تفاصيل الخبر

«مـتحـف آيـشـتــــي للـفـــن الـمـعـاصـــــر»: لـقـــــاء فـنـــــون الـعـالـــم تحـت الـقـرمـيـــد الاحـمـــــر!

11/03/2016
«مـتحـف آيـشـتــــي للـفـــن الـمـعـاصـــــر»:  لـقـــــاء فـنـــــون الـعـالـــم تحـت الـقـرمـيـــد الاحـمـــــر!

«مـتحـف آيـشـتــــي للـفـــن الـمـعـاصـــــر»: لـقـــــاء فـنـــــون الـعـالـــم تحـت الـقـرمـيـــد الاحـمـــــر!

 

بقلم عبير انطون

david-adjaye-associates-aishti-foundation-beirut-lebanon-ton  

لا يمكن لاختيار موقع <متحف آيشتي للفن المعاصر> على الطريق البحرية في المتن عند منطقة جل الديب إلا ان يكون ذا دلالات كثيرة. ففي وقت يتظاهر اهل المنطقة كل فترة مطالبين بإنجاز جسر مكان الذي تم هدمه، هناك من بنى جسراً وصرحاً ثقافياً مهماً انما عبر البحار والقارات. وفي وقت تُهدم فيه المتاحف والمدن الاثرية في اكثر من منطقة عربية، تنتصب اخرى لفن معاصر يحمل الكثير من التجريد والإبهام كالايام التي نعيشها.. الاطلالة الفسيحة على الازرق الجبار حيث الحدود اللامتناهية، تستقطب لوحات من العالم اجمع في < Aishti Foundation Exhibition> لتلتقي في مصب حضارة لبنانية يسعى بعض المتعلقين بالوطن ورسالته لأن لا تندثر. وها هو البلد الذي صدّر الحرف الى العالم يستعيدها خطوطاً واشكالاً وألواناً لا حدود لإبداعها..

 على امتداد 35 ألف متر تشكلها <مؤسسة آيشتي> في منطقة البيع بالتجزئة والمحال التجارية والمطاعم والنوادي وغيرها، يرتفع مبنى المتحف المعاصر على مساحة أربعة صورة-لوحة-لوشيو-فونتاناآلاف متر مربع في اربعة طوابق تزخر بانتاجات يومنا هذا في الفن واشكاله المعاصرة..

 <الافكار> قصدت المتحف الفريد من نوعه في لبنان والشرق الاوسط، وعادت منه بقطاف متنوع..

أكثر من مئة لوحة ومنحوتة من الفن المعاصر، تفرد تحت إضاءة مميزة مساحة ليس للنظر فقط بل للتأمل في فن لم يعتد الكثير من اللبنانيين عليه. لا كلاسيكيات هنا، لا وجوه واضحة، ولا رسومات تخبرك عن نفسها، فانت مدعو بقوة للمشاركة في فهم او إعادة خلق عمل فني اراده الرسام او النحات شكلاً جديداً... <جلدة جديدة>.. انه العنوان الذي اراده <ماسيميليانو جيوني> للمعرض الحالي للمتحف، والذي يحل آخر مكانه في منتصف الصيف تحت عنوان جديد. اما عنوان <جلدة جديدة> فمستعار من منحوتة للنحاتة البريطانية <اليس شانير>، وحول هذه <التيمة> اختيرت اللوحات جميعها.

 الجولة في المتحف مع المتخصصة في تاريخ الفنون من الجامعة الاميركية <ديانا حشيشو> حملتنا الى اميركا وبريطانيا والمانيا وفرنسا وغيرها.. والى لبنان ايضاً.

 وقبل الانطلاق في الغرف الفسيحة المضاءة بعناية كبرى، توقفنا عند شغف رئيس المؤسسة ومديرها بالاعمال الفنية المعاصرة.

صورة-لوحة-جيرارد-ريختر

شغف معاصر..

