تفاصيل الخبر

نبض بيروت الثقافي خافتٌ بفعل الانفجار: فهل يعود طبيعيّاً ومن يدعم؟

16/09/2020
نبض بيروت الثقافي خافتٌ بفعل الانفجار: فهل يعود طبيعيّاً ومن يدعم؟

نبض بيروت الثقافي خافتٌ بفعل الانفجار: فهل يعود طبيعيّاً ومن يدعم؟

بقلم عبير أنطون

[caption id="attachment_81179" align="alignleft" width="200"] غايا فودوليان ..ليتيسيا آرت غاليري.[/caption]

تشكّل بيروت بفضاءاتها الثقافية من ستوديوهات ومحترفات رسم وغاليرهات عرض للّوحات والتجهيزات، نبض العاصمة الذي يزخر بمختلف أنواع الثقافات والحضارات والرؤى، هي التي شهدت بعد الحرب تزايداً مضطرداً في عددها، بشكل خاص في محيط المرفأ الذي خذلها وأشعل فيها الدخان والدمار. فما هي أبرز الغاليريهات التي تضرّرت في هذه البقعة الحيويّة للتفاعل والفنون؟ هل ستطول غيبتها عن المشهد الثقافي؟ وهل بينها من استعاد نفسه ولو من "حطام الروح" كما تقول ماجدة الرومي في أغنيتها "سقط القناع"؟

وردة ليتيسيا..

غايا فودوليان في مسكنها في الأشرفية، كانت الشهيدة الأولى لمرفأ بيروت بين أصحاب الغاليريهات والعاملين فيها، حاملة معها حلم والدتها في جعل

[caption id="attachment_81180" align="alignleft" width="164"] فراس دحويش الموظف في غاليري اجيال الذي قضى في انفجار المرفأ.[/caption]

" ليتيسيا آرت غاليري" الذي كانت تديره غايا في قلب الحمرا، على صورة الشارع وعاصمته تتلاقح فيه التجارب والأفكار الجديدة. الغاليري الذي افتتح أبوابه في العام 2017، كمساحة للفنّ المعاصر، أسسه محمد الحمود وأنّي فارتيفاريان بهدف تشجيع المشاركة العالمية في الفنّ المعاصر في لبنان من خلال تحديد سياق الفنّانين المحليّين والعالميّين وأعمالهم في البيئة الفنيّة العالمية، وعبر تقديم مجموعة متنوعة من الوسائط بما فيها الاكريلية الحديثة، بحيث تكون هذه المساحة الثقافية شبكة اجتماعية للتواصل واللقاء بين الفنانين والمصممين والعملاء ومساحة فنية مزدهرة مركزها بيروت.

وليس بعيداً عن غايا، قضى فراس دحويش متأثراً بالجراح التي أصيب بها بعد أن صودف مروره في منطقة بشارة الخوري لحظة وقوع الانفجار، وطاله عصف الحجارة والمواد الثقيلة التي سقطت من واجهات المباني واللافتات الإعلانية في الشارع. وبعد دخوله العناية المركزة لفترة أسلم الروح. دحويش كان التحق منذ سنة 2000 بـ"غاليري أجيال" في الحمرا وانضمّ للعمل في "غاليري صالح بركات" لدى افتتاحها في العام 2016، فكان جزءاً من عائلة الغاليري كما يقول بركات صاحب الغاليري التي تضررت صالتها وتحطم زجاجها.

تانيت ..والمرفأ إلى فودوليان ودحويش، إنضمّ المهندس الفرنسي جان مارك بونفيس الذي صمّم عدة مبان بينها غاليري "تانيت" التي تقع في مبنى "إيست فيليدج"

[caption id="attachment_81177" align="alignleft" width="158"] جان مارك بونفيس مهندس ايست فيلاج وتانيت.[/caption]

