الاحتفال المركزي الذي أقامه تيار <المستقبل> يوم السبت الماضي في مجمّع <البيال> في بيروت لمناسبة الذكرى العاشرة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري ورفاقه يوم 14 شباط/ فبراير 2005 اختلف هذه السنة عن السنوات الماضية في الشكل والمضمون، وأحدث اختراقاً في الوضع السياسي الجامد في لبنان والذي لم يتحرك بعد رغم وجود ملفات سياسية بارزة معلقة، ليس أقلها الاستحقاق الرئاسي الذي لا يزال ينتظر حوارات غير مضمونة النتائج، ولقاءات لا تزال تتطلب المزيد من التحضير والإقناع المتبادل. ورغم أن الاحتفال حفل بالرسائل- المواقف التي أطلقها زعيم تيار <المستقبل> الرئيس سعد الحريري، فإنها بقيت في إطار المواقف السياسية التي لا يتوقع أن تحدث تبديلاً في الواقع القائم سواء على صعيد الانتخابات الرئاسية، أو على صعيد العلاقات اللبنانية - اللبنانية التي ترعاها حوارات تتم بهدوء بين أطراف لبنانيين، يأتي في مقدمهم الحوار بين حزب الله و<المستقبل>. إلا ان هذه المواقف كرّست المشهد الأبرز الذي يتفاعل لبنانياً، وهو أن لا بديل عن الحوار بين اللبنانيين للتفاهم على الأمور العالقة، لاسيما وان الانكفاء الدولي والإقليمي عن الملف اللبناني برمته يتراجع يوماً بعد يوم خلافاً للمواقف المعلنة التي توحي بالعكس.
مشهدية حضارية... ومشاركة لافتة لـ<عون>
في الشكل، كان احتفال <البيال> مشهدية حضارية امتزج فيها اللحن الجميل مع الصوت المميز لـ<السوبرانو> تانيا قسيس ومع الشهادات التي أطلقها عدد من خريجي مؤسسة الحريري الذين عبّروا باسم رفاقهم الـ35 ألفاً عن امتنانهم وتقديرهم للعناية التي أحاطها بهم الرئيس الشهيد من خلال مؤسسته. وأتى تفاعل الحاضرين الذين احتشدوا في <البيال> مع هذه الشهادات ليؤكد على الأثر المميز الذي تركته التوجهات التربوية والانسانية للرئيس الشهيد رفيق الحريري في نفوس جيل الحرب الذي انتشله رفيق الحريري من براثن الحرب الأهلية ووفّر له فرصة التحصيل الجامعي بشرط واحد وهو العودة الى لبنان والعمل فيه. في الشكل أيضاً برزت المشاركة الرسمية والسياسية الواسعة التي تزايد منسوبها بعدما أُعلن صباحاً عن وصول الرئيس سعد الحريري الى بيروت للمشاركة شخصياً في الاحتفال عوضاً عن إلقاء كلمته بواسطة شاشة عملاقة من الرياض. وأضيف الطابع الوطني للمناسبة مع حضور الرئيس تمام سلام وعقيلته السيدة لما، والرئيس ميشال سليمان، فيما تمثل التيار الوطني الحر بوفد رفيع ترأسه وزير الخارجية جبران باسيل مع وفد نيابي، فضلاً عن حضور ديبلوماسي واسع ومتعدد اللغات. وفيما حضر أركان في 14 آذار و<المستقبل> ووزراء ونواب ورئيس <القوات اللبنانية> الدكتور سمير جعجع وعقيلته ستريدا، لوحظ غياب الرئيس أمين الجميل (الذي تمثل بقرينته السيدة جويس) ووزيريّ حزب الكتائب سجعان قزي وآلان حكيم (حضر الوزير الثالث رمزي جريج بصفته الشخصية)، إضافة الى نواب الحزب الذين لم يحضر منهم أحد. وبدا غياب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط لافتاً عن هذه المناسبة رغم أن النائب هنري حلو مثله في الاحتفال وسط غياب وزيري الحزب أكرم شهيب ووائل أبو فاعور ونجل جنبلاط تيمور ونواب الحزب و<جبهة النضال الوطني>. وقد اكتفى جنبلاط بالحضور الى ضريح الرئيس الشهيد مع وفد من اللقاء الديموقراطي ووضع وردة حمراء الى جانب الورود البيضاء التي أحاطت بالضريح. والى مشاركة وفد التيار الوطني الحر اللافتة، سجل غياب أركان قوى 8 آذار، في وقت تمثل الرئيس نبيه بري بالنائب عبد اللطيف الزين. أما حزب الله الذي يتحاور مع <المستقبل> منذ أسابيع، فقد غاب عن المناسبة، ومعه النائب سليمان فرنجية ونوابه والأمير طلال ارسلان وآخرون.
