تفاصيل الخبر

”مذكرات مضيفة طيران“ كتاب فريد من نوعه في العالم العربي...  

15/11/2019
”مذكرات مضيفة طيران“ كتاب فريد من نوعه في العالم العربي...   

”مذكرات مضيفة طيران“ كتاب فريد من نوعه في العالم العربي...  

بقلم كوزيت كرم الأندري

 

رنا السبع: ”كم من قصة حب  كانت تبدأ عند الإقلاع وتنتهي عند الهبوط“!

 

<أهلاً ومرحبا بكم على متن رحلتي القلبية، المتّجهة من أرض بيروت إلى سماء البحث والحرية. سوف تستغرق الرحلة صفحات من أحداث حياتي الجوية، وسنحلّق على ارتفاع قدره حوالى عشر سنوات ميلادية>. ليست هذه مقدمتي أنا لنص المقابلة، بل مقدمة رنا السبع لكتابها الذي قرأت وأحببت <مذكّرات مضيفة طيران>. السماء طموحها مذ كانت طفلة تسمع، من شرفة بيتها البيروتي، هدير الطائرات المقلعة. لم تكن تعرف، يومها، أن النجوم ستناديها. كتابٌ فريد من نوعه في العالم العربي، وربما في العالم، يختصر عشر سنوات قضتها رنا في هذه المهنة التي أخذتها من لبنان إلى مسقط، حيث عملت في <شركة الطيران العُماني>، ثم إلى العالم بأكمله.

ــ رنا، أول خفقة قلب عشتها كانت يوم سمعت من منزلك، هدير الطائرة في الأفق، فاتخذت من شرفة البيت برج مراقبة للطائرات. شعرتِ، تقولين في <مذكرات مضيفة طيران>، بأن قدرك سيكون في الأعالي. هل كان الحلم أجمل من الحقيقة؟

- لا بل كانت الحقيقة أجمل، إلى أن غلب التعب والروتين والملل. مضيفة الطيران، تلك المهنة الحلم للكثير من الأشخاص، ليست كما تبدو من الخارج. هي ممتعة نعم، لا سيما في السنوات الأولى من امتهانها، إلا أنها شاقّة جسديا ونفسيا.

ــ أظن أن من شقائها حالة اللاإستقرار التي تعيشونها، والتي قد تبدو جذّابة في البداية قبل أن تصبح ثقلاً ترزح تحته المضيفة، أليس كذلك؟

- تماما. نعيش في معايير مختلفة لدرجة نشعر فيها أحياناً أننا لسنا كائناً بشرياً طبيعياً! لا تأكلين في أوقات الآخرين ولا تنامين في أوقاتهم ولا تحتفلين بالأعياد في أوقاتهم... برنامج حياتك مختلف كليا عن المسار الطبيعي للأمور. هذه المهنة تأخد منك أكثر بكثير مما تعطيكِ.

ــ هل صحيح أن أغلب المضيفات يفتقدن أشعة الشمس، لذلك غالبا ما تنتهي صلاحية واقي الشمس الخاص بهن بسبب قله استعماله؟

- صحيح! فعندما تصل المضيفة إلى بلد ما صباحاً، تكون منهكة من التعب وترغب في النوم والراحة إذ تنتظرها رحلة العودة. تستيقظ بعد الظهر وتخرج ليلاً. وإن وصلت ليلاً، هناك إحتمال كبير بأن تنتظرها رحلة العودة صبيحة اليوم التالي. هكذا تتوالى الأيام أحياناً قبل أن ترى المضيفة الشمس...

 

<أخ يا بيّي>!

 

ــ البعض يقلل من قيمة هذه المهنة ويعتبر مضيفة الطيران مجرّد خادمة على متن الطائرة، تقدّم وجبات الأكل والشرب للركاب. ألا تزعجك هذه النظرة إلى مهنتك؟

- إنه تصوّر خاطئ تماماً! مضيفة الطيران تتعلم الكثير وتعرف عن ما يدور في الطائرة، ومهمتها الأساسية هي تأمين السلامة وليست الخدمة. تقديم الطعام لم يكن من أساس مهمات مضيفة الطيران، لكن مع تطور الزمن وساعات الطيران الطويلة أُسديت إليها مهمة خدمة الركاب، وهي مهمة نتعلم منها الكثير لا سيما في درجة رجال الأعمال، حيث نتعلم فن المائدة وتزيين الصحون وتناسق المشروب مع نوعية الأكل، إلخ. في ذلك نوع من الثقافة أيضاً، درّبتنا عليه متخصصة تايلندية كانت تدرّب الفتيات المشتركات في مسابقة ملكة جمال الأرض.