لقد بدأ رجل الاعمال طوني سلامة بتشكيل مجموعته الخاصة منذ العام 1989 أي بعد تسع سنوات على انطلاقه في عالم الموضة والازياء الراقية. لم يكن الفن الكلاسيكي خارج دائرة اهتماماته الا ان شغفه بالاعمال المعاصرة كان طاغياً، وهو وجد علاقات متداخلة ما بين مختلف مجالات الابداع في الموضة او الرسم او التصميم او الفن المعاصر. وعلى غرار كبريات الاسماء في عالم الموضة العالمية التي افتتحت متاحفها الخاصة لعرض مجموعاتها، كانت مجموعة طوني والهام زوجته التي تفوق اليوم الالفي قطعة بينها النادر والفريد لاكثر من 150 فناناً عالمياً.. شغف الثنائي بالميدان الفني والابداعي اضحى سريعاً في صدارة اهتماماتهما خاصة مع الاختلاط بالفنانين والمعارض واصحاب المجموعات الفنية.. إذ راح سلامة يرصد المصممين والفنانين الجدد، وصبّ اهتمامه على العقد الاول من القرن الحادي والعشرين. تخمّرت فكرة تأسيس المتحف، متحف للفن المعاصر، ذلك ان لبنان يفتقد لمثل هذا النوع من المتاحف، خاصة وان مجموعة سلامة المنتشرة والموزعة في اكثر من مكان، تحت الارض وفوقها، بلغت ما يفوق الالفي قطعة، وهي تتنوع ما بين اللوحات والنحت والرسومات و<الفيديو> ووسائل الاتصال الجديدة، وتتوجه للمختصين في المجال او الهواة فيه.

 وفي توأمة ما بين فن الازياء والفن المعاصر الذي اراده سلامة، عهد بالفكرة الى احد ابرز المهندسين المعماريين في العالم البريطاني <ديفيد ادجاي> الذي وضع اطارها العام <في ابتكار مبنى مختلط يجمع <اللايف ستايل> والرفاهية والثقافة بخطوط تشبه موجات البحر>، وكان <ادجاي> هو من صمم الفرع الاول لـ<آيشتي> مذ تأسيسها في العام 1989، وقد حرص المصمم العالمي لـ<آيشتي> على مد جسر <بصري> عبر نوافذ زجاجية كبيرة ما بين بوتيك الازياء والمتحف، بحيث ان الموجود في المكان الاول يمكنه ان يرى بعض ما يتضمنه المكان الثاني، فيشد النظر اليه ويدعوه للزيارة.

صورة-باول-الثامر--الغرفة--المخصصة-كتحية-لصوفي-سلامة  

 توأمة الفن والازياء!

تشير <حشيشو> الى انه يمكننا الحديث عن فن معاصر منذ أواخر التسعينات حتى يومنا هذا. المتحف بغالبيته يحتضن الأعمال الجديدة ما عدا الطابق الاول، وربما الاهم، وهو يعود الى الستينات والسبعينات من هذا القرن. وتقول <حشيشو>: <لم يرد السيد سلامة ان تبقى مجموعته له وحده، واراد ان يشارك الجمهور متعة التأمل والتفكير بها، اما اقتناؤها فليس مطروحا من خلال المتحف هذا الذي يهدف فقط لعرض المجموعة المميزة. وبالنسبة لفكرة توأمتها مع الازياء والموضة والترفيه، فإن البعض يتقبّل الفكرة بترحاب كبير، فيما البعض الآخر يراها <تجارية> او جديدة عليه من حيث ربط فكرة الازياء وبالنسبة فكرة الفن. هذه الآراء المختلفة تتمثل أيضاً في لوحات المتحف التي تحمل من جانبها تنوّعاً واختلافاً وانعطافاً كبيراً في التصور والتفكير التقليديين، ويمكن القول بان هذه اللوحات تعود مناصفة الى رسامين مشهورين من حول العالم وآخرين جدد في المجال يراهن السيد سلامة على مستقبلهم في هذا الفن>.