الحريري: ربط النزاع لا يلغي الحوار
أما في المضمون، فإلى المشهدية الموسيقية والغنائية، وشهادات ثلاثة من خريجي مؤسسة الحريري، كانت كلمة الرئيس الحريري شاملة وجامعة وازن فيها بين المواقف التقليدية من الحرب في سوريا ونظام الرئيس بشار الأسد واستمرار ربط النزاع مع حزب الله حول المواضيع الخلافية رغم تمسكه بالحوار مع الحزب الذي قال عنه انه < حاجة اسلامية>، فضلاً عن رفع سقف الهجوم على التنظيمات الإرهابية والتطرف، مكرساً التزامه <الاعتدال> في مواجهة المتطرفين. وقد سجلت مصادر مطلعة من خلال قراءة متأنية لخطاب الحريري معطيات ترسم ملامح المرحلة المقبلة، ولاسيما ما يتعلق منها بالملفات الشائكة سياسياً وحكومياً ورئاسياً، وفي المقدمة الحوار مع حزب الله. وأبرز هذه المعطيات الآتي: أولاً: أقام الحريري توازناً بين الرغبة في استمرار الحوار مع حزب الله لتخفيف الاحتقان وضرورة تحصين المسار السياسي وإنهاء الشغور الرئاسي، وبين رفضه الاعتراف للحزب بأي حقوق تجعله يتقدم على حق الدولة في القرارات المصيرية ولاسيما قرار الحرب والسلم. وأكد الحريري من خلال هذه المعادلة على أن لا تبديل في ثوابت <المستقبل> حيال رفضه استراتيجية حزب الله، خصوصاً الاستمرار في دعوة الحزب الى الانسحاب من سوريا رافضاً بشكل حازم مقولة ربط الجولان السوري بالجنوب اللبناني والتي برزت بعد اعتداء القنيطرة ورد حزب الله في مزارع شبعا. وبدا واضحاً تمسك الحريري بالتوصيفات نفسها التي سبق أن أطلقها في مناسبات مختلفة مثل قوله ان الربط بين الجولان والجنوب هو <ضرب من الجنون> الذي يمكن أن يستدرج الحرائق من سوريا الى لبنان. كذلك كرر رفضه لجعل لبنان ساحة أمنية وعسكرية تسخر من خلالها إمكانيات الدولة اللبنانية لإنقاذ النظام السوري وحماية المصالح الإيرانية. ثانياً: أعاد الرئيس الحريري التأكيد على أن الحوار مع حزب الله لم يلغِ ربط النزاع مع الحزب، معتبراً أن الحوار معه يهدف الى منع انفجار النزاع، والامتناع عن تحكيم الشارع في الخلافات السياسية، من دون أن ينسى توجيه لفتة الى جهود الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط، معترفاً بوجود <فوائد> تدعو الى استمرار المسار الحواري. ثالثاً: تمسك الحريري برفض التناغم القائم بين حزب الله والنظامين السوري والإيراني، رافضاً إدخال لبنان في مواجهة مع دول شقيقة من خلال التدخل في شؤونها الداخلية ومنها مملكة البحرين، معتبراً ان مصلحة لبنان من كل ذلك <صفر ومعدومة وغير موجودة>، مؤكداً أن لبنان ليس جزءاً من محور يمتد من ايران الى فلسطين مروراً بسوريا ولبنان. رابعاً: لم يعطِ الحريري حيزاً كبيراً في كلمته لموضوع الاستحقاق الرئاسي الذي أفرد له جملاً قليلة قياساً الى ما قاله عن العلاقة مع حزب الله والموقف من النظام السوري والحرب في سوريا. واكتفى زعيم <المستقبل> بتكرار القول ان تعطيل الاتفاق على الرئاسة يكرّس مفهوماً خاطئاً مفاده ان البلد يمكنه أن يعالج أموره برئيس ومن دون رئيس، معتبراً ان هناك - ربما - من يستطيب هذا الأمر، وان وجود 24 وزيراً لا يعوّض وجود رأس الدولة ومجلس الوزراء يقوم مقام الرئيس في الحالات الاستثنائية فقط ليخلص الى ان الشغور الراهن ليس وليد ظرف استثنائي، بل ناتج عن عناد سياسي أو صراع على السلطة. وقد فسرت مصادر متابعة اختصار الحريري كلامه عن الاستحقاق الرئاسي ببضع جمل ذات مضمون تقليدي بأنه دليل آخر على أن الانتخابات الرئاسية لم تعد أولوية، ولا هي تتقدم على الاستقرار الأمني والسياسي على حدٍ سواء، وبديهي ان يكون الرئيس الحريري قد وصل الى هذه الخلاصة من خلال اتصالاته الخارجية الإقليمية منها والدولية.
