بقلم عبير انطون
على غرار أبطال القصص، قرر عدم الاستسلام، وفعل.. بعينيه حارب، فكانت <روحه محلقة>. ضج عطاءً في عز الصمت التام المجبر عليه، فكانت شهادته الحية انتصاراً للفكر على الجسد وانهزاماً للمرض أمام الحب، ويقظة للحلم في مواجهة اليأس. هذه ليست كلمات إنشاء، انها أقل ما يمكن ان يوصف به رجل، لا يتحرك فيه سوى عينيه، والأغرب انه مصر على العيش، وبفرح. فمن أين له كل هذا السلام؟
الدكتور جميل زغيب، طبيب أطفال شق طريقه بنجاح ومثابرة منذ العام 1992 الى ان ضرب القدر ضربته وهو في أوج عطائه ونجاحه. الضربة وإن لم تكن قاضية كانت جد مؤلمة! أصيب الطبيب بمرض التصلب الجانبي الضموري في العام 2008، فكتب بعينيه تسعة كتب ونفذ فكرته في تصوير فيلم وثائقي عنوانه <جميل، روح محلقة>. والد لثلاثة مراهقين، فقد الدكتور زغيب تدريجياً حركته منذ العام 2008 وصولاً الى الشلل التام. من ذلك الوقت وهو يعيش بواسطة آلة تنفس، ويتغذى من خلال أنبوب معوي، والاصعب من ذلك كله انه محكوم بالصمت التام، اذ ان هذا المرض يفقد حامله الحركة كلياً، فلا يتكلم ولا يمشي ولا يحرك إلا عينيه فقط.
مرض.. صعب ونادر
في الماضي، كان Amyotrophic Lateral Sclerosis مرضاً نادراً، لكنه بات يبرز في حالات عدة في مجتمعنا وهو يصيب الخلايا العصبية الحركية في الدماغ والحبل الشوكي ويؤدي الى تنكس العضلات حتى يصبح المريض غير قادر على الحركة كلياً. لا تزال الاسباب مجهولة والعلاج غير موجود حتى يومنا الحاضر. يضرب المرض الممرات العصبية الممتدة من مراكز الحركة في الدماغ إلى نهاية الحبل الشوكي، وهي تسير على النواحي الجانبية الخارجية من هذا الحبل عبر فقرات العمود الفقري كله. ومن تلك الممرات، تخرج الأعصاب التي تُحرك الجسم بأكمله. ومع الدواء التدريجي لهذه الممرات، تضمر هذه الأعصاب الحركية، بل تموت، ما يؤدي إلى شلل ينتشر تدريجياً ليوقف الجسد نهائياً عن الحركة، وفي المقابل، تنجو بعض عضلات الوجه والجفون والعيون لأنها تتغذى بأعصاب تأتيها من الدماغ مباشرة.
حتى آخر عصب..
بدايات المرض لم تمنع الدكتور زغيب من مزاولة نشاطاته ومواصلة تطبيب مرضاه ومعاينتهم، وكان يستقبلهم في عيادته الصغيرة على كرسي متحرك الى ان حان اليوم الذي لم يعد يملك فيه القدرة على الحركة في السير ولا حتى على المعاينة، إذ خانته يداه في اية حركة.
الصعوبات الجمة لم تجعل الطبيب الشغوف بحب الطبيعة وشجر الزيتون الذي زرعه في حديقة بيته والحياة القروية التي صبغت نشأته في حراجل يغرق في التشاؤم والاستسلام. لم يفقد الامل. فداخل جسده المشلول طاقة هائلة، هو العاشق الكبير للحياة وما فيها. ما هم انه لم يعد يستطيع الكلام، باستطاعته الكتابة. فكره وذاكرته متوقدان ذكاءً وأفكاراً يمكنها ان تفيد الكثيرين، بشكل خاص الجيل الجديد الذي ابتعد عن القراءة، فجعلهم هدفه الاول. أصدر الكتاب تلو الآخر، حتى وصل العدد الى تسعة كتب، في ثلاث لغات. كيف ذلك؟ بواسطة شاشته الذكية، حاسوبه المجهز لقراءة حركات عينيه. صديقه التكنولوجي هو صلته بالآخرين، نافذته الى العالم الذي يعيش في قلبه وإن كان بعيداً عنه. انها شاشة كومبيوتر مزودة بجهاز اسمه <توبي أي تراكر> يتتبع حركة العين عبر حزم من الأشعة تحت الحمراء. ويعرض الكومبيوتر قائمة أسماء وحروف. وعندما تستقر حركة عين زغيب على أحدها، يعرف الكومبيوتر أن المريض اختارها، فيحفظها كما يُظهر معلومات عنها.