 اول لوحة دخلت المتحف في تشرين الاول/ اكتوبر الماضي تشير الى طبقات الجلد وصولاً الى السطح. و<الجلدة الجديدة>، استلهمها <ماسيميليانو جيوني> الذي نظم <بيينالي فينيسيا> لسنة 2012، ليبرز اعمالاً <توسع لغة التجريد وتحولها عبر علائق جديدة بين السطوح والمواد والاشكال> في مئة وستين عملاً فنياً قد تُستبدل بعدد مماثل من ضمن موضوع آخر. فالمتحف ايضاً يغير جلدته كل ستة اشهر تقريباً لتحل مكان ما عُرض لوحات ومنحوتات تدور حول موضوع جديد يتم اختياره من قبل سلامة صاحب المجموعة ومنسق المعرض، فتكون ضيفة المتحف الجديدة، وتُعرض ما بين تموز/ يوليو وآب/ أغسطس المقبلين، والتي لم يتم الحسم بشأن موضوعها بعد.

 وتعود مضيفتنا في المتحف للشرح:

- <الجلدة الجديدة> التي تخفي طبقات من تحتها، هي ايضاً الفكرة التي تمتّ على أساسها هندسة بناء <آيشتي> بأكمله. فالطبقات الحمراء التي ترونها خارج المبنى هي طبقات لتاريخ لبنان منذ القدم حتى اليوم اراد إبرازها المهندس البريطاني <ديفيد ادجاي> الذي ولد وعاش بعضاً من طفولته في لبنان، اذ كان والده يعمل في القنصلية هنا، ولما ترك البلد وعاد اليه من جديد رآه بنظرة مغايرة عبّر عنها في الشكل الذي ترونه والذي يعطي للناظر اليه أشكال موجات البحر، اما اللون الاحمر فيعود لأسطح البيوت اللبنانية في الجبال المكلّلة بالقرميد الاحمر.

صور-آيشتي-5  

ما بعد اللوحة!

 العديد من قاصدي المحلات التجارية او المطعم يقصدون المتحف بعد <الشوبينغ>، بشكل خاص الاوروبيون والغربيون، وطبعاً المهتمون بالفنون وعدد لا بأس به من طلاب الجامعات، وترتفع نسبة الاقبال في العطل والاعياد. فالفن المعاصر مفهوم جديد ويتطلب التعمق والتحليل. النسخات كلها اصلية وتعود لابرز الفنانين الايطاليين في الستينات والسبعينات من <لوسيو فونتانا> الى <انريكو كاستيلاني> و<أغوستينو بونالومي> و<بيارو مانتسوني> و<البرتو بوري>، وكانت لديهم نظرة موحّدة تقريباً، وهي ان يذهبوا الى ما بعد اللوحة. فقد كان <لوسيو فونتانا> مثلاً من أهم الفنانين في القرن العشرين ومن أبرز ممثلي الحداثة الأوروبية وأكثرهم <راديكالية>، وقد اشتهر في العالم بلوحاته المجروحة بسكين أو مبضع. كذلك فقد ازدهر التيار الفني المعاصر الذي عُرف بـ<poor art> وبعده الـ<باد بينتنغ> وغيرها. وأراد الفنانون من خلالها الذهاب الى خلف ما يمكن ان تراه العين رافضين ان يبقوا من ضمن الرسم الكلاسيكي ومتجاوزين الأنماط التقليدية كالرسم والنحت، فالمهم بالنسبة إليهم ليس المادة بل الفكرة والحركة والإيماءة.

 

<زوم ان>..

 

 في الطابق الثاني للمتحف تطالعك لوحة عملاقة بخطوط ملونة، فتكتشف بعد الشرح، انها ليست سوى <بورتريه> لإحدى النساء تمّ <الزوم> عليه الى درجة برزت الألوان التي تشكّله فكانت رائعة الفنان <جيرار ريختر> الالماني. وعلى الجدار الايسر بمحاذاتها تستوقفك لوحة اقل حجما، كبيرة هي ايضاً، وتجسّد نقطة حبر في الماء يرصد الفنان تفاعلها، وهي تُعتبر من اكثر اللوحات التي تسترعي انتباه الزائرين لهدوئها، جمال ألوانها ومعناها. وعلى بضعة امتار، تشد نظرك سبع لوحات بطلتها الشمس من شروقها الى غروبها في اعمال للفنانة <كريستين برخت>، والتي رسمت الاشعة التي لا يمكن ان نراها بالعين المجردة لحركة الكوكب هذه، الى مجموعة لوحات بالاسود والابيض في غرفة منفردة تترجم التمييز العنصري الذي كان سائداً بين البيض والسود في اميركا للفنان <غلين لايغون> وهو اميركي من اصول افريقية، هذا فضلاً عن لوحات ومنحوتات لحكايات من حرب فييتنام وغيرها، فيما تحاكي منحوتات متعددة المرأة ومراحل عمرها وعالمها، مع تركيز في احدى اللوحات عن المرأة ايضاً بعدم ضرورة رسمها بالصورة صورة-3-غلين-ليغون المثالية دائماً.

