لا يمكن معرفة ما إذا كانت المشكلة هي في <الطائف> كنظام سياسي عصري يناسب لبنان أو في تطبيقه. هذا الدستور الذي أوقف الحرب ينص على تشكيل هيئة لإلغاء الطائفية السياسية ومجلس شيوخ وقانون إنتخاب على مستوى المحافظات ولامركزية إدارية واسعة. وكل ذلك، بالإضافة إلى أمور أخرى عديدة، لم يجرَّب وبالتالي لا يمكن تقييمه. لماذا الإستعجال إذاً في إصدار حكم الإعدام في دستور مبتور ولد وترعرع في ظل وصاية نظام أثبتت الأيام أنه متخلف عن العصر بكل المقاييس؟ وحتى بعد خروج جيش النظام السوري غرق البلد في مستنقع اغتيالات وانقسام سياسي عمودي كان <الطائف> وتطبيقه أولى ضحاياه.
ليس هذا الكلام في معرض الدفاع عن دستور عمره أكثر من ربع قرن ولم يجرؤ أحد على تعديله خلال كل هذا الوقت. ولكن المنطقة دخلت في توقيت نظام إقليمي جديد يستوجب أن يتوصل لبنان بسرعة إلى استقرار دستوري يحفظ له كيانه وإلا أصبح جزءاً من منظومة سياسية تحاصره جغرافياً ولا تناسب تكوينه التعددي.
الحديث عن ضرورة وجود شبكة أمان دستورية يتقاطع مع اتجاهات دولية لا بد أن تنعكس على أحداث المنطقة ومحيطنا وعندنا:
الأول هو التغيير السياسي والجغرافي في شكل الكيانات المحيطة بلبنان وترسيم الحدود الذي يبدو أنه <أوكل> لـ<داعش> حتى تقوم به.
الثاني هو الاتفاق الغربي مع إيران. صحيح أن انعكاساته الاقتصادية والنفطية لن تظهر قبل ستة إلى تسعة شهور على الأقل ولكن مفاعيله السياسية يمكن أن تتبين خلال اسابيع، في سوريا واليمن و... لبنان.
الاتفاق المعلن هو حول المسألة النووية ولكن الاتفاق المضمر هو دور إيران في المنطقة خلال السنوات الآتية.
الثالث هو البلبلة المالية في أوروبا وبالتحديد منطقة <اليورو> التي سيطالها التغيير عاجلاً أو آجلاً لأن القيود التي فرضها الدائنون من المستحيل أن يتعايش معها اليونانيون. وإذا قررت اليونان أن الحرية في جحيم التضخم والعودة إلى <الدراخما> أقل مذلة من سجن التقشف الأوروبي، سترسم خريطة طريق لأي دولة أوروبية متعثرة مثل البرتغال أو إيطاليا. العبرة في اليونان ستكون قدرة الشعب على تحمل كمّ مهول من الضرائب في ظل شح اقتصادي ولمدة طويلة. وإستطراداً ماذا سيكون مصير حوالى ٤٠٠ مليار دولار من الديون وهو مجموع الدين العام اليوناني المتوقع في ٢٠١٧ أي أكثر من ٢٠٠ بالمئة من الناتج المحلي اليوناني؟
الجانب المعلن هو الإجراءات التقشفية ورزمة الإنقاذ المالي ولكن الجانب المضمر هو حجم شطب الديون الذي سيضطر الأوروبيون الى أن يقبلوا به سواء بقيت اليونان في منطقة اليورو أو لم تبقَ.
أثينا وطهران تبعدان عن بيروت حوالى الساعتين. هما عاصمتا الحدث في المرحلة المقبلة. الأولى تمتلك نصف القرار السياسي في لبنان، والثانية حقل تجربة مهم جداً لنا من ناحية التعاطي مع الدين العام مالياً وضرائبياً وتقشفاً وتصدياً لثقافة الفساد.
وهنا لا بد من التركيز على كلام حاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة منذ أيام عن أن لبنان قوي جداً مالياً وأن الودائع المصرفية ناهزت ١٦٠ مليار دولار. لذلك لن يشهد أبداً المظهر اللاإنساني الذي رأيناه في اليونان عندما حددت المصارف سقف السحب اليومي بستين يورو حتى للمسنين والمتقاعدين. ولكن الحاكم أقر أيضاً بضرورة وجود مناخ يعزز الإستقرار حتى يتمكن البلد من الاستفادة الحقيقية من قوته المالية.
هذا الاستقرار لن يتحقق فقط بانتخاب رئيس جمهورية بل يلزمه ورشة دستورية <تصحح> تطبيق <الطائف> وتطوره ليصبح ركيزة دستورية ثابتة في مسيرة البلد الاقتصادية والسياسية.
يمكن أن تكون خطة الطريق الفضلى لذلك كالآتي:
ينتخب العماد ميشال عون رئيساً لسنتين فقط وتكون مهمته الأساسية قيادة البلد لتطوير دستوره. الرجل ما زال يمثل الأكثرية عند المسيحيين والمؤتمن الأول للمحافظة على حقوقهم، وبالتالي على شكل لبنان وكيانه المستقبلي.
تؤلف لجنة دستورية شاملة التمثيل برئاسة الوزير زياد بارود لإقرار الدستور الجديد ثم عرضه على استفتاء شعبي.
تجري انتخابات نيابية ورئاسية على أساس الدستور الجديد.
البلد بحاجة ماسة إلى تعديلات دستورية تحافظ عليه. ليست المسألة هي نسف <اتفاق الطائف> ولكن الكلام عن مؤتمر تأسيسي هو في محله إذا كان الهدف منه تطوير الدستور ليحمي لبنان من عاصفة التغيير الآتية والتي لن تترك أي كيان على حاله.