تفاصيل الخبر

”منجرة“: تراث طرابلس وحرفيوها المهرة ما بين لبنان وفرنسا!

04/10/2019
”منجرة“: تراث طرابلس  وحرفيوها المهرة ما بين لبنان وفرنسا!

”منجرة“: تراث طرابلس وحرفيوها المهرة ما بين لبنان وفرنسا!

 

 

بقلم عبير انطون

مبادرة مهمة لدعم قطاع تصنيع الأخشاب والأثاث في طرابلس اطلقتها <منجرة> وهي العلامة التجارية المنبثقة من مشروع هو <جزء من برنامج تطوير القطاع الخاص في لبنان المموّل من الاتحاد الأوروبي والمنفّذ من الوكالة الفرنسية للخبرة الفنية الدولية <اكسبرتيز فرانس> وشركاء محليين.

 المعروضات الحرفية التي صممها مختصون ونفذها نجارون وحرفيون من طرابلس لاقت اقبالا واسعا في <بيت أمير> في بيروت حيث ازدهت، وقد تجوّل المهتمون ما بين مجموعتي <منجرة> و<منجرة اديشين> التي سبق وعرض منها في باريس ايضا، ناقلة على جناح الخشبيات المهنية العالية والعراقة المعروفة للطرابلسيين في هذا المجال.

 جولة <الأفكار> وحديثها الى المصممين والحرفيين المنفذين ووقوفها عند بعض الاعمال، لم تشكل سوى نموذج صغير او <ناطق بلسان> كل من يعملون في القطاع داخل <منجرة> او خارجها. فما كانت هذه الاعمال، ما الفوائد التي تعود بها هذه المبادرة على حرفيي طرابلس واية أفاق وفّرتها الزيارة الى العاصمة الفرنسية حيث فتحت السفارة اللبنانية صالاتها لاحتضانها ما بين السابع والثامن عشر من ايلول (سبتمبر) الماضي؟

لا يختلف اثنان حول المهارة التي يتفرّد بها منتجو المفروشات في طرابلس، المدينة العريقة التي جمعت عصارة الحقبات والحضارات المتعاقبة التي مرت بها لتنفخ الروح في الخشب والاثاث منذ 150 عاما جاعلة منها قطعا ولا أجمل تحمل الجودة العالية والذوق الرفيع. لكن الصناعة هذه تواجه منذ الحرب الاهلية حتى اليوم تحديات جمة على مختلف الصعد، امنية واقتصادية وتنافسية.

وبهدف مساعدة القطاع الذي الى قيمته الابداعية، يشكل مصدر رزق للعديد من العائلات اللبنانية، فتحت <منجرة> من خلال مبادرتها نافذة ضوء مهمة عليه، وسهّلت لمنتجي المفروشات سبل الاستمرار وتسويق اعمالهم من خلال منصة <منجرة> التي تستقر في مبنى قديم ضمن معرض رشيد كرامي الدولي لتقديم مجموعة متكاملة من الخدمات بحيث توفر مكانا للعمل والتواصل بين كافة الاطراف ضمن سلسلة الانتاج من نجارين ومصممين ومستهلكين، كما سهلت تسويق الاعمال اما عبر التواصل المباشر او عبر المنصة الالكترونية أكان بالنسبة للمشاريع الكبرى او التصاميم المنزلية تحت عناوين اربعة عريضة تشكل قيم <منجرة> وتتلخص بالدقة والمرونة والتنوع والأصالة.

اليد باليد..!

 

 سياسة <مسك اليد> التي انتهجتها المبادرة، لم تقتصر على العرض والتشجيع انما دخلت في تطويره عبر اجراء دورات تدريبية لتنمية القدرات والمهارات ليس في مجال التصنيع وحده، انما ايضا في التسويق والادارة والمحاسبة المالية فضلا عن تدريبات تقنية في الرسم الثلاثي الأبعاد، مع اتاحة المزيد من الفرص لتسويق المنتوجات في لبنان والدول المجاورة. وسياسة <مسك اليد> هذه كانت القيّمة الفنية على المعرض المهندسة هلا مبارك قد اختصرتها بقولها انه فيما نشهد تهافتا على التكنولوجيا والذكاء الصناعي، ثمة فئة كبيرة ممن قرروا ان يسلكوا الدرب المعاكس بحثا عن البصمة الاصيلة والمشاعر، متسائلة: ما هو التصميم الاخلاقي إذا لم يكن الذهاب لملاقاة الآخر؟ ذاك الذي في أمس الحاجة الى من يمسك بيده ليتمكن من الصمود ومواصلة مسيرته الحرفية، مؤكّدة على الدور الذي يضطلع به مصمم اليوم في الدفاع عن التاريخ والتقاليد والجذور وهويتنا، داعية الجمهور الى مساندة المعرض وإعادة الثقة بالانتاج المحلي عموما، وهذا ما وافتها <الأفكار> اليه.

