بقلم وردية بطرس
قلما ارتبط شاعر بمنزله حياتياً وأدبياً كما الياس ابو شبكة، فها هو المنزل الذي عاش فيه الشاعر الكبير الياس ابو شبكة يتحول الى متحف يتألف من صالة كبيرة تحيط بها سبع غرف تتضمن عرضاً لوثائق ومخطوطات وكتب ومراسلات وصور الحبيبات اللواتي استلهم منهن الشاعر كتاباته، اضافة الى مكتبته الخاصة والكتب المهداة له من كبار الأدباء اللبنانيين والعرب، ومركز توثيق مختص به وصالات عرض، والأثاث الذي استعمله وأدواته الخاصة (مكتبه، قلمه، نظاراته، عصاه، قنديله...). فلهذا البيت مكانة خاصة في قلب الشاعر الراحل ابو شبكة اذ احبه كثيراً حتى دخل عضوياً في معظم كتاباته وكانت له فيه أكثر من ذكرى. هذا البيت يسمّيه أهل زوق مكايل بـ(الحارة) ككل بيت حجري كبير سطحه قرميد، عالي السقف، واسع الدار والغرف، محاط بحديقة او عودة (بالتسمية الزوقية). اعتز ابو شبكة كثيراً بـ(حارته) ارثاً من والده وعمه نخلة ابو شبكة الذي هو ايضاً يملك (حارة) مميزة على مدخل السوق الفوقاني.
قصة بيت الياس ابو شبكة!
ووفقاً لميشال غانم صديق الشاعر ان (حارة) ابو شبكة تعود الى أواخر القرن التاسع عشر صممها مهندس مصري وبناها معمرجيون زوقيون، ورسم نقوش سقفها فنانون نمساويون كانوا يقصدون جبل لبنان للاستجمام بعد انجازهم تزيين قصور السلاطين العثمانيين في اسطنبول. و(الحارة) وفق تسمية العمارة اللبنانية في تلك الحقبة دليل على يُسر صاحبها وبالفعل كان يوسف ابو شبكة والد الشاعر تاجراً ناجحاً معروفاً في لبنان والدول العربية، وكان بيته ملتقى رفاقه التجار والميسورين. فيه وُلدت ابنته البكر ماري وفرجيني. أما الياس الصبي الوحيد فولادته كانت يوم 3 أيار (مايو) 1903 في مدينة (بروفيدانس) عاصمة ولاية رود آيلاند الأميركية خلال جولة سياحية كان والداه يقومان بها الى الولايات المتحدة، وعاد طفلاً معهما الى الزوق ليمضي حياته كلها في ذلك البيت.
ويقع بيت ابو شبكة فوق هضبة جميلة من زوق مكايل البلدة الكسروانية الجميلة على خصر خليج جونيه، ولهذا البيت أثر عميق في تفتح شاعرية ابو شبكة على رومانسيته العاطفية. وفي ذلك البيت ربي ابو شبكة على دلال أبيه الميسور حتى كانت الفاجعة: ذات يوم من 1913 وكان والده في جولة على أعماله وممتلكاته في الخرطوم، وصل الى البيت رئيس معهد عينطورة (حيث كان الياس يتابع دروسه) وأخذ بالصبي قائلاً وهو يربّت على كتفيه: (لا تنتظر أباك بعد اليوم با بني، ابوك صار في السماء) واتضح لاحقاً ان قطّاع الطرق اغتالوه في صحراء مقفرة، واستولوا على ما كان يحمله من مال، ومنذ ذاك اليوم تبدلت حياة الصبي، انقلب اليُسر الى عسر، وتبددت ثروة أبيه مع الدائنين ومع ضيق المعيشة في الحرب العالمية الأولى، حتى اذا انتهت الحرب وجد الفتى نفسه مضطراً الى ترك المدرسة والعمل لتحصيل معيشة والدته وشقيقته وللمحافظة على البيت، وهو فعلاً حافظ عليه بعناد حتى اضطره ضيقه المادي الى الاستدانة ورهن البيت، ولكن بقي الشاعر متمسكاً ببيته على رغم الصعوبات المادية الحادة التي رافقته طوال حياته.
