تفاصيل الخبر

منتـحـــر كـل ثلاثـــة أيــــام فــي لـبـــنـان  

16/10/2015
منتـحـــر كـل ثلاثـــة أيــــام فــي لـبـــنـان   

منتـحـــر كـل ثلاثـــة أيــــام فــي لـبـــنـان  

بقلم وردية بطرس

العام الماضي، كرست منظمة الصحة العالمية يوم العاشر من أيلول (سبتمبر) يوماً عالمياً لمنع الانتحار، بالاشتراك مع <الرابطة الدولية لمنع الانتحار>، وكانت قد أصدرت لهذه المناسبة تقريرها الذي شمل 2172 دولة في العالم، منها 17 دولة من أصل 22 دولة عربية... وكان للأرقام التي ذكرها التقرير عن لبنان وقع الصدمة، اذ أفاد عن وجود منتحر كل ثلاثة أيام، ومع ذلك فإنه وبحسب التقرير، لا يبلغ الأهل عنها لعدم قبول الانتحار كحالة اجتماعية. ولقد كررت منظمة الصحة العالمية الهدف من نشر تقريرها الذي استغرق عقداً كاملاً من السنوات حتى تم انجازه، والهدف نشر الوعي حول خطورة الانتحار وتأثيره من منظور الصحة العامة، مشددة على ضرورة وضع قاعدة بيانات عن حالات الانتحار، وتوثيق هذه الحالات، والكشف عنها من أجل تسهيل وضع استراتيجية مطلوبة وأساليب عمل للتدخل.

تجدر الاشارة الى ان أكثر من 800 ألف شخص يموتون سنوياً من جراء الانتحار، والرقم يرتفع الى أكثر من ذلك إذا ما أُضيف من يحاولون الانتحار، بحسب منظمة الصحة العالمية التي أكدت ان هذا المعدل مرتفع جداً، ما يعني ان الانتحار يقتل شخصاً كل 40 ثانية، ويُعتبر المسبب الثاني للوفاة في العالم لمن تتراوح أعمارهم بين الـ15 و 29 سنة، بحسب الاحصاءات الأخيرة للمنظمة في العام 2012.

وعلى الرغم من كثرة البحوث وازدياد الوعي حول الانتحار وسبل الوقاية منه، يتواصل الحظر المفروض على اثارة هذه القضية ويستمر التعتيم المحيط بها. ووفقاً لخطة العمل لمنظمة الصحة العالمية بشأن الصحة النفسية للفترة 2013 ــ 2020، التزمت الدول الأعضاء بالعمل نحو الهدف العالمي لخفض معدل الانتحار في البلدان بنسبة 10 بالمئة بحلول العام 2020.

ويشعر أفراد العائلة التي فقدت أحد أبنائها بسبب الانتحار أنهم لم يكونوا على قدر المسؤولية، بما أنهم لم يتنبهوا لتصرفات المنتحر ولنمط حياته قبل وفاته. لكن حقيقة الأمر انهم لاحظوها ولكنهم اختاروا التنكر لها طوال الوقت، خوفاً من ان يطرحوا الموضوع ويساهموا في سوء حالته. لكن ما يجهلونه هو ان التحدث بالمشكلة التي قد تودي بالشخص الى الانتحار يخفف من معاناة هذا الشخص ويساعده على ايجاد الحلول، بحسب ما تذكر المنظمة الخيرية البريطانية للصحة النفسية، التي لفتت الى ان عائلة الضحية قد ينتابها أيضاً حالة من الغضب معتبرة ان عمل الانتحار هو عمل أناني.

صحيح ان من يفكر بالانتحار لا يطلب المساعدة، ولكن هذا لا يعني انه ليس بحاجة اليها. فمن يقدم على الانتحار لا يريد فعلاً ان ينهي حياته، بل يريد ان ينهي العذاب الذي يمر فيه وان يكف شعوره بالألم. وتقوم مساعدته على ملاحظة العلامات المحذرة التي تكون ظاهرة في تصرفاته وألفاظه، وأخذها على محمل الجد. ومن الصعب تحديد ما يعانيه الشخص الذي يفكر بالانتحار، اذ قد يعاني من الاكتئاب ومن اليأس، او من مشاكل مادية وعاطفية، فيشعر بعذاب يومي لا يقدر على تحمله ولا يرى أي حل آخر له الا بالموت الذي يرى فيه طريقاً للخلاص. لكن منظمة الصحة العالمية تحذر من ان السلوك الانتحاري، يشير الى التعاسة العميقة، وليس بالضرورة الى الاضطراب النفسي. اذ لا يتأثر كثير من الناس المتعايشين مع الاضطرابات النفسية بالسلوك الانتحاري، وليس كل الناس الذين ينتحرون يعانون من اضطراب نفسي.