 

فرادة.. وتطوير!

 

هنا، في <بيت أمير> خلف كل تحفة قصة يخبرك تفاصيلها من شارك بابداعها تصميما او تنفيذا. ففي المعرض مصممون معروفون سبقتهم شهرتهم في لبنان والخارج، وحرفيون حولوا الفكرة قطعا محسوسة ملموسة.

 المهندسة الداخلية سحر بزري كانت اول من تحدثنا اليها في المعرض، وسألناها عن الطريق التي سلكها تصميمها الجذاب حتى استقر في احدى الغرف الجميلة فأجابت:

- لما تواصلوا معنا كمصممين للعمل في هذا المشروع مع نجارين من طرابلس بهدف اعادة انعاش الحرفة العريقة في المدينة لم اتردد وكذلك فعل المصممون الآخرون. الوقت كان ضاغطا جدا للانتهاء، ما شكل نوعا من التحدي خاصة واننا نتعرّف على نجارين جدد نتعاون معهم للمرة الأولى. وقد طلب منا ان يكون النموذج <بروتوتيب> الذي نصنعه هو المنتج النهائي.

هل كانت سحر من اختار الحرفي المنفّذ لفكرتها؟

بالنفي تجيبنا وتشرح:

- ليس نحن من نختار بل القيمون على المشروع، وذلك بحسب التصميم الذي نبتكره، وهم يوزعونهم علينا بحكم خبرتهم وعلمهم بما يستطيعون اتقانه وما يتناسب مع الفكرة المطروحة، فهذا بارع بالحفر، وذاك بالتطعيم الخ..

وعن فكرة <موشن> او <إ - موشن> وهو العنوان الذي اعطته لتصميمها فتشرح المهندسة أنها استمدته من طرابلس ومينائها وبحرها، مضيفة:

- كوني معروفة باستخدامي اللمسات المستقيمة في تصاميمي ارتأيت ان استخدمها هنا ايضا ولو من غير تناسق في ما بينها <شي طالع شي نازل>، تشبه موج البحر وتحمل <نعومة> ملحوظة وبثا للحياة في مواد صلبة من الخشب والمعادن...

 التنفيذ للتصميم اتى بالقدر المتقن الذي عملت فيه بزري بعناية على تصميمها هي التي اطلقت منذ سنوات خطها الخاص لانتاج اثاث عملي ومبتكر في آن واحد وتشارك لهذا العام في أسبوع ميلانو للتصميم. كان الاشراف متواصلا تقول، وخلال اسبوعين كان العمل منجزا. وهذا التعاون فتح بابا لتعاون دائم مع حرفيي طرابلس:

- <ربحوني كزبونة>.. فبعد أن شاهدت بام العين الاتقان الذي عملوا به فمن الأكيد انني سأعود في تنفيذ مشاريعي اليهم، وهنا أشكر <منجرة> والاتحاد الاوروبي و<اكسبرتيز فرانس> خاصة وانهم اتاحوا للحرفيين بشكل خاص التعرف على ما هو جديد، فقصدوا باريس وزاروا المعامل والفبارك فيها، ليطّلعوا على الجديد في المجال والتطور الذي يشهده اكان من ناحية الخشب او التصاميم أو المواد المستخدمة..

 

المعلم هاغوب..!

 

بعد سحر استوقفتنا سجادة معلقة مصنوعة من القماش والخشب (من تصاميم شركة "ماد ارشيتكتور" وتنفيذ شركة "أوكاجيان")، ومجموعة من الرفوف الخشبية التي يمكن طيها وتشكيلها بالشكل الذي يريده لها مستخدمها وعنوانها <طبقات الزمن>. <رفوف خشبية لينة؟ بتطعج>؟ كيف ذلك سألنا منفّذها فاهي اوكاجيان وهو واحد من الإخوة الثلاث، أصحاب شركة أوكاجيان، وعدنا معه الى انطلاقته في المجال..

 انا ابن المينا في طرابلس ــ يقول لنا فاهي ــ درست <هندسة الروبوتات> أما مهنة الاثاث والنجارة فقد ورثناها عن والدنا الذي اسسها في العام 1971 واكمل ابي من بعدهم، وقد أضحت بالنسبة لنا شغفا وليست عملا. نحن اليوم الجيل الثالث لعائلتنا فيها. ثلاثة اخوة، مهندسان واستاذ في الرياضيات تركنا عملنا لنبقى في مهنتنا ونطورها فاضحى اخي المهندس الداخلي مسؤولا عن قسم التصميم، واستاذ الرياضيات رئيسا للانتاج فيما اتولى انا مسؤولية التسويق والتطوير في شركتنا .