<المستقبل> قوة الاعتدال
خامساً: أفرد الحريري حيزاً كبيراً من كلمته لتوصيف تيار <المستقبل> بأنه <قوة الاعتدال>، وانطلق من ذلك ليشن هجوماً لا هوادة فيه على حركات الإرهاب وضرورة مواجهتها والوقوف الى جانب الجيش والقوى الأمنية في عملها لمكافحة الإرهاب وتقديم المصلحة الوطنية على أي مصالح خارجية او داخلية. ورفع الحريري مسؤولية الحرب ضد الإرهاب الى المستوى الوطني، داعياً الى مشاركة الجميع في هذه الحرب لأن خلاف ذلك يعني أن الحريق سيصيب لبنان مهما كانت الجهود لإطفاء الحرائق الصغيرة. وانطلق الحريري من رفضه الإرهاب والدعوة الى محاربته، ليؤكد وقوفه أيضاً في وجه مشاريع العنف الديني، رافضاً وجود نقطة وسط بين الاعتدال والتطرف، وبين الدولة والفوضى، وبين الجيش والميليشيا، وبين الوحدة الوطنية والحرب الأهلية، وبين لبنان السيد المستقل ولبنان الفتنة والانقسام. سادساً: بدا الحريري متأثراً بلغة مواقع التواصل الاجتماعي والقيمين على الهيئات الأهلية، عندما صرخ بأعلى صوته بأنه ليس معتدلاً، بل متطرفاً للبنان والدولة والدستور والمؤسسات والشرعية والجيش وقوى الأمن الداخلي، والنمو الاقتصادي وفرص العمل والمناصفة والعيش المشترك وبناء الدولة المدنية التي تحكم على المواطنين بالقانون وفقط بالقانون. سابعاً: أعاد الحريري التلميح الى مسؤولية سوريا في جريمة اغتيال والده لافتاً الى أن الجريمة نُفذت بعد تهديدات وجهت الى الرئيس الشهيد بتكسير بيروت فوق رأسه، وذلك في إشارة الى تبني الحريري مضمون الشهادات التي أدلى بها عدد من النواب والسياسيين والمقربين من الرئيس الشهيد عن ان الرئيس السوري بشار الأسد أدلى بهذه التهديدات قبل أشهر من اغتيال والده. واستطرد الحريري في هذا الإطار للتأكيد على أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان <ستأتي بالعدالة ودماء الشهداء لن تضيع>. ثامناً: لم يشر الرئيس الحريري في كلمته الى عملية تسليح الجيش من خلال الهبات السعودية التي قدمها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز الذي حيا ذكراه في مستهل كلمته، كما أشاد بمواقف الملك سلمان بن عبد العزيز، ولم يتطرق الى المراحل التي قطعتها عملية صرف هبة المليار دولار التي وضعت بتصرفه لتعزيز قدرات الجيش والقوى الأمنية على مواجهة الإرهاب وتنظيماته. تاسعاً: تجنب الرئيس الحريري الإشارة في كلمته الى <إعلان بعبدا> وما يتضمنه من نقاط مكتفياً بالتأكيد على أن اللبنانيين <ليسوا سلعة على طاولة أحد>. ولاحظت شخصيات حضرت احتفال <البيال> ان الرئيس سليمان كان قد توقع ان يتطرق الرئيس الحريري الى تجديد التزامه بـ<إعلان بعبدا>، لكنه فوجئ بعدم الإشارة الى هذا الأمر، ما جعله يغرّد في اليوم التالي في حسابه على <تويتر>: <أين أنتم يا ساسة لبنان من دعم روسيا <إعلان بعبدا> وتمسك أميركا به؟!>.
