداية لا يجوز اختياره ليصبح طياراً حتى لو تم شفاؤه لاحقاً. وفي تقرير سري تبين ان الطيار الالماني الذي انتحر مؤخراً كان قد بدأ يتعلم الطيران في العام 2008 ثم توقف في العام 2009 لأسباب قيل انها نفسية وانه قد خضع لعملية علاج لفترة طويلة. ومن هنا لم يكن يجدر بالشركة إعادته الى عمله خصوصاً وانه مساعد طيّار مسؤوليته تتكامل مع مسؤولية قبطان الطائرة.
هل كان بالإمكان منع الكارثة؟
يقول حطيط: بعدما كانت جرت في الثمانينات عمليات خطف للطائرات قررت منظمة الطيران المدني الاميركية القيام بمشروع يحتم على جميع شركات الطيران اعتماد نقطة حماية محكمة عبارة عن باب متين يفصل بين قمرة القيادة وجناح الركاب منعاً لدخول اي شخص الى القمرة من دون استئذان، ويومئذٍ جرى تصنيع أبواب الكترونية من الفولاذ يمكن فتحها من داخل القمرة ومن خارجها فقط عبر رمز سري يحتفظ به طاقم الطائرة من طيارين ومضيفات لفتحه في حال أرادوا الدخول الى القمرة المزودة بشاشة صغيرة تمكن الطيار من مشاهدة كل ما يحدث في الخارج.
لكن لماذا لم يتم إنقاذ الطائرة لحظة هبوطها؟ فيجيب حطيط: يوجد داخل قمرة القيادة كبسة زر لتشغيل الباب الفاصل وهو يعمل على الشكل الآتي: الى الامام يعني <إغلاق> بحيث لا يعود هناك اي مجال لفتحه إلا من الداخل، الى الوسط يعني <عادي> إذ يمكن التحكم به من داخل القمرة او من خلال استعمال الرمز السري من الخارج، أما الى <الوراء> فهذا يعني انه مفتوح لمن يريد الخروج او الدخول.
كيف حصل الانتحار؟
يشير حطيط الى انه بعد بلوغ الطائرة ارتفاع 38000 قدم تقريباً 12000 ألف متر دخل القبطان الى المرحاض وأثناء خروجه ضغط مساعده على زر الاغلاق، ومن ثم بدأ يتجه بالطائرة نزولاً، وسرعة الهبوط هنا تخضع للسرعة التي يقررها القبطان. وفي الطائرة الالمانية يقال ان مساعد الطائرة وضع السرعة 3600 قدم بالدقيقة وهو على ارتفاع 38000 قدم، يعني كان بحاجة تقريباً الى احدى عشرة دقيقة ليرتطم بسطح الارض. الركاب في تلك اللحظة لا يشعرون بهبوط الطائرة خصوصاً وأن زمن إقلاعهم لم يكن ببعيد، لكن في هذه اللحظة شعر الكابتن الموجود في المرحاض ان الطائرة تسير نزولاً فخرج مسرعاً نحو الباب الفاصل ليفتحه من خلال الرمز السري لكن مساعده كان قد أقفله من الخارج، فظل يطرق الباب حتى انهم استعانوا بقطعة حديد لكن جميع محاولاتهم فشلت، وبحسب التسجيل بدأ الركاب يصرخون بعدما لاحظوا قربهم من الغيوم ومن جبال الألب لكن الطائرة دُمّرت بشكل كامل.
من هنا بدأت التحقيقات
من المعروف أنه وعند كل عملية سقوط طائرة في اي مكان، يتم البحث أولاً عن <داتا> المعلومات او ما يعرف بالصندوق الاسود، مع العلم ان لونه برتقالي. هذا الصندوق بعد تفريغ محتواه يمكن معرفة الاسباب التي أدت الى سقوط الطائرة والى الأحاديث الأخيرة التي جرت على متنها سواء بين الركاب او داخل قمرة القيادة.
( Voice data recorder ) أو صندوق التسجيل يمكن من خلاله معرفة الاحاديث التي دارت على متن الطائرة منذ ما قبل إقلاعها ولغاية اللحظات الاخيرة من سقوطها. (flight data recorder) أو المعلومات المتعلقة بطبيعة الطيران، وهذا يقوم بتسجيل حركة الطائرة مثل السرعة والهبوط والارتفاع وجميع الاعطال التي يمكن ان تطرأ على الطائرة. أما الحديث عن فرضية تعرض مساعد الطائرة الى أزمة قلبية جعلته يضغط عن طريق الخطأ على زر الاغلاق، تقول التحقيقات ان التسجيل الصوتي الذي تم العثور عليه بعد الحادثة مباشرة، بين ان حركة تنفس المساعد كانت بحالة جيدة وان النوبة القلبية لا يرافقها تنفس طبيعي.
