بقلم جورج بشير
لعلّ الرئيس أمين الجميل قد أصاب الهدف ووضع اصبعه على الجرح النازف عندما أشار في الأسبوع الماضي بالتصريح الذي أدلى به في بكركي بعيد اجتماعه مع البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الى انه <متخوّف من أن يقود الوضع السياسي المتأزم بالنسبة لانتخاب رئيس الجمهورية بعد مرور سنة على شغور مقام الرئاسة الى مؤتمر تأسيسي في لبنان>.
سنة أولى مضت بأسابيعها وشهورها وأيامها الحوالك على تقاعس المجلس النيابي اللبناني عن القيام بواجب انتخاب الرئيس الجديد للبلاد، متفرجاً على حكومة منحها الثقة كي تحلّ محل الرئيس، فصار كل وزير فيها يرى في نفسه رئيساً للبلاد ويفصّل معظم الوزراء الحلول المطلوبة للمشاكل التي يعاني منها لبنان في ظل مشاكل المنطقة الشرق أوسطية ومعظمها مصيري، على قياس مصلحته ومصالح من يمثل في الحكومة، فيما معظم السياسيين وزعماء الكتل والأحزاب الذين بين أيديهم الحل والربط حتى إشعار آخر للقرار داخل لبنان يحورون ويدورون حول المشكلة الرئاسية والأسباب الحقيقية لأزمة الانتخاب، ولا أحد يجرؤ على مقاربة معالجة هذه الأسباب، ربما لغاية في نفس يعقوب أو انهم متأثرون بمواقف دولية وإقليمية، أو منتظرون لما يمكن أن تؤول إليه تطورات الأحداث الحربية والصراع الدولي والإقليمي في الدول الملاصقة للبنان من فلسطين واسرائيل طبعاً، الى سوريا والعراق وحتى مصر واليمن، وكأن على الشعب اللبناني أن ينتظر وينتظر ليس حتى نهاية الحروب والصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل عليه ربما ان ينتظر نهاية صراع الجبارين (أميركا وروسيا) في أوكرانيا، ونهاية الخلاف الدائر ربما في ايرلندا حول مبدأ قبول الدولة الذي تقرر بنتيجة الاستفتاء الأخير حول زواج المثليين في تلك الدولة الصغيرة...
الزعماء اللبنانيون الذين بين أيديهم الحل والربط من ناحية المبدأ بالنسبة للقرار الرئاسي في لبنان الى الآن، بعضهم يقارب الموضوع في عمقه وجوهره بجرأة، وبعضهم الآخر يدور حوله بخبث، والبعض الثالث ينتظر متفرجاً علامَ سيتفق عليه هذا الفريق مع الفريق الآخر، حوار أثبت الى اليوم على ما هو ظاهر للعيان، أنه حوار طرشان...
لبّ المشكلة
لقد مارس مجلس النواب دور المتفرّج ومعه معظم الشعب على حقيقة الأزمة وجوهرها عندما تهرّب من مقاربة تنفيذه للالتزام الذي قطعه على نفسه مع الحكومات المتعاقبة التي مثلت أمامه ومنحها الثقة <بأن يسنّ قانوناً جديداً للانتخابات النيابية يحقق آمال وتطلعات الشعب اللبناني في صحة التمثيل والعدالة ويكون محققاً للعدالة فعلاً لا قولاً، ويصحح الخطيئة التي ارتكبها الحكام المتعاقبون في ظل نظام الهيمنة السوري بتفصيل قانون الانتخابات القائم حالياً على قياس الذين حكموا لبنان منذ ان وضع لبنان في قائمة الدول الخاضعة لحكم الخارج وهيمنته، في ظل الوجود العسكري السوري وظل الذين تعاونوا وتواطؤوا معه تحقيقاً لمصالحهم الفئوية والمذهبية أو الشخصية على حساب المصلحة العامة>.
كان مجلس النواب قبيل جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري قد بدأ مناقشة قانون الانتخابات النيابية الجديد وسن حوالى 16 بنداً من بنوده، قيل أن يتواطأ أصحاب المصالح المشار إليها آنفاً ويعقدوا ما عُرف يومئذٍ بالحلف الرباعي ويجمّدوا مناقشة وإقرار بنود قانون الانتخابات الجديد ويتحالفوا في ما بينهم مكونين لوائح مشتركة كان أغربها مثلاً التحالف بين تيار <المستقبل> وحزب الله والقوات اللبنانية وحزب الكتائب وحزبي الاشتراكي و<أمل>، كل ذلك من أجل تأمين الفوز بأغلبية المقاعد النيابية والأكثرية في المجلس الجديد نكاية بالجنرال ميشال عون العائد يومئذٍ من النفي من باريس وخوفاً من <التسونامي> الذي أحرز فوزه مع مرشحيه في الانتخابات النيابية.