وقضى فيه أيضاً. غاليري "تانيت" أرادته مؤسسته نايلة كتانة، مساحةً مميزة لتلاقي الفنون وتفاعلها، وهي اليوم تقول "المهم أن نعيش"، شارحة بأسى "لا يمكنك تخيل رائحة بيروت. لا يزال هناك غبار من الزجاج"، مشيرة الى أن أحد موظفيها أُصيب بجروح بالغة في الانفجار، والمعرض دُمِّر بالكامل ويحتاج إلى إعادة بناء من الألف إلى الياء، بحيث يعاد تركيب جدران جديدة وإصلاح أنظمة الكهرباء والتكييف وتنظيف شظايا الزجاج المتناثرة، مضيفة الى أنه تمّ التبرع بها لأغراض إعادة التدوير لمنظمة "أركسنسيل" المحلية التي لا تتوخى الربح. وكانت الغاليري الكائنة في منطقة مار مخايل، شكرت كلّ من اطمأن على مقرّها وناسها بالقول: "كما يمكنكم أن تتخيّلوا، بدأنا للتو في التغلب على الصدمة. في الأيام الأولى التي أعقبت الانفجار، شعرنا بالارتباك بفعل الأضرار واضطررنا إلى دفن أصدقاء جيدين، ورعاية الجرحى، والدمار الذي لحق بالغاليري والبدء في التخطيط لأعمال التنظيف"، ولفتت إلى أنّه "على الرغم مما حدث لنا، نحن مصممون على إعادة البناء ومواصلة عملنا"، في نية للغاليري بالتصميم على النهوض مجدداً .

من رفاة وردة ..الى شجرة صامدة

ففي حين كان الغاليري يحتضن يوم الانفجار معرض الفنان اللبناني عبد القادري بعنوان "رفاة آخر وردة حمراء على وجه الأرض"، ها هو يطلق اليوم من حيث دُفنت لوحات معرضه الفردي، مبادرة تحت عنوان: "أودُّ اليومَ أن أكونُ شجرة"، ليشكّل، بحسب الفنان، موقفاً مواجهاً للدمار الذي خلّفه انفجارمرفأ بيروت، وَمساهمة في إعادة بناء وَترميم المنازل المتضررة، مؤكداً أن هذا العمل هو في المقام الأول تكريم لذكرى المعماري اللبناني الفرنسي، الصديق جان مارك بونفيس الذي كان لهُ دورٌ خلّاق ومحوريّ في إحياء تراث لبنان، وبناء معالم مبتكرة ومعاصرة لِبيروت الحبيبة. كما أنه تكريم لجميع الأشخاص والأصدقاء الذين وقعوا ضحية هذه المجزرة. ويزيد القادري شارحاً بأنّ العمل الجديد الذي يديره مارك معركش، يتألّف من جداريتين مقسمتين إلى ثمانين رسماً من الكرتون مقاس الواحدة 100 × 70 سم، رسمها لتكون معروضة حتى 25 أيلول/سبتمبر 2020 في غاليري تانيت، بحيث يكون كلّ جزءٍ من هذا العمل الضخم متاحاً للشراء بسعر يبدأ من 500 دولار أميركي (يتم بيعه في الأصل بسعر 3000 دولار أمريكي لهذا الحجم)، وبحيث يعود ريعُ بيعه إلى مؤسسة "بسمة" للتنمية الاجتماعية، وهي منظمة ملتزمة بإعادة بناء وترميم منازل العاصمة الأكثر تضرراً جراء الانفجار. وعن تسميته الغريبة للمشروع "اردت اليوم أن أكون شجرة" يشرح القادري أنّه "بعد أسبوع من الانفجار حلمت أن المعرض قد ازدهر بالأشجار..اليوم ، هذا الحلم يتحقق. هذا أقل ما يمكنني فعله والطريقة الوحيدة للهروب من الصور المدمرة التي ما زالت تعصف بعقلي ليلاً ونهاراً..إنه رد فعل بنّاء على الشعور بالاختناق. سواء كان ذلك الاختناق بسبب الوباء، أو الوضع الاقتصادي والسياسي في لبنان، أو جراء أكبر انفجار غير نووي في العالم. عند محاولتي رصدَ الألم الذي يحيط بي، لطالما راودتني فكرة متكررة: تمنّيتُ لَو أكونُ شجرة"! يُذكر أيضاً، أن مؤتمراً صحفياً عُقد داخل غاليري "تانيت" لإطلاق مبادرة بيروت التراثية ، والتي ستقود جهود ترميم المباني التاريخية المدمرة. وغاليري المرفأ؟!

