بقلم سعيد غريب
<لا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين>... هذا ما تقوله بالحرف الفقرة <ط> من مقدمة الدستور اللبناني الذي أضيفت إليه بموجب القانون الدستوري الصادر في 21/9/1990
ماذا تعني هذه الفقرة عملياً؟
تعني ان الكلمات الثلاث متلازمة، بحيث تسقط تلقائياً إذا سقطت واحدة منها. تعني بشكل واضح ان الواحدة لازمة للأخرى، بحيث يصبح التقسيم مثلاً أمراً مشروعاً في حال تم التوطين بصورة مشروعة!
لماذا هذا الكلام اليوم؟
الكلام فقط للتذكير والتحذير مما يحضّر للمنطقة ومن ضمنها لبنان الذي لم يعرف الاستقرار منذ وجود الخارطة الدولية.
ان الحقيقة التي لا مراء فيها هي ان المجتمع اللبناني بعد سبعة عقود ما زال منقسماً الى أفرقاء وان خطوط التمايز بين بعض أبرز هؤلاء ما زال يغلب عليها الطابع الطائفي والمذهبي.
ان الطائفية هي المشكلة الأم التي تتفرّع منها أكثر منطلقات الأزمة اللبنانية وتشعّباتها ومضاعفاتها في أبعادها الداخلية، هي المشكلة التي صدعت الجبهة الداخلية وأحدثت فجوات في جدران البيت اللبناني تسرّبت من خلالها عوامل التفجير من الخارج، وأبقت على أفخاخ ثلاثة: التجزئة والتقسيم والتوطين.
وللواقعة التي سأسردها عبرة وقيمة إضافية تركها أحد كبار لبنان الذين نبحث عن بدائل لهم <بالسراج والفتيل>: عشية سقوط الدامور، وكانت ليلة من ليالي كانون الثاني/ يناير الباردة، والليلة الأخيرة للرئيس كميل شمعون على أطلال قصر السعديات، سأل المسؤول الأمني المولج حماية الرئيس كميل شمعون: <ماذا سيحلّ بنا وبلبنان يا فخامة الرئيس؟>.
أجابه الرئيس المضاءة وجنتاه بنور الشموع: <خلّي عينك على العراق>...
للوهلة الأولى خُيّل للسائل ان الرئيس شمعون (البالغ 76 عاماً) بدأ يتسلل إليه الخرف، <ما دخل العراق؟ يا فخامة الرئيس... أنا أسألك عن لبنان>.
وبسرعة البديهة الذي اشتهر بها الرئيس شمعون قال له: <أنا مش خرفان>، سألتني فاسمع:
قلت لك ابقِ نظرك صوب العراق لأن ما سيحدث في العراق سينسحب على مختلف الدول العربية المجاورة.
فإذا تقسّم العراق، ستتقسّم دول المنطقة تباعاً، وإذا بقي العراق موحّداً ستبقى دول المنطقة موحدة أرضاً وشعباً.
سأله: ولكن الذي ينقسم اليوم هو لبنان يا فخامة الرئيس، والعراق يضخ نفطاً ويضج بالسيّاح... فأجاب:
- لا، التقسيم يبدأ من فوق الى تحت، أي من الكبير الى الصغير.
قصة عمرها تسعة وثلاثون عاماً، وتسألون: لماذا نعيش في الماضي ونفتقد كباراً رحلوا؟
وبعد هذه الرواية، نسأل أنفسنا: هل تعلمنا من التاريخ؟
الفيلسوف الألماني <Emmanuel Kant> أجاب عن السؤال بعبارة هي خلاصة التجربة الحضارية: <ان التاريخ يعلّمنا - أيضاً - اننا لا نستطيع أن نتعلم منه شيئاً>.
والمؤرّخ البريطاني <أرنولد توينبي> سُئل: هل صحيح ان التاريخ يعيد نفسه مع شعب من الشعوب؟ فأجاب: <نعم، لأن الشعب الفاشل مثل التلميذ الفاشل، فكما ان التلميذ الفاشل يسقط في الامتحان الأول ويسقط في الامتحان الثاني، هكذا يحدث للشعب الفاشل، يسقط في امتحان التاريخ مرة ومرتين، وهكذا يعيد التاريخ نفسه...>.
اليوم، وبعد اثني عشر عاماً على اجتياح العراق وما حلّ به من تفتّت وكوارث، وبالدول العربية المجاورة والبعيدة من خراب ودمار، يعود السؤال ليُطرح بقوة: هل يتقسم العراق بصورة نهائية ورسمية، وتتقسم معه دول المنطقة وفي مقدمها سوريا وبعدها يجيء دور لبنان؟
وهل لبنان بلد في وسعه تحمّل هذا الحل الكارثي؟ أم يختارون له التجزئة؟ لا شيء محسوماً حتى الساعة، ولكن الأكيـد ان لبــنان لم يسـعَ يومـــاً الى حلّ لمشكلته المزمنة، ولم يبحث في أحسن الأحوال عن تسوية تضمن له استقراراً نسبياً يــــدوم بضع ســـنوات تسمح له باستعادة أنفاسه...
إنه ينتظر تظهير الصفقة التي تتم بين واشنطن وطهران، لربما نتج عنها انتخاب رئيس للجمهورية.
ومما لا شك فيه أن اللعب بالاستحقاق الرئاسي وتحديداً في أيلول/ سبتمبر 1988 خلخل الموقع الاول في الدولة وأفرغه من محتواه وقوته ووضعه تحت رحمة القرار الدولي والإقليمي المشترك، وأصبح الشغور بمنزلة الملء وجو الفراغ سيد الموقف.
أما المواطن العربي من المحيط الى الخليج، فبات مع استمرار الربيع الدموي متخوّفاً ليس على الأرض المحتلة في فلسطين وغيرها فحسب، بل أيضاً على <الأراضي الحرّة>...
ماذا يحدث فيها الآن، وماذا سيحدث لها في المستقبل، ومن يحميها الآن، ومن سيحميها في المستقبل؟
من يحكمها الآن وكيف؟
ومن سيحكمها في المستقبل وكيف؟
وفيما تتكرّس الصورة القاتمة للوضع العربي، تستمر اسرائيل في محاولاتها لفرض تفسيراتها للحكم الذاتي مع استمرار ممارسة ما يمكن اعتباره حق الرقابة على السياسة الاميركية في المنطقة.