لقد أحب ابو شبكة ابنة بلدة الزوق أولغا ساروفيم، ثم خطبها تسع سنوات متواصلة، وكان يعللها كل فترة بقرب موعد الزواج، أما السبب في التريث فالصعوبات المادية. وأولغا هي (غلواء) التي خطبها سنة 1923 ولم يتزوجها الا عام 1932، وظل يكتب فيها قصيدته الطويلة (غلواء) وينشر منها مقاطع في الصحف والمجلات حتى أصدرها كتاباً عام 1945. وفي هذا البيت كان يحب ان يمضي وقته حين لا يذهب الى ارتباطاته المهنية. وفي هذا البيت كتب قصائده ومقالاته على نكهة قهوته وكركرة نرجيلته ونور السراج، فهو رفض ادخال الكهرباء الى بيته. وفي هذا البيت عاش بدون زوجته معه حتى بعد زواجه، فبقي فيه مع والدته نائلة غصن وشقيقته فرجيني، وبقيت أولغا تعيش في بيت أهلها. وفي هذا البيت زاره ميخائيل نعيمه عام 1933. وفي هذا البيت زاره أدباء كثيرون وسجّلوا مشاهداتهم منهم مارون عبود. وكان البيت دائماً حاضراً في قصة حبه الأخير والأقوى. ففي ذاك البيت كانت ليلى تزوره مصحوبة بخادمتها العجوز اتقاء للألسن الواشية الخبيثة. وفي هذا البيت
ازهرت قصة حبه الكبير، حب ليلى التي عرف معها بعد طول شقاء وانتظار اسعد أيامه وأجمل قصائده. وفي هذا البيت بدأت تظهر عليه آلام المرض الأخير (سرطان الدم) فأخذ يخضع لجلسات طويلة من التدليك ولائحة طويلة من الأدوية والعلاجات.
وظل بيت ابو شبكة مهجوراً ثلاثين عاماً. وعبثاً كتب أصدقاؤه ومحبّوه مقالات لتعمد الدولة اللبنانية الى استملاك البيت قبل ان ينهار على مر السنين. بقيت النداءات تذهب سدى الى ان توافر للزوق رئيس بلدية ممتلىء الطموح والتفكير الحضاري ببلدته وتطويرها لمواكبة العصر، هو المحامي نهاد نوفل الذي سعى بوسائل بلديته المحدودة الى تكريم شاعر الزوق كما يليق به التكريم، فكان وراء انشاء ثانوية الياس ابو شبكة، وعند الفراغ من بناء القصر البلدي في الزوق خصص قاعة للمطالعة فيه باسم قاعة الياس ابو شبكة، وتفتح قاعة المحاضرات في القصر لمهرجانات تكريم ذكرى الياس ابو شبكة، وفي صدرها لوحة زيتية للشاعر اشتراها نهاد نوفل من متحف الفنان جان خليفة. ويُذكر ان بيت الشاعر مرّ بأزمات حادة واجهها رئيس البلدية خلال الحرب، ففيما كان ينهي معاملات استملاك البيت من الورثة ومالكين جدد منقسمين حول توارثه العقاري، جاءت الحرب في لبنان وأفرزت أفواجاً من المهجّرين وجدوا في بيت ابو شبكة المهجور ملجأ لهم. هكذا احتلّه بعضهم فترة ثم جاء فريق آخر فأخلى البيت من محتليه واحتله هو مستعملاً اياه مستودعاً لبيع الأحذية، وأخيراً جاءت عائلة أخرى من المهجرّين فأخلت البيت من الأحذية وأصحابها واحتلته فترة طويلة. ولكن عاد البيت من براثن سبع عشرة سنة احتلالات وأخذ طريقه لتحويله متحفاً بعدما ارتأى رئيس البلدية لتمويل مشروع المتحف ان يبيع نصف العقار الكبير الذي يقوم عليه البيت. وكلّف رئيس البلدية لجنة لتهيئة المتحف وجمع متروكات الشاعر حيث هي لدى أهله وأقربائه وأصدقائه ومحبّيه، اضافة الى تراثه المخطوط والمطبوع ليعود متحفه ذاكرة حية لبيته الذي كان تعلّقه به شديد الأثر.
تكريم بلدية زوق مكايل ابنها المبدع
الياس ابو شبكة!
<الأفكار> زارت متحف الياس ابو شبكة وجالت في ارجائه الذي يختزن بين جدرانه ذكريات عديدة عاشها الشاعر. وكان لنا لقاء مع رئيس البلدية الأستاذ ايلي بعينو ونسأله عن اهتمام البلدية بتحويل منزل الياس ابو شبكة الى متحف فيقول:
- دائماً كل شخص او كل قرية او مدينة لا تنظر الى تاريخها السابق لن تتقدم نحو المستقبل. لقد اتبعنا منذ فترة طويلة اي منذ حوالى 30 سنة سياسة تكريم كل شخص برز في زوق مكايل لأن هذا يحفّز كل الأشخاص على الابداع وبأنه ذات يوم سيُكرمون على عمل قاموا به في سبيل قريتهم ولبلدهم، ومن هذا المنطلق قمنا بهذا العمل. لقد تملّكت البلدية البيت بعد الحرب، لأنه كانت الملكية قد انتقلت من عائلة ابو شبكة الى أشخاص آخرين فاضطررنا ان ندفع المبلغ لاستعادته وتحويله الى المتحف، وبالتالي بعدما كان المنزل قد انتقلت ملكيته قامت البلدية باستملاك العقار وحولته الى متحف. وفي العقار نشأ متحفان: متحف للشاعر الياس ابو شبكة، ومتحف للأديب انطون قازان، اذ كانا صديقين مقربين ولهذا جمعنا المتحفين بالمبنى نفسه، اذ في الطابق الأول يقع متحف الياس ابو شبكة، وفي الطابق الأرضي يقع متحف الأديب انطون قازان، كما أضفنا متحفاً ثالثاً وهو متحف النول وبالتالي اليوم لدى زوق مكايل ثلاثة متاحف وضعت بالخدمة العامة.