<حياتي، قصتي> هو من الكتب التي خطها الطبيب بعينيه، يخبر فيه قصته مع المرض ورحلة العلاج التي جال بها دولاً عدة، غير مغفل لقناعته بدور العناية الإلهية في حياته. ضمن الكتاب سيرة حياته وصراعه، كما وتحدث عما يفكر فيه لناحية الروحانيات والحب والألم والسعادة، مستذكراً كل الأشخاص الذين دعموه والأطفال الذين عالجهم حيث خصص جزءاً من كتابه لهم ولرسائلهم. ضم كتابيه الأخيرين الى معرض الكتب في مجمع <البيال> ضمن حفلة توقيع استثنائية لجهة إرسال الاهداءات لمحبيه ممن تقاطروا الى معرض الكتاب الفرنكوفوني. وكان طبيب الاطفال قد الف كتاباً بالفرنسية عنوانه <نصائح عملية من أجل صحة الأطفال> وضمّنه إرشادات علمية مبسطة عن طرق العناية السليمة بالصغار. فالطبيب لا يعترف الا بالعمل مهما كانت الظروف، وبرأيه فإن على الانسان ان يجتهد في وظيفته وجسمه وروحه، فإذا توقف جسمه عن العمل، يمكن لروحه ان تستمر في ذلك، فللإنسان قدرات كثيرة وكبيرة، ليفتش عنها ويكتشفها.
يعتقد الدكتور زغيب في احد حواراته أن المرء يعيش في بعدين اثنين: أولهما الجسد (وهو يشكل 5 بالمئة) وثانيهما الروح (وهي تشكل 95 بالمئة).
- أنا نسيت جسدي لأعيش فقط بروحي الحرة وأحلق معها فوق الطرقات والمدن والبلدان من دون الاستعانة بأي من عضلات جسدي. إن لكل عجز يصيبنا، يُنعم علينا الله بالكفاية من القدرات لمواجهة كل التحديات.
- هكذا أنا، فالله وهبني عزيمةً مذهلة وهبات أخرى كالإرادة الصلبة والحب اللامتناهي والإيمان غير المشروط والأفكار الإيجابية والتكنولوجيا المتقدمة لأتفوق على عجزي الجسدي.
- هناك قوة دفع هائلة، أقوى من البخار والكهرباء والطاقة الذرية: إنها قوة الإرادة!
كارن.. وروح جميل
الإعلامية والشاعرة المميزة كارن بستاني صاحبة البرنامج المعروف <وجوه من التاريخ>الذي تستضيف فيه كبار الشخصيات من لبنان والعالم، كانت أول من عرف بسر جميل وأمنيته في ان يحول سيرة حياته الى فيلم وثائقي. كانت قد تعرفت إليه سابقاً في توقيع كتابه الاول وأصبحا صديقين من ذلك الوقت، حتى انها حاربت مع جميل لمكافحة المرض مترئسة جمعية <ا ال اس> الجمعية الاولى في العالم العربي التي تعنى بمرض التصلب الجانبي الضموري التي أسسها الدكتور زغيب ووضع نظامها الداخلي من سريره، ولأجلها كان يقوم بالمراسلات مع الجمعيات العالمية حاثاً إياها على التعاون. وبما ان الجميع يعي دور الإعلام وأهميته في إيصال الصوت والرسالة، حملت كارن راية الجمعية بقوة. قال لها جميل ذات يوم: <كارن، أريد ان أطلعك على سر لا يعرفه حتى أقرب المقربين الي. أريد ان أصور فيلماً وثائقياً عن حياتي>. وسط دهشتها، وافقت على الفور فجميل اختارها هي دون غيرها لمعرفته بها وبشغفها لتحقيق أحلام الآخرين. فكيف بحلم جميل؟
كتبت كارن القصة وبقي التمويل. طلبت المساعدة من جامعة اللويزة التي رحبت بالفكرة، فكرة فيلم يخبر فيها الدكتور زغيب قصة حياته كلها، بتفاصيلها الدقيقة، وكان ذلك منذ عامين. وأكثر من التمويل من جانب قسم المرئي والمسموع فيها، اقترحت الجامعة أحد تلاميذها القدامى، المخرج سليم الهبر، الذي اعطى القصة الواقعية من قلبه، فهو لطالما حلم بسيناريو مماثل يفوق الخيال لقدرة بطله وإصراره على الحياة والإنتاج فيها. فالدكتور زغيب لا يزال يتواصل مع الجميع ومع مرضاه حتى هذه اللحظة بواسطة عينيه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وصفحته الخاصة عبر <فايسبوك> حيث يبادر زوار موقعه بمحبة قائلاً: <اتصلوا بي لأي استشارة.. اقتنصوا الفرصة، انها مجانية>.