ومنذ فترة قصيرة نُشر عن حالات الانتحار في لبنان تقرير أثار القلق في النفوس، اذ تبين انتحار شخص واحد كل ثلاثة أيام في لبنان، وتشير التقديرات الى زيادة نسبة الانتحار في لبنان للعام الحالي بنسبة 25 بالمئة مقارنة مع الأعوام الماضية، وتعود تلك الأرقام الى مصادر قوى الأمن الداخلي، ويُعتبر هذا المعدل أقل من المعدلات التي تسجلها الدول الأوروبية والأميركية، غير ان هناك كثيراً من العوامل الثقافية والدينية والاجتماعية التي تطمس حالات الانتحار في لبنان، ما يدل على وجود عدد أكبر من الحالات.

ففي لبنان تشهد وتيرة ظاهرة الانتحار ارتفاعاً ملحوظاً متجاوزة المئة حالة سنوياً بشكل يدفعنا الى الاستغراب والقلق. فبحسب احصائيات قوى الأمن الداخلي، تسجل حوادث الانتحار نسبة مرتفعة اجمالاً في لبنان، حيث سجل العام 2009، 112 حادثة انتحار اي بمعدل 9 حالات شهرياً، وبلغ عدد حوادث الانتحار في عام 2010، 107 حالات اي بمعدل 9 حالات شهرياً، أما في العام 2011 فوصل العدد الى 102 اي بمعدل 8 حالات شهرياً، واليوم تزداد حالات الانتحار أكثر مما كانت عليه في السنوات الأخيرة.

 

انتحار... المراهقين

وأشارت التقارير الأمنية الى ان اسلوب الانتحار في لبنان يعتمد بشكل أساسي على اطلاق النار في الرأس أو الشنق، ولا يتركز الانتحار في منطقة معينة بل ينتشر في الأراضي اللبنانية كافة. اما أسباب الانتحار في لبنان وخصوصاً لدى المراهقين والشباب فهي عديدة، منها تزايد الاضطرابات النفسية في أماكن عدة في العالم، وقد انتشرت بدورها في لبنان بفعل عدوى العولمة واستشرت في مجتمعات كانت في الماضي أكثر أماناً واطمئناناً، وفي مقدمتها المجتمعات الشرقية المحافظة والمتدينة وأولها لبنان. أما عن الأسباب، فغالبية حالات الانتحار في لبنان تقع لأسباب معيشية ومادية، في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها اللبنانيون في مجتمع يرزح فيه المواطن تحت ضغوطات الحياة والمشاكل الاقتصادية والسياسية المتأزمة والمشاكل الاجتماعية المتفشية، الأمر الذي يؤدي الى ازدياد حالات الاكتئاب.

أما أساليب الانتحار في لبنان بحسب التقارير الأمنية، فتعتمد بشكل أساسي على اطلاق النار في الرأس او الشنق او استخدام مواد سامة او كمية كبيرة من المخدرات دفعة واحدة، وتُعد صخرة الروشة قبلة المنتحرين في لبنان حيث يقفز منها كثيرون رغبة في انهاء حياتهم، كما أن ظاهرة التونسي <البو عزيزي> أخذت في الانتشار تدريجياً حيث يقدم الشخص على اضرام النار بنفسه. وتجدر الاشارة الى ان الشاب التونسي طارق الطيب محمد البوعزيزي كان قد قام في العام 2010 باضرام النار في جسده أمام مقر ولاية سيدي بوزيد احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية في المدينة لعربة كان يبيع عليها الخضار والفاكهة لكسب رزقه، وتنديداً برفض سلطات المحافظة قبول شكوى أراد تقديمها في حق الشرطية فادية حمدي التي صفعته أمام الملأ وقالت له بالفرنسية: <Degage> اي ارحل، فأصبحت هذه الكلمة شعار الثورة للاطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي، وكذلك شعار الثورات العربية المتلاحقة، وقد أدت تلك الحادثة لانتفاضة شعبية وثورة دامت قرابة الشهر في تونس أطاحت بالرئيس بن علي. أما الشاب محمد البوعزيزي فقد توفي بعد 18 يوماً من اشعاله النار في جسده. ولقد أضرم على الأقل 50 مواطناً عربياً النار في أجسادهم لأسباب اجتماعية مشابهة تيمناً باحتجاج البو عزيزي الذي أُقيم تمثال تذكاري تخليداً له في العاصمة الفرنسية <باريس>.