ــ تقولين في كتابك إن مضيفة الطيران ليس لديها الوقت، لذا فهي لا تعرف التأقلم.

- وهو كذلك! نحن لا نعرف توالي الليل والنهار، ولا نستوعب أحياناً سرعة الانتقال من طقس شديد البرد إلى حرارة خانقة، ولا حتى نجد الوقت للتأقلم مع الأسرّة الجديدة التي ننام عليها عشرات المرات في الشهر الواحد...

ــ لا شك في أنك تعرفت على عادات وتقاليد مختلفة خلال جولاتك المكوكية على مدار عشر سنوات. أي منها طبعتك؟

- (تبتسم) في تايلند، إن كنتِ أول زبون يدخل المتجر، فهم حتماً سيعطونك السعر الذي ترغبين فيه كي لا تخرجي خالية اليدين وإلا سيحلّ الحظ السيء عليهم طوال النهار، كما يعتقدون. وبعد استلام المال يلوّحون به فوق البضاعة الأخرى لجلب الحظ حتى تُباع! من المشاهد التي حفرت في داخلي، وهي ليست بعادات بقدر ما هي حوادث شهدت عليها، الواقع المفجع الذي رأيته في بنغلادش. رأيت فيها فقراً مدقعاً وبؤساً لن أنساهما ما حييت. رأيت، ذات مرة، ولداً يجرّ عربة تحمل عشرات الأكياس الثقيلة المكدّسة، وهو يجاهد بحجمه الصغير كي يدفع بالعربة العملاقة إلى الأمام. أوجعني مشهد عذابه هذا. كذلك رأيت طفلا، مبتور القدمين، يزحف أرضاً وسط الوحل تحت المطر. منظره كان يمزّق القلب.

ــ وهل من حادثة مؤلمة داخل الطائرة تتذكرينها حتى اليوم؟

- أتذكر أنه في بداية عملي كمضيفة طيران، وفيما كنت على متن رحلة من دبي إلى بيروت، كان معنا على الطائرة صبيتان وشاب يرتدون ثياباً سوداء، يبكون طوال الوقت ويرفضون تناول الطعام. شعرت بالتعاطف معهم من دون أن أعرف ما المصاب الذي ألمّ بهم، إلى أن سمعت الفتاة تقول: <أخ يا بيّي>. شعرت، حينها، بكمية الألم الذي يعصر قلوبهم ووضعت نفسي مكانهم، فتخيلت لو لا سمح الله فقدت فرداً من عائلتي وأنا بعيدة كيف سأتحمّل اجتياز كل هذه المسافات لأصل إلى وطني؟!

ــ وماذا عن نقل جثّة من بلد إلى آخر؟ تطرّقت إلى هذا الموضوع أيضاً في <مذكرات مضيفة طيران>...

- كنت أتجنّب، في كل رحلة، سؤال قائد الطائرة عن وجود ميت معنا. غالباً ما كانت تقلّ، مقصورة الشحن، أجساداً لأناس غادروا وطنهم في المقصورة العليا وعادوا إليه جثثاً داخل صناديق في المقصورة السفلى. السؤال الذي لطالما حيّرني هو: <ترى إن مات الإنسان في بلد بعيد ونقلت جثّته إلى وطنه، هل تعود معه الروح أم تكمل طريق غربتها باحثة عن وطن يؤويها...>؟

 

أنزلتُ مئتي راكب من الطائرة

ــ <عندما يقفل باب الطائرة ألقِ نظرة أخيرة على الأرض، فربما تراها للمرة الأخيرة في حياتك>. لم تكن هذه العبارة محفّزة لبدء صف <إجراءات السلامة> أليس كذلك؟!

- إطلاقاً! عندما سمعت هذه العبارة من الأستاذ الذي كان يدرّسنا هذه المادة دعوت ربي في أعماقي وقلت: <إلهي، أرزقني حسن الخاتمة، أرزقني موتاً يليق بلقائك. دعني أموت وأنا ساجدة لك في أرض وطني>. في بداية الأمر، وخلال المرحلة الأولى من العمل، تفور المضيفة حماسة للسفر والاكتشاف والتجارب، فلا تركز كثيرا على هذه العبارة وأبعادها. لكن في ما بعد، وهنا أتحدث عن نفسي ولا أعمم، تروح تفكر فيها من حين إلى آخر، إذ إن إجراءات السلامة <فوق> أصعب بكثير مما هي عليه على الأرض.

ــ لم أكن أعرف أن مضيفة الطيران تتعلم أيضاً كيفية ملاحظة أي راكب دخيل، أي تصرّف يثير الشك...