كيف تعاملت <الميدل ايست> مع حالات مماثلة؟
يعود حطيط ليؤكد ان مساعد الطيار هذا لو كان ضمن شركة <الميدل ايست>، لما تمّ السماح له بالطيران، ويتذكر ان شكوكاً في السابق حامت حول أكثر من شخص بأنه مريض نفسياً وجرى توقيفهم عن العمل ولكن بطريقة محترمة لا تترك شكوكاً لدى الشخص المعني، فمن أصعب الامور ان تأتي الى احدهم وتقول له أنت موقوف عن العمل لأن شبهة مرضية تدور حولك، ولذلك قدمنا لهم مغريات مادية كبيرة مقابل تسريحهم تحت حجة ان الشركة ما عادت تحتمل مصاريف إضافية.
صرخت: النجدة ثم انقطع صوتها
في الواحد والعشرين من آب/ أغسطس العام 1994 تحطمت طائرة مغربية فقضى كل من فيها: الطيار يونس خياطي ومساعدته الأجنبية <صوفيا فوغيغي>، وطاقم من اثنين مغاربة، ومعهم 40 راكباً. وفي التحقيقات أن الطائرة فقدت توازنها بعد 10 دقائق فقط من إقلاعها ليلاً ووصولها الى ارتفاع 16 ألف قدم، ليظهر فجأة على شاشة الرادار أن الكابتن خياطي نفسه انحرف بها الى أسفل كما ينقض طيار على أحد الأهداف العسكرية. كما أكدت التحقيقات من خلال الصندوقين الأسودين ان الكابتن خياطي أوقف الطيار الآلي عن العمل فجأة وأمعن في إسقاطها عمداً حتى حقق ما أراد. ومن بين الركاب الذين لاقوا حتفهم الشيخ الكويتي علي الحمود الجابر المبارك الصباح وزوجته الشيخة معتزة، وقد سمع صوت مساعدة الطيار وهي تستغيث النجدة.. النجدة.. الكابتن يـ.... ثم انقطع صوتها بفعل الارتطام.
كل شيء على ما يرام
.. لكنه انتحر
وفي العام 1997 قرر قائد طائرة اندونيسي الجنوح بطائرته نحو الارض أثناء توجه الرحلة من <جاكرتا> الى <سنغافورة>، فدفع حياته وحياة 97 راكباً إضافة الى طاقم من 7 أفراد، ثمن مأساة كان يعيشها رغب ان يشاركه الآخرون بها. لم يبقَ أحد ممن كان على متن الطائرة حياً، فتمزقت الجثث حين هوى الطيار المنتحر بالطائرة بسرعة قاربت سرعة الصوت، لدرجة لم يتحمل هيكلها السقوط السريع فتفسخ وتشقق وهو في الجو، الى أن انشطرت الطائرة وسقطت على منحدر صخري استقرت بعده عند عمق 8 أمتار تحت مياه نهر <موسّي> بجزيرة <سومطرة> الاندونيسية. وبعد العثور على الصندوق الأسود كان خالياً تماماً من اي تسجيل لاستغاثة، وثبت انه تم إيقافه عن التسجيل قبل 5 دقائق من سقوطها من فعل متعمّد لتعطيله، ما عدا هذا الحديث القصير بين الطيار ومساعده، <سأخرج قليلاً لأشرب كوباً من الماء فهل تريد أن أحضر لك شيئاً؟ رد المساعد شكراً، كل شيء على ما يرام>.
سرق الطائرة ثم قتل نفسه
منذ سنوات قتل طيار يدعى <بريان هيدجلين> صديقته بعد شجار معها ثم توجه الى مطار في ولاية <يوتا> الاميركية، فتسلق السياج الأمني في وقت مبكر مستخدماً قفازات وصعد إلى طائرة تابعة لشركة كان يعمل بها <سكاي ويست ايرلاينز> ثم تحرك بها مجتازاً سياج المطار إلى داخل مرآب ثم أطلق النار على نفسه. وقالت الشرطة إن محركات الطائرة كانت لا تزال تعمل عندما صعدت مجموعــــة مــن ضبــــاط الشـــرطة اليهــــا ووجدوا <هيدجلين> ميتاً بداخلهـــا، اما الشركة فقد كشفت أن الطيـــار كان أوقف عن العمـــل بعد أن بدأت الشرطة البحث عنه لصلته بقتل امرأة.