 

الانتحار حسب الدكتور نجار

فما الذي يدفع بالانسان الى الانتحار؟ ولم تزداد حالات الانتحار في لبنان؟ تلك وغيرها من الأسئلة طرحتها <الأفكار> على الدكتورة ديالا نجار (وهي حائزة على الدكتوراة في العلاج النفسي، ومجازة من <البورد> الأميركي (علاج الفرد، الطفل، العائلة والزوجين). درست علم النفس لدى الجامعة الأميركية في بيروت، ثم انتقلت الى الولايات المتحدة حيث أكملت دراساتها العليا ونالت شهادة الماجستير في علم النفس لدى جامعة <بوسطن>، وأيضاً الدكتوراة في علم النفس من جامعة <California School Professional Psychology> في <لوس أنجلوس>، ثم درست لمدة سنة <Post- Doctoral Fellowship>، لتعود بعدها الى لبنان في العام 2004 وتعمل لمدة ثلاث سنوات في مجال علم النفس العيادي في مستشفى الجامعة الأميركية، كما عملت في عيادتها الخاصة حيث عالجت العديد من الأشخاص الذين حاولوا الانتحار).

ونسأل الدكتورة ديالا نجار:

ــ هل تظهر عوارض لدى الشخص قبل ان يقدم على الانتحار خصوصاً اذا كان مصاباً بالاكتئاب؟

- تتمثل العوارض بمظاهر عدة، أولاً: بفقدان الحافز او الدافع، كأن لا يعود المصاب بالاكتئاب يرغب القيام بشيء مثل الدراسة والعمل وتمضية أوقات مسلية مع الأهل والأصدقاء، وبالتالي لا يعود لديه اي حافز للقيام بشيء. ثانياً: يبقى الشخص مكتئباً طوال اليوم وتقريباً كل يوم. ثالثاً: فقدان الرغبة في القيام بالأمور التي كان معتاداً على القيام بها من قبل مثل التسوق او السفر او السهر او السباحة الى ما هنالك... اذ يتوقف فجأة عن القيام بهذه الأمور، ولهذا يجب على الأشخاص المقربين منه ان يلاحظوا هذا التغيير وان يتساءلوا لماذا توقف عن ذلك. رابعاً: يجب ان يتساءل الأهل عما اذا كان المريض يعاني من الأرق او انه يستيقظ أثناء الليل او انه يستيقظ باكراً ولا يستطيع ان ينام، أو إذا كان ينام نوماً عميقاً ولا يرغب بالاستيقاظ وكأنه يهرب من حياته وحالته. تجدر الاشارة هنا الى أن النوم لوقت طويل هو هروب من الواقع، ولهذا يسمونه علماء النفس بـ<الهروب الأقصى>، وكأن الشخص غير موجود اذ يبتعد عن الناس فينام لساعات طويلة.

وتتابع الدكتورة نجار:

- خامساً: يجب التنبه ما اذا حدث تغيير في سلوك الشخص، اذ قد يكثر من تناول الطعام او يفقد الشهية تماماً، ففي حالة الاكثار من تناول الطعام يؤدي ذلك الى زيادة الوزن، وفي حالة فقدان الشهية يخسر الشخص 5 بالمئة من وزنه. سادساً: يخف نشاط الشخص او يزداد أكثر، فأحياناً قد يفقد الشخص الثقة بنفسه، كما يحدث لديه هبوط في نسبة التركيز والانتباه والذاكرة، وهذا يؤثر على حياته وانتاجه. سابعاً: فقدان الأمل، والتشاؤم، والشعور بالعجز، وأخيراً يفكر بالموت وتساوره أفكار انتحارية. اذاً يجب التنبه لكل الأمور التي ذكرتها للتمكن من انتزاع فكرة الانتحار من مخيلة الشخص، والا سيقدم على الانتحار بدون اي تفكير.

 

انتحار.. الصغار

ــ وهل يقدم الصغار على الانتحار أيضاً؟

- من الضروري التنبه الى أن الصغار كذلك يقدمون على الانتحار لأنهم لا يدركون تماماً ان الموت هو النهاية وأنه لا يمكن استعادة الحياة، وهناك مثال حي على ذلك في اليابان حيث وقعت حالات انتحار لدى العديد من التلاميذ الذين كانوا قد نالوا علامات متدنية في الامتحانات، معتقدين انه بامكانهم الهروب من المشكلة من خلال الاقدام على الانتحار على اعتبار أن أهاليهم سيهرعون لمساعدتهم وايقاظهم من الموت، اذ ظنوا بأن الانتحار هو حالة من النوم ويمكن انقاذهم وما شابه. من هذا المنطلق نركز كاختصاصين في علم النفس على هذه الأمور التي قد تبدو عادية ولكنها تؤدي الى مشاكل عديدة، فعندما يقصدني الأهل وهم يصطحبون ابنهم الذي لم يعد ينال علامات جيدة في المدرسة كما في السابق، أساله أولاً عما اذا كان يشعر ببعض العوارض لأتمكن من تبيان اذا ما كان مصاباً بالاكتئاب ام لا، وذلك للتمكن من معالجة الحالة قبل الوصول الى الانتحار.