حزب الله: مستمرون بالحوار
ومع انتهاء الاحتفال المركزي في <البيال>، كانت أصداء كلمة الرئيس الحريري تتردد في الأندية السياسية والحزبية وسط تفاوت في توقعات ردود الفعل عليها، لاسيما من حزب الله. إلا ان مصادر متابعة أكدت أن الحزب لن يتعاطى بسلبية مع مضمون كلمة الحريري رغم استعادته مفردات وتعابير كانت رائجة خلال مرحلة ما قبل الحوار بين التيار والحزب في عين التينة، بل هو - أي الحزب - <سيتفهم> الأسباب التي دفعت الرئيس الحريري الى رفع منسوب الانتقادات لمواقف الحزب التي قيلت في احتفال يحيي ذكرى استشهاد والده. ونقلت المصادر نفسها عن مرجع في قيادة المقاومة قوله ان الحوار مع <المستقبل> سيستمر وان الجلسة الخامسة التي أرجئت بسبب انشغال المسؤولين في <المستقبل> بالتحضير لذكرى 14 شباط/ فبراير ستنعقد مجدداً في عين التينة لأن الهدف الأساسي من الحوار هو تخفيف الاحتقان ومنع الانجرار الى الفتنة والتوتير المذهبي. وأضاف المرجع: <رغم كل ما سمعنا ونسمع وسنسمع من انتقادات وتصريحات، نقابله بالإصرار على استمرار الحوار لمنع الفتنة، لأن أحد أهداف المشروع التكفيري الإرهابي الإسرائيلي هو إشعال الفتنة وزيادة الاحتقان، وإحباط هذا الهدف يكون بالحوار... وهذا ما سنستمر به مع <المستقبل>. وفي السياق نفسه، دعت المصادر المتابعة الى التوقف عند ما أعلنه نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في احتفال حزبي في جبشيت يوم الأحد الماضي، إذ شدد على أهمية الحوار مع تيار <المستقبل> لافتاً الى أن الحزب اختار هذا الحوار بملء إرادته، لأنه مناسب لتذليل العقبات والصعوبات والبحث عن القواسم المشتركة، <ونحن مقتنعون باستمراره>! كذلك تحدث الوزير محمد فنيش عن <تقدم خطوات> في الحوار مع <المستقبل> كي يبقى لبنان بعيداً عن الخطر التكفيري ولتحصينه من المخاطر ودعم استقراره وسيادته. غير أن تأكيد وزراء ونواب من حزب الله على ضرورة استمرار الحوار مع <المستقبل>، لم يلغِ اعتبار مصادر مسؤولة في الحزب ان الرئيس الحريري الذي أراد تأكيد الوفاء والولاء للقيادة السعودية الجديدة رأى في <الهجوم> على الحزب وخياراته فرصة مناسبة لذلك، وهو انتقد تدخل الحزب في سوريا واليمن والبحرين، لكنه <سمح لنفسه> بإطلاق مواقف حادة حيال ما يجري و<زج> لبنان في خيار المحور السعودي وخياراته في المنطقة. وسجلت مصادر سياسية امتناع الرئيس بري عن التعليق على خطاب الرئيس الحريري، فيما اعتبر النائب وليد جنبلاط ان أهم ما قاله الحريري هو تأكيده على المضي في الحوار مع حزب الله.