مفهوم الفن ايضاً يشكّل في المتحف موضوعاً جوهرياً، عبر مجسّمات تبرز عدم امكانية سجنه تحت اية خطوط او مدارس فنية والا يكون الناظر الى هذا الفن مسجوناً. هذا الامر تعكسه بشكل رائع مرايا تحفة <مايكل انجلو بيتولتو> حيث يكون الناظر للعمل مسجوناً فيه من ضمن تقنية رائعة. ولا يمكن سوى الاشارة أيضاً الى تلك القطعة الذي تشكل جزءاً من اصل ثلاثمئة جزء لفنان عاش في الدانمارك وباع قطعه من حول العالم كله، وهي، وان تم جمعها كـ<البازل>، فإنها تشكّل مجسماً موازياً لتمثال <الحرية> الشهير وذلك في رسالة عن الحرية ومفهومها، كما لا يغيب وهم الاعلانات <وزيفها، والاعلام وضجيجه، وعالمنا المتخم بوسائل الاتصال وتدفق المعطيات، والتصوير الرقمي، وغيرها من مكونات عصرنا المجنون عن الاعمال المعروضة>.

اللبنانيون ايضاً!

 

فنانون عالميون عديدون زاروا المتحف الذي يضم اهم المجموعات الفنية الخاصة في العالم العربي منذ افتتاحه وكانوا على تواصل ونقاش مباشر مع المهتمين اللبنانيين، ما خلق جسر تواصل حضاري وثقافي رائع، وهو ما يهدف اليه <متحف آيشتي> ايضاً.

اما الفنانون اللبنانيون فلهم في المتحف حصة. بينهم من انخرط في الفن المعاصر واصبح ذا شهرة عالمية. منى حاطوم، فلسطينية عاشت حياتها في لبنان والآن تقيم في لندن تُعرض لها بناية <الاونيسكو> في بيروت مشظاة من جراء القصف، مع ما لرمزية هذا الصرح على الصعيد الوطني والعالمي، وهناك اعمال معروضة ايضاً لأكرم زعتري، وزياد عنتر الفنان المولود في صيدا والذي يرفض التصوير الرقمي وقدّم صورا شكلت لوحات من خلال كاميرا قديمة من لبنان والشارقة والاسكندرية ومكة والقاهرة وصيدا ونهر النيل.

 الطابق الاخير من المتحف يخصّص غرفة تشكّل تحية لصوفي سلامة اخت انطوان سلامة التي توفيت بمرض السرطان منذ عامين تقريباً، وهو يوجه لها تحية عبر اختيار منحوتات هي عبارة عن هياكل عظمية ابدعها <باول الثامر> وهو فنان بولندي يملك والده معمل بلاستيك في مدينة البندقية الايطالية. تظهر المنحوتات الثماني وهي عبارة عن اربعة رجال وأربع نساء جسم الانسان هيكلاً عظمياً فيما وحدها تعابير الوجه تبقى حية. والجدير ذكره ان <الثامر> كان اختار الوجوه التي صنعها من وحي اشخاص كانوا يمرون فعلياً بالقرب من معمل والده، فنجد مقاسات الاجساد حقيقية ذلك ان الفنان درس <الاناتومي> الانسانية جيداً. اما القناع، ففيه اشارة الى مدينة فينيسيا التي تُعرف به، فضلاً عن دلالات كثيرة أخرى نعرف بعضها وعلينا، كما الكثير في المتحف، ان نكتشف بعضها الآخر.