[caption id="attachment_81178" align="alignleft" width="375"] غاليري المرفأ ..[/caption]

غاليري المرفأ من ناحيته تدمّر بشكل كامل وتعرّض لضربات شديدة حيث سقطت الجدران وتضررت الأعمال الفنّية وتهدمّت المكاتب، ولحسن الحظ أنّ صاحبة الغاليري جمانة عسيلي وفريقها كانوا بعيدين، ونجوا بالصدفة. وعن العودة والتفكير بها بعد وقوع شهر على الحدث الاليم ، تقول عسيلي: "الأمر صعب للغاية ومؤلم. في الأيام الأولى، كنا في حالة صدمة كاملة وفي وضع البقاء على قيد الحياة. لكن الآن بعد أن حاولنا معالجة ما حدث، لسنا على ما يرام.." وكانت عسيلي أعربت بذهول: "كل هذه السنوات كنا نعمل وننظّم معارض فنية، 500 متر بعيداً عن قنبلة شبه نووية قد تنفجر في أية ثانية، ولم نكن نعلم". بالنسبة اليها، وكما هو الحال مع أي تجربة مؤلمة، سيستغرق التعافي وقتاً وصبراً ودعماً. "علينا أن نستعيد أرواحنا ونجد أنفسنا مرة أخرى.. لا يمكننا التوقف - من المهم جداً الاستمرار. هناك شيء واحد أنا متأكدة منه هو أنني سأعيد الفتح، وفي الميناء". وكانت عسيلي في العام 2015 عثرت على مرأبين وجدّدتهما في مساحة فنية موحدة باسم مشاريع المرفأ، وتقع في منطقة الميناء بالمدينة. وعلى الرغم من كل ما حدث، فقد وصفت الميناء بأنه "مكان خاص جداً"، يعمل كبوابة إلى العالم الخارجي، وهو دور تهدف إلى أن يلعبه معرضها أيضاً، ويعزز المواهب الإقليمية الشابة على المستوى الدولي". ايتيل ..مطعونة

في غاليري صفير- زملر في بيروت الذي يقع على بعد كيلومتر واحد من المرفأ، طُعنت بالف سكين من عصف الانفجار لوحةٌ لايتيل عدنان لتتمزق حيث عُلِقت. الفريق لم يصب بأذى بأعجوبة، ولم يكن لديهم أي معرض في ذلك الوقت، لكن المكان دُمر تماماً. وبحرقة كبيرة يضيف فريق الغاليري: ننظرحولنا، وبعد ثلاثة أسابيع اختفت بيروت من عناوين الأخبار، لكن أهلها ما زالوا يتعاملون مع الخسائر والموت والمفقودين والمنازل المدمرة وإصابات مدى الحياة، وسط أسوأ أزمة اقتصادية وصحية تشهدها البلاد على الإطلاق. بفضل النظام السياسي المنهار، يشهد لبنان موجة هجرة جماعية ثالثة، تضخّماً بنسبة 336٪ في عام واحد ، ويعيش أكثر من نصف السكان الآن تحت خط الفقر".

لذلك كان القرار في "هامبورغ"، في ضوء ما نمر به، تغيير برنامجنا المخطط، ونقدم الآن معرضاً بعنوان "شمس صفراء مع الغضب" على أمل التعبير عن احترامنا العميق لبيروت. وتجتمع أعمال ايتل عدنان، وليد رعد، وريان تابت للحديث عن اليوميات التي كانت تتكرر باستمرار طوال النصف الثاني من القرن العشرين. من جهتها وصفت بياتريس صفي الدين، مديرة صالة "مارك هاشم" البيروتية والتي كانت في الصالة اثناء الانفجار ما حصل بأنه مأساة، فقد انفجر حولها كل شيء. الشبابيك والزجاج والأبواب، وتضرّرت بعض الأعمال الفنية أيضاً، وهم اليوم بصدد تنظيف وإصلاح ما دمّر مضيفة "لا أجزم بعودة الحياة إلى طبيعتها، فلا شيء سيعود كما في السابق بعد الآن. خاصة بعد سقوط كل هذه الضحايا". الى ما سبق وذكر من غاليريهات تأثر ايضاً كل من "غاليري جانين ربيز"، و"غاليري أوبرا" الذي يقع في منطقة وسط المدينة المطلّة على الواجهة البحرية، كما تعرّضت غاليري "رميل" و"آرت لاب" لأضرار ماديّة، بالإضافة إلى الأذى في مقرّ"المؤسّسة العربيّة للصورة" في الشارع نفسه، " 56 ارت" و"ارت غاليري" و"غاليري فادي مغبغب" ومحترف النحات رافي توكاتليان، فضلاً عن أمل طرابلسي (صاحبة غاليري ايبروف دارتيست) التي تضرر منزلها ومنازل أولادها، وأوديل مظلوم صاحبة غاليري "ألوان" التي فقدت منزلها وباقة ألوانها في الغاليري التي تلاشت في الحطام في منطقة الصيفي فيليدج في وسط بيروت، حيث توجد ايضاً بعض الغاليريات منها غاليري "مارك هاشم" و"عايدة شرفان" و"روشان"، كما لحقت بعض الأضرار بعدد من الغاليريات الأخرى مثل: "أشكال ألوان- بيروت" و"بيروت آرت سنتر" وغاليري "ايماغوس" ومحترفات عائلة غيراغوسيان ومحترف ومنزل الفنانة والناقدة الفنية لور غرّيب في محيط الـ"ا بي سي" الأشرفية، فيما أصيب أيضاً محترف الفنانة ندى صحناوي التي لطالما عملت على احياء ذاكرة الحرب الأهلية، كما تضررت مكاتب "الدولية للمعلومات" لصاحبها جواد عدره مؤسس متحف "نابو". من يعوّض؟