وليست الاستشارات وحدها ما يقدمه مجاناً الدكتور زغيب. فهو الى جانب الكتابة الدائمة يلقي المحاضرات في المستشفيات المختلفة عبر جهاز <سكايب> ليشارك تجربته العلمية الطبية مع الآخرين، هو الذي يملك باعاً طويلاً غي هذا المجال. يتواصل زغيب مع أصدقائه وزملائه الأطباء عبر موقعي <فايسبوك> و<تويتر> وغيرهما. وعندما ضرب مرض <إيه آل أس> عضلات النطق عنده، عمد إلى استخدام جهاز <توبي كومينيكاتور> الذي يعمل أيضاً عبر تتبع حركة العينين، لكنه يحول الكلمات والحروف التي تختارها عينا زغيب إلى صوت. وهكذا، يستطيع التواصل مع زملائه من الأطباء وتلامذة الطب عبر برنامج <سكايب>، مؤكداً لهم أن مرض <إيه آل أس> لا يؤثر في التفكير والذكاء ولا الحواس الخمس والعضلات اللاإرادية للقلب والامعاء والمثانة والوظائف الجنسية أيضاً.
بارود ودرس الاولويات
لم تفكر هلا زوجة الدكتور جميل يوماً بالتخلي عنه، هي التي لها الى جانبه أكثر من مهمة إذ انها سكرتيرته وممرضته وأم أولاده سيرج وأليسيو وأندريا وهي ايضاً ربة المنزل في جعيتا. انها باختصار قوته الناعمة، القوة المطمئنة له. تؤمن بأن الحب هو أغلى القيم، وترجمته تكون بالتضحية. الفيلم <جميل روح محلقة> شكّل علاجاً لعائلته ايضاً وبشكل خاص لابنه سيرج، إذ كان منذ مرض والده يرفض الخوض في الموضوع. في الوثائقي أفرج عن مكنونات نفسه وتكلم.
جميل زغيب قرر محاربة الشلل والجمود وحضر العرض الاول لفيلمه الذي يمتد حوالى 50 دقيقة متحدياً ألمه ليكون رسالة أمل. آخر ما يمكن ان تسمعه عند مشاهدة فيلم حياته كلمة <حرام>، وهذه الكلمة إذا ما قلتها، فإنك توجهها لنفسك، انت من تتعب وتنهار عند أي عارض صحي او اجتماعي. مع كاتبة الفيلم وصديقة بطله كارن بستاني نقول جميعاً ان زغيب يستحق فعلاً ما تفكر به كارن: ايصال هذا الفيلم <جميل.. روح محلقة> الى المجتمع الدولي عبر ترشيح الدكتور جميل وأعماله لجائزة <نوبل>، وهي تعمل حالياً على عرض الوثائقي في صالات السينما اللبنانية والتلفزيونات والمدارس.
كثيرون قالوا بالدكتور جميل زغيب العبرة والقدوة، ما قاله وزير الداخلية السابق زياد بارود: <هذا الانسان بلغ كلامه في مطارح لم يسلكها ذهني سابقاً، فتلقيت درساً في الاولويات. الدكتور جميل زغيب، الطبيب الذي أقعد المرض جسده، لا عقله، حملني الى حقيقة التمييز بين الروح وقدراتها وبين الجسد ومحدوديته. تمييز يصلح في الدولة أيضاً، بين روح جوهرها ورسالتها وبين جسدها المترهل، المعطل الدور والفعالية>...
بانتظار الكثير من الدكتور زغيب بعد، وقد يكون في مجال السياسة ومناقشة أفكارها عبر كتب جديدة قد يعمل عليها نردد معه ما يقوله بإيمان قوي وسط شلل جسدي كبير: إن الله خلقني بحب عظيم!