وبعد وقفة قصيرة يزيد فاهي:

- اذكر ونحن صغار، كان لا بد لنا في العطلة الصيفية ان نترك الشاليه لننزل الى المصنع لمدة شهر ونصف الشهر، فنتعلم <المصلحة> علها وكما كان الوالد يقول لنا <تشكل بابا ان سدت الدنيا في وجهكم الأبواب الأخرى> فكنا، ننظّف ونمسح الغري والخشب، ندقق في التصاميم، وكان ممنوعا علينا ان ننادي والدي إلا بـ<معلم هاغوب> وعشنا مراحل الانتاج كلها من الفها الى يائها. بات المصنع اليوم شركة ومكتب هندسة. تسعون بالمئة من عملنا هو لبيروت ونسعى الى ان نصدر الى خارج لبنان. ما نتميز به محاولتنا الحثيثة لمواكبة عالم الموضة بادخال مواد جديدة على الخشب كالنحاس والستينليس ستيل والحديد والزجاج وقد أضحت هذه المواد جزءا لا يتجزأ من عالم المفروشات اليوم. نلحق <التراند> انما بمستوى تنفيذ عال، ونسعى لان تكون لكل مشروع هوية خاصة تعكس شخصية الزبون الذي نتعامل معه. فمع الجيل الجديد المتأثر بالانترنت، ما عاد يمكننا البقاء عند مرحلة الـ<الغلوري بيريود> واثاث لويس الخامس او السادس عشر. نحن لا نقوم بانتاج كمّي من الموديل الواحد انما نسعى الى تخصيص الزبون بما يتفرد به في بيته، وسوقنا اللبناني لا يحتمل الـ<ماس بروداكشن>، كذلك فإن البضاعة الاجنبية يمكن ان تغزونا بسرعة وتأكل السوق لذلك نحرص على اعلى قدر من الجودة حتى نكسب ثقة الزبون، وهو العنوان الاول لسبب استمراريتنا.

 

احلى جلسة..!

 من فاهي انتقلنا الى الـ<جلسة> مع الحرفي العريق ايلي مشحّم التي نفذها للمصمم فالديمار فضول، وهي تجمع ما بين شرق وغرب، وما بين طاولتي نرد وشطرنج، مع كراسٍ صغيرة نعرفها جميعا نحن اللبنانيين. نتوقف عندها فيشرح ايلي ما صنعت يداه هو ابن المهنة التي بدأها اجداده منذ ما قبل الاستقلال وشكلت علامة فارقة في عاصمة الشمال:

- كل ما ترونه عمل يدوي حرفي بامتياز. هذه طاولة شطرنج، يفتح جارورها من جانب لآخر وهي من خشب الزين الروماني وقشر الجوز الاميركي، مطلية بما يرتكز على الماء لاننا عرضناها في فرنسا حيث يمنع ادخال اية مواد، وهي صديقة للبيئة، ويمكن طيها فتقف مستقيمة من دون ان تتطلب مساحة كبيرة، والامر سيان بالنسبة لطاولة الزهر التي نجدها في غالبية البيوت اللبنانية، اما الكراسي الصغيرة والتي نسميها <طبلية> فجوانبها مطعّمة بالصدف، اما الجلد الطبيعي المصنوعة منه فايطالي طبيعي، ومساميرها النحاسية المانية ما يجعلها <للعمر كله>..

<طلعتنا> الى باريس كانت جيدة، يقول ايلي، وبين اهدافها فتح سوق في مجالات عدة لحرفتنا الطرابلسية. لديهم في الغرب ابداعاتهم، ولنا ايضا ما يميّزنا ويتوقفون عنده، وهم يعطون قيمة حقيقية للاشغال اليدوية الحرفية.

ولما نسأله عن وضع سوق الاثاث والمفروشات في طرابلس حاليا يجيبنا:

- انها انعكاس للسوء في الوضع الاقتصادي ككل الا اننا مستمرون بجهدنا وتعبنا، ومع ان البعض الكثير بات يفضل الجاهز <الاخف كلفة>، يبقى لكل سوق زبائنها.. فليس <كل ما يلمع في المفروشات ذهبا>، وذهب المهنة في طرابلس خشبها المتين وجودة صناعتها ونحن حريصون عليها.