[caption id="attachment_81181" align="alignleft" width="250"] لوحة ممزقة لايتيل عدنان .. كاليري صفير زملر.[/caption]

مع ثلاثية الوقت والصبر والدعم يعيش أصحاب الصالات الفنية والمحترفات والعاملون فيها على عزم الافتتاح مجدداً. لكن من يمد لهم يد العون، وهل من جهات تقوم بواجبها تجاههم؟ فكرة المساعدة الحكومية مستبعدة اذ "لطالما كان دعم الحكومة اللبنانية لمشهد الفنون المحلية ضئيلاً"، ويطالب بعض اصحاب الغاليريهات بضرورة أن تغطي الحكومة رسوم إعادة بناء صالات العرض والمساحات الفنية ومنازل الفنانين التي تضررت من الكارثة، ويسجل اخرون ان الجيش اللبناني وحده زارهم مجرياً مسحاَ، وطالباً من المستأجرين والمالكين إرسال صور للأضرار. "متى ستحضر المساعدات؟ لا احد يعرف، ومنهم من يعتب: وزارة الثقافة لم ترسل حتى كلمة واحدة ، ولم تقدم حتى التعازي - لا شيء. مضيفين: نحن لسنا شهداء نحن ضحايا! من جانبها، تعمل بعض الغاليريهات هي نفسها على مساعدة الفنانين ومساندتهم. وفي هذا الاطار مثلاً، يحاول غاليري مارك هاشم دعم فنانيه من مقره في وسط بيروت مطلقاً معرض "بونجور بيروت" على الانترنت، ومسلطاً الضوء على اللوحات والمنحوتات التي تشهد على المشهد الفني العالمي في لبنان من الستينيات فصاعداً. الى ذلك تم إطلاق عدد من جمع التبرعات من قبل المنظمات غير الربحية. وقد تعهّد تحالف يضم منظمات فنية وثقافية من جميع أنحاء العالم بتقديم "إسعافات أولية للتراث الثقافي" لمساعدة المتاحف والمعارض الفنية والمؤسسات الثقافية الأخرى التي تضررت. من ناحية اخرى، وفي بيان صدر عنها، تعهّدت 27 منظمة كبرى "ببذل كل ما في وسعها للمساهمة في الاستعادة الكاملة للتراث الذي تضرر في بيروت جراء هذا الانفجار. ومن بين المنظمات الموقّعة على البيان: المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي في البحرين، والتحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع، ومتحف اللوفر في باريس، والمؤسسة الوطنية للمتاحف بالمغرب، والمتحف الوطني الصيني ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، فضلا عن بيان منفصل أفادت فيه منظمة اليونسكو بأنّها ستقود جهود المساعدة الدولية في هذا المجال. في النهاية، يعتبرأصحاب الغاليرهات أنّ عليهم النهوض من جديد والمضي قدماً لأنه جزء من رسالتهم في هذه الحياة، ومهما كان الامر، فإنّ صحة المدينة من صحة صالاتها. هم يثنون على جهود المساندة، لكنّهم يؤكدون في الوقت عينه أنّه عبثاً يحاول البناؤون والمساعدون إن لم تأت المساعدة أولاً من الداخل، وتحديداً عبر إصلاحات على صعيد الوطن ككل، وإلا فـ"اننا سنكون أمام قنبلة جديدة"!