الدكتورة-ديالا-نجار1ــ وبرأيك كاختصاصية في علم النفس، لماذا تزداد حالات الانتحار في لبنان خصوصاً ووفقاً لتقرير قوى الأمن الداخلي العام الماضي ان شخصاً واحداً ينتحر كل ثلاثة أيام؟

- نرى اليوم ان حالات الانتحار في لبنان تتزايد، وهذا يثير القلق ويجب التنبه لهذا الواقع المرير. وهناك أسباب عديدة تقف وراء تلك الظاهرة، نظراً للشعور بعدم الأمان والرغبة في مغادرة البلاد والسفر الى بلد آمن يوفر للناس احتياجاتهم ويحقق لهم أهدافهم وطموحاتهم، إذ هناك قلق دائم جراء الوضع الأمني المتوتر، واليوم يشعر الناس بالخوف أكثر لا سيما ان المنطقة تشهد حروباً ونزاعات، ناهيك عن أعمال العنف والمجازر وعمليات الذبح التي تظهر على شاشات التلفزة مما يجعل الناس في حالة قلق دائم، انما طبعاً ليست هذه الأمور التي تدفع الشخص للاقدام على الانتحار بل هناك الاكتئاب الذي يودي بالشخص الى الانتحار. وأكثر الناس عرضة للانتحار عادة هم الأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية او تراودهم الرغبة بالانتقام أو الذين يدمنون على المخدرات والكحول اذ يُصابون باحباط ويفقدون الأمل ولا يشعرون بالأمان، ولهذا يجدون في الانتحار حلاً لوضع حدّ لمعاناتهم وعذابهم. اذاً هذه هي العوامل التي تدفع الشخص للاقدام على الانتحار.

لبنان الثاني بعد اليابان

وتتابع الدكتورة ديالا نجار:

- تفيد التقارير ان لبنان كان البلد الثاني في عام 2002 من حيث نسبة الإصابة بحالات الاكتئاب بين بلدان العالم، ولكن بعد العام 2006 أصبح لبنان في المرتبة الأولى. كما كان لبنان البلد الثاني من حيث تزايد أمراض القلق بعد اليابان. واذا نظرنا الى العوامل التي تدفع باللبناني الى الانتحار فهي عديدة فمثلاً: رب الأسرة الذي لا يقدر ان يعيل أسرته ويوفر لأولاده المأكل والمشرب والمسكن أحياناً، لا يجد حلاً سوى ان يضع حداً لحياته، وكم من حالات انتحار وقعت في السنوات الأخيرة سواء لأسباب عائلية او مادية او نفسية وغيرها، وهي في ازدياد مستمر. هنا يجب التذكير بأمر مهم الا وهو ان هناك نسبة عالية من اللبنانيين مصابون بالاكتئاب ولا يجب تجاهل الأمر او التغاضي عن هذه الحالة النفسية ويجب معالجتها قبل الوصول الى الانتحار. ولكن بالرغم من كل شيء لا يزال الحديث عن الانتحار من المحرمات <تابو>، وهناك عائلات تخفي الأمر حيث تقول بأن فقيدها تعرض لحادث سير وما شابه، ولا تفصح بأنه انتحر خوفاً من أقاويل الناس.

وأضافت:

- وكلما ازدادت المشاكل الأمنية والاقتصادية كلما زادت معها حالات الاكتئاب، لذلك يجب معالجة الاكتئاب تفادياً لحدوث الانتحار. ولقد نُشرت تقارير عديدة تفيد بان نسبة عالية من الشعب اللبناني تعاني من الاكتئاب، وبالتالي لا يمكن تجاهل الأمر، واذا لم يتدارك الناس هذا الواقع ستزداد حالات الانتحار اكثر... وقد يظن البعض ان حالات الانتحار تحدث لدى العائلات الفقيرة حصراً، غير ان هذا غير صحيح، اذ نتنبه كاختصاصين في علم النفس ان الشخص الغني يقدم أيضاً على الانتحار أحياناً حتى لو توفر له كل ما يحتاجه الانسان من حياة مترفة وأمان وغيرها من الأمور، وبالتالي ليس صحيحاً ان الانسان الفقير فقط يقدم على الانتحار بل الغني قد يقدم على ذلك أيضاً، والأمر ليس محصوراً بفئة او عمر معين.