- طبعاً! أتعرفين لمَ تقف المضيفة على باب الطائرة؟ هي لا تفعل هذا لاستقبال الركاب فحسب، إنما لتراقبهم أيضاً. تنظر إن كان هناك من يمشي بشكل غير متوازن، إن كانت نظرات أحدهم غريبة وكأنه يستكشف المكان، إن فاحت رائحة كحول من شخص معيّن، إن بدا أحد الركاب مريضاً، إلخ. في هذه الحالة يحق للمضيفة أن تُنزل الراكب المشكوك بأمره.

ــ <شي مرة نزّلتي حدا>؟

- نعم، حصل ذلك خلال رحلة من مسقط إلى باكستان. كنا على متن إيرباص كبيرة جداً يتعدى عدد ركابها المئتي راكب، وكنت يومها المسؤولة عن طاقم الطائرة. أعلموني بأن أحد المسافرين يتصرف بشكل غريب. توجهت إليه وتحدثت معه فوجدته فعلا غريب الأطوار. لم أستطع فهم حالته، لكنني شعرت بأنه سيسبب لي المشاكل <إذا صرنا بالجوّ>. توجهت إلى مقصورة الكابتن وقلت له إنني أشك في أهلية أحد الركاب بأن يسافر معنا. كانت الطائرة تسير على المدرج وبدا الكابتن منزعجاً لأن تعطيل رحلة يعني تعطيل برنامج الرحلات بكامله. أشار بإصبعه إلى الأمام وقال لي بشكل صارم من دون أن ينظر إلي: <سنصل إلى مدرّج المطار، قرّري>. شعرت بثقل المسؤولية للحظات، إذ ليس من السهل أن أوقف رحلة مئتي شخص بقرار مني. فلو أسأت التقدير سأخضع للمساءلة. لكنني تخطيت شعوري هذا وقلت له بحزم: <قررت. نعود إلى الوراء>، وهكذا حصل. إتضح، في ما بعد، أنني كنت على حق إذ راح الرجل يتصرف بشكل عشوائي كليا مع رجال الأمن، فوصلتني من الشركة رسالة شكر وتقدير على القرار الذي اتخذته. تلك التجربة تعني لي الكثير. ففي كل مرة أكون فيها أمام خيار صعب أقول لنفسي: <إذا رجّعت ميتين راكب من الطيّارة يعني قادرة آخد أي قرار بحياتي!>.

ــ سؤال عرضي، كيف تتحمّلون صراخ الأطفال على مدى ساعات وأيام وأسابيع على متن الطائرة؟

- حدث أن كنت مصابة بالزكام، ذات رحلة، فتألّمت لدرجة <صرت خبّط بإجريي عالأرض>، لذا بتّ أفهم ألمهم! إذا كان هناك أطفال رضّع في الرحلة، يصحب الإقلاع والهبوط بكاء مرير نتيجة ضغط الطائرة الذي يتسبب بالألم في آذانهم. هذا البكاء يزعج الركاب الذين لا يدرون كم هو مؤلم وجع الطفل في هذه اللحظة، لا سيما أنه عاجز عن الكلام.

ــ رنا، هل حدث أن عشتِ قصة حب <بلّشت بالطلعة وخلصت بالنزلة>؟

- (نضحك) حصل. يحدث أن يعجبني أحد الركاب فأشعر بانجذاب نحوه، لكن للأسف ينتهي الأمر عند هذا الحد. خلال استراحتي على متن الطائرة، أروح أغزو عوالم وهمية وأرسم حوارات ونقاشات عاطفية أتمنى لو أنها واقع... كم من قصة حب كانت تبدأ عند الإقلاع وتنتهي عند الهبوط!

ــ سؤالي الأخير، <كيف كان إلك قلب تستقيلي> من هكذا نوع من العمل؟ سفرُ مدفوع!

- تعبت. تعبت جداً، جسديا ونفسياً. حين أفكر أنني كنت أتمنى الموت أحياناً - تصوّري الموت - لعدم استطاعتي النوم خلال الرحلة، أقول لنفسي أنني اتخذت القرار الصحيح! مهنتنا هذه جميلة نعم، لكنها مرهقة كما سبق وذكرت. ثم إنني شعرت، مع مرور الزمن، أنني مللت من تكرار نفسي والأحداث. علينا دائماً أن نمضي قدماً، وأن نبحث عمّا يروي ظمأ روحنا. فقلبي كالمطار، مساحة واسعة مخصصة للإقلاع والهبوط... في عوالم ومجالات جديدة!