هذه هي حقيقة وجوهر المشكلة التي تسقط عندها اليوم حجة تحريم تحالف الجنرال مع حزب الله، فيما سبق لخصومه جميعاً ان تحالفوا مع حزب الله في تلك الانتخابات النيابية التي أفرزت المجلس النيابي الحالي ولم يكن ذلك حراماً لأن النكاية والمصلحة السياسية سيدة الموقف... فاز الجنرال بمقاعد الأغلبية المسيحية في تلك الانتخابات بما اعتبره وليد جنبلاط يومئذٍ متخوفاً <تسونامي> واستمرت حرب النكايات دائرة بين السياسيين حيث وضع هؤلاء مصالح الشعب جانباً، وصار همّهم إضعاف عون وتقطيع أوصاله، فيما عون ظل على موقفه من ضرورة سنّ قانون جديد للانتخابات النيابية لتحقيق العدالة وصحة التمثيل وتصحيح الشراكة في حكم البلاد، ومضى معارضوه في معارضتهم هذا التصحيح والهرب من الواقع والحقيقة تارة بتغيير الحكومات، وطوراً بفتح حوار سرعان ما تبيّن انه حوار طرشان، وعندما يتذكّر الزعماء السياسيون التزامهم وحكوماتهم بسن قانون جديد للانتخابات، وتفشل اللجان <الصورية> التي يؤلفونها لتقطيع الوقت بالوصول الى اتفاق على قانون جديد تكون ولاية مجلس النواب قد قاربت على نهايتها، فيهربون من الاستحقاق ويلجأون الى تمديد ولاية مجلس النواب المنتخب أصلاً خلافاً للدستور، ويأتي قرار التمديد لولاية المجلس مرة تلو الأخرى مخالفاً للدستور والقانون والمنطق والممارسة الديموقراطية، وتوضع علامة الاستفهام الكبرى كما هو حال المجلس اليوم حول شرعيته وشرعية تمثيله للشعب، وحول دستوريته فيما يسمى وضع رؤوس السياسيين في الرمال تهرّباً من المشكلة الحقيقية، ويحل النواب محل الناخبين عندما يسمحون بالتجديد لأنفسهم مرة واثنتين وربما أكثر في المستقبل، هروباً من مواجهة الواقع، والمشكلة الحقيقية والإقدام بجرأة على معالجتها. وقد وصل التهرّب من معالجة المشاكل الحقيقية الى حد التغاضي عن معالجة خطر لجوء إرهابيين الى جبال القلمون وإمكانية دخولهم الأراضي اللبنانية في عكار والهرمل والبقاعين الشمالي والغربي وحتى الجنوبي الملاصق للحدود مع اسرائيل، معالجة حقيقية وواقعية جريئة، وتفضيلهم الإبقاء على هذا الخطر رغم الاستعداد الذي يبديه الجيش اللبناني لمواجهة هذا الخطر والتصدّي له.
حيرة الديبلوماسيين والموفدين
منذ أن اتخذ مجلس النواب الحالي القرار الأول بتمديد ولايته وتنديد الشعب اللبناني ومعظم الحكومات الغربية التي تحترم الممارسة والديموقراطية والمبادئ الدستورية، ولبنان يشهد زيارات الموفدين الديبلوماسيين والحكوميين وجديدهم قريباً جداً موفد الفاتيكان يبحثون عن جوهر المشكلة والسبب الحقيقي لاستمرار الشغور الرئاسي والإبقاء على لبنان من دون رأس ورئيس. بعض هؤلاء يكتشفون حقيقة المشكلة ولا يقاربونها، والبعض الآخر يدركها ويهرب منها خوفاً من <تسويد> الوجه، والجميع يختتم جولاته ومهامه بالقول الذي أصبح مأثوراً بالنسبة للبنانيين: <انتخاب رئيس للبنان أمر يخص اللبنانيين، وعليهم أن يقرروه وحدهم من دون أية مداخلات خارجية>!
حقيقة وجوهر المشكلة أن ميشال عون يعرف سلفاً ان خصومه لا يريدون انتخابه ولا انتخاب أي مرشح من المرشحين الأربعة الذين سماهم لقاء بكركي <عون وجعجع والجميل وفرنجية> لأن هذا اللقاء شدد على وجوب وضرورة تصحيح الشراكة الوطنية وسن قانون جديد للانتخابات النيابية، وان التهرب والهرب من هذا الواقع تضييع للوقت بدرجة أولى أو ثانية لأن عون يستطيع ان يستخدم ما يعتبره حقاً له بمقاطعة جلسات الانتخاب قبل المقاربة الحقيقية لجوهر المشكلة وحقيقتها، والتسليم بانتخاب رئيس يستند الى قاعدة سياسية وشعبية... والحق في المقاطعة - يقول خصومه - هو حق بالفعل، لكن استخدامه يلحق الضرر بالبلد وسيستمر باستخدامه.
الرئيس أمين الجميل قارب بالفعل حقيقة وجوهر المشكلة بعيد اجتماعه الأخير مع البطريرك الماروني في بكركي عندما أعرب عن توجسّه من ان استمرار الأزمة السياسية (والشغور الرئاسي) على ما هي عليه، ربما يؤدي في نظره أو يقود الى مؤتمر تأسيسي قد يصحح الشراكة الوطنية والممارسة الديموقراطية ويقود الى قانون الانتخابات النيابية الجديدة والى مجلس نيابي يقول فيه الشعب كلمته بدلاً من التمديد الذي أصبح موضة العصر في لبنان.
في أي حال، يرى البعض انه إذا كان حل الأزمة والإنقاذ لا يتمان إلا بعقد المؤتمر التأسيسي الذي أشار إليه الرئيس الجميل، فليكن اللجوء الى مثل هذا الحل بسرعة ومواجهة الواقع بجرأة ومسؤولية قبل فوات الأوان وترك البلاد على كف العفاريت...