وعن ابراز الوجه الثقافي والتراثي لزوق مكايل يقول رئيس البلدية:
- هدفنا هو ابراز تراثنا واحياء سياحة داخلية ضمن زوق مكايل، وبالتالي جذب السائح ليزور متحف الياس ابو شبكة اثناء زيارته للبلدة، فهذا المتحف يخبر الزوار قصة الشاعر وكيف كان يقضي وقته في هذا المنزل، واين كان يتناول وجبة الفطور، وأين كان يجلس بعد الظهر بالقرب من أشجار الصنوبر مقابل منزل حبيبته ليلى اذ لا تزال تلك الأشجار موجودة. طبعاً السائح يقصد زوق مكايل ليزور أيضاً المدرج الروماني والأديرة التي يعود تاريخ بنائها الى 400 سنة والكنائس القديمة والسوق العتيق الذي قمنا باحيائه، اي كل هذه الأمور تجذب السائح ليقضي يوماً جميلاُ في هذه البلدة، وهذا يساعد على تنشيط الحركة الاقتصادية والسياحية في البلدة.
مسؤولة المتحف سيبيل فرزان واقبال تلاميذ المدارس على المتحف!
وتشرح مسؤولة المتحف الآنسة سيبيل فرزان ابنة زوق مكايل عن اهتمام تلاميذ المدارس بالمتحف وتقول:
- اكثر زوار المتحف هم تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات، اذ يأتون ليروا اغراض الياس ابو شبكة، واين كان يعيش وكيف كان يقضي أيامه. وكما رأيت بالسقف هناك رسومات كانت موجودة منذ زمن طويل عندما سكن في هذا البيت ولكن قامت بلدية زوق مكايل بترميم البيت، اذ خلال الحرب اللبنانية وقبلها كانت البلدية تملك المبنى ولكن كان مقفلاً بسبب الحرب والناس المهجرّين الذين دخلوا الى البيت وخربوا المكان ولهذا تطلب عملاً كثيراً لحين افتتاح المتحف.
وتتابع قائلة:
- بالنسبة للمحتويات فيضم المتحف الرسائل، والصور من ارشيفه، والمخطوطات، وبطاقته الصحفية، وبطاقة عرسه مع اولغا ورسائل الى اولغا، ورسائل من اخته التي عاشت في اميركا. وهناك غرفة النوم والتي فيها اغراضه الشخصية مثل
النظارة والقلم وفنجان القهوة، وهناك المرآة والمغسلة، وهناك كتب اهداءات له اذ لديه مكتبة كبيرة متنوعة.
وأضافت:
- غالبية السكان في الزوق يعرفون عن الياس ابو شبكة او عاشوا في الفترة التي سكن فيها في هذا البيت، وبعد احتفال الافتتاح اتى أهالي الزوق الى المتحف ومن خارج الزوق، وطبعاً يقصد تلاميذ المدرسة وطلاب الجامعات المتحف كونهم يدرسون عن هذا الشاعر منذ صغرهم. يفتح المتحف ابوابه على مدار الاسبوع من التاسعة صباحاً لغاية الرابعة بعد الظهر، ويوم السبت من التاسعة لغاية الساعة الثانية بعد الظهر. عادة الناس عندما يزورون الزوق يقصدون المدرج الروماني والسوق العتيق ويأتون الى المتحف لانهم يعتبرون انه مكان جديد، ومثلاً كانت هناك صبية اتت من فرنسا قصدت المتحف بعدما قرأت عن المتحف على (الغوغل). كما نجد الشبان والصبايا يتحمسون لزيارة المتحف بعدما قرأوا عنه في المدرسة اذ يتصورون في غرفة نومه ومكتبته الى ما هنالك. وأيضاً متحف انطون قازان في المبنى الارضي مميز، اذ لطالما ربطت بينهما صداقة اذ كانا مقربين جداً، وبعدما توفي الياس ابو شبكة قام انطون قازان بنقد كتب الياس ابو شبكة واشعاره، ولكنه كان نقداً جميلاً جداً، ومن هنا اتت فكرة ان يُقام المتحف في المبنى نفسه مع متحف الياس ابو شبكة لان كل دراسات قازان كانت تتمحور حول اعمال الياس ابو شبكة.