تفاصيل الخبر

مَن يربح سباق الإنتفاضات: الجوع أو الجشع؟ 

03/06/2020
مَن يربح سباق الإنتفاضات: الجوع أو الجشع؟ 

مَن يربح سباق الإنتفاضات: الجوع أو الجشع؟ 

بقلم خالد عوض

[caption id="attachment_78507" align="alignleft" width="410"] أعمال الشغب والنهب في نيويورك لا تؤثر على... البورصات[/caption]

من الغريب بل أصبح حقيقة من المزعج، أن نرى البورصات الأميركية (والعالمية) ترتفع بعد عطلة نهاية الأسبوع المنصرم، أي بعدما شهدت شوارع عشرات المدن الأميركية ليالي طويلة من الإحتجاجات وظلت ملتهبة وتعج باللصوص والمخربين الذين استغلوا المظاهرات السلمية للتخريب والأذى. كيف يمكن لأسهم الشركات الأميركية أن لا تأبه لكل ما يحصل على الأرض؟ وأن يتعامل المستثمرون مع البورصات وكأن غضب الشارع هو في عالم آخر بينما مركز البورصات في شارع "وول ستريت" في مدينة نيويورك لا يبعد أكثر من ثلاث دقائق عن المتاجر والمحلات التي تم نهبها وإحراقها؟

كلام كثير قيل عن الأسباب الدفينة لغضب الشارع، أي إتساع التفاوت الإجتماعي والزيادة غير المسبوقة في نسبة البطالة والعنصرية المتجذرة في جوانب كثيرة من المجتمع الأميركي والنسبة المتزايدة في نسبة الفقر والضغط النفسي من جراء الحجر الصحي. كلها ربما صحيحة... ولكن إرتفاع البورصات تزامنا مع تفشي الغضب والعنف في شوارع المدن الأميركية يفسر الكثير مما يحصل حاليا في الولايات المتحدة وفرنسا وقريبا ربما في دول عديدة أخرى.

الهروب إلى... الفضاء

يوم السبت الماضي اطلقت شركة "سبايس أكس" من ولاية فلوريدا أول صاروخ مأهول لشركة خاصة وعلى متنه رائدا فضاء من الوكالة الأميركية للفضاء "الناسا". مؤسس الشركة الكندي-الأميركي "ايلون ماسك" بدأ بالتحضير لهذا الحدث منذ سنة ٢٠٠٢ عبر شراكة مع "الناسا" أي مع الحكومة الأميركية. رؤيته هي أن كوكب الأرض سيصبح محدود الموارد ومحكوما بالذكاء الإصطناعي ولا يمكنه إستيعاب الكثافة السكانية لذا لا بد من وجود منافذ جديدة للإنسان خارج الأرض. في اليوم نفسه كانت المظاهرات تعم المدن الأميركية وتأخذ طابعا عنفيا لم تشهد مثله منذ نيسان (ابريل) ١٩٦٨ عندما اغتيل الناشط الأميركي الأسود "مارتن لوثر كينغ". وسنة ١٩٦٨ كانت محورية أيضا لأنها عكست بداية خسارة الأميركيين للحرب في فيتنام، وفي الوقت نفسه كانت "الناسا" تؤكد موعد أول رحلة إنسانية إلى القمر والتي تحققت مع "صاروخ أبولو ١١" في تموز (يوليو) ١٩٦٩. بعض المؤرخين وجدوا تشابها كبيرا في الأحداث. فما أحدثه فيروس "كورونا" الذي تسبب حتى الآن بمقتل حوالى ١١٠ آلاف أميركي هو بفظاعة حرب فيتنام التي تسببت بمقتل وفقدان ستين ألف جندي أميركي، ومقتل "جورج فلويد" الأسود على يد الشرطي الأميركي في ولاية "مينيسوتا" يشبه إغتيال الزعيم المناهض للعنصرية "مارتن لوثر كينغ" على يد جندي سابق في الجيش الأميركي، والإنجاز الفضائي "أبولو" في سنة ١٩٦٩ هو مثل رحلة "سبايس إكس" عام ٢٠٢٠. هذا الإنفصام بين الواقع المرير على الأرض والنظرة الجبارة إلى الفضاء يعبّر عن المنافسة الإجتماعية المحمومة بين ما يسمى الحلم الأميركي ونجاح النخبة الخلاقة وبين قيم العدالة والمساواة التي بني عليها دستور الولايات المتحدة.

الحكومات تعمل عند.. الشركات

[caption id="attachment_78508" align="alignleft" width="444"] مؤسس شركة "سبايس أكس" "إيلون ماسك": الفضاء أسلم من... الأرض[/caption]

عشرات آلاف الشباب الذين تظاهروا في الولايات المتحدة وفرنسا وحتى في لبنان والعراق ودول أخرى في العالم غاضبون من الجهة نفسها: الأنظمة الفاشلة التي عجزت على مدى سنوات عن حل مشاكل تبدو ظاهريا غير عصية على الحل ولا يلزمها إلا قرارات جريئة لا تتحكم فيها المصالح. العنصرية مثلا هي مشكلة لم يعد جيل الألفية الثالثة يقبل أن يتعايش معها ولن يهضم بعد اليوم أن تتخفى وراء أنظمة تبقى على الورق. كما قد تكون الضرائب غير العادلة والتفاوت الطبقي وتراجع القدرة الشرائية وزيادة غنى الاغنياء مقابل تفاقم الفقر وغيرها من المظاهر السلبية للرأسمالية مشاكل مشتركة بين الشعوب، ولكن يبقى المتهم واحداً: الأنظمة. هناك ثورة ضد الظلم والفساد هنا وضد العنصرية هناك، وضد الضرائب في مكان آخر، ولكن القاسم المشترك هو غضب يتنامى من طبقة سياسية عاجزة وبطيئة، تفتقد إلى الصدقية نظرا لتعاظم حجم مراكز القوى وتأثير المصالح المالية على السياسة. الشركات أصبحت أقوى وأغنى من الحكومات ولذلك تبدو الأخيرة ضعيفة وعاجزة. ليست المسألة جنوحا مستجدا إلى الإشتراكية واستفاقة متأخرة ضد الرأسمالية المتوحشة بقدر ما هي تذمر من طبقة حاكمة لا تجاري سرعة العصر التي تختصرها اليوم مواقع التواصل الإجتماعي. الأنظمة القضائية والتشريعية والتنفيذية بطيئة بينما القرارات المالية تمشي بسرعة البرق. آلاف المليارات من الدولارات أو اليوروهات ضختها الحكومات خلال أيام لإنقاذ الإقتصاد من تبعات "كورونا"، بينما يستغرق حكم قضائي أو قانون تشريعي أو تغيير إداري عدة سنوات. البورصات تحلق والناس تئن. ما يحصل اليوم في شوارع بيروت ونيويورك فيه الكثير من الشبه. الناس تريد أن تعمل الحكومات بالسرعة نفسها من أجل شعوبها ومن أجل القيم التي تليق بها وليس فقط من أجل دعم بورصاتها أو... مصارفها.

 

الشيزوفرانيا... الإقتصادية

 

من السخرية أن يطمئن المستثمرون اليوم كلما يرون أي أزمة إقتصادية أو إجتماعية، فنتيجة ذلك بالنسبة لهم ستكون مزيدا من الأرباح لأنها ستستتبع حتما قرارات سريعة من الحكومات والبنوك المركزية لضخ مزيد من المال في الإقتصاد عبر الإستدانة وطبع العملة. لا يهم حجم الديون أو خطر التضخم أو أي عبء سيتحمله جيل الغد. هناك مثال صارخ يقارب حالة الواقع ويعكس ما يحصل في البورصات. منذ أيام وفي عز الغضب في الولايات المتحدة كانت أسهم شركتي السلاح "سميث اند ويسون" و"ستورم روجر" ترتفع أكثر من عشرة بالمئة. السبب: إقبال الأميركيين على شراء السلاح! وبدل أن يخاف المستثمرون من تبعات إنتشار السلاح بين الناس بشكل لم يحصل في التاريخ يقبلون على شراء أسهم الشركات التي تبيعه فقط لجني الأرباح. مصائب الناس عند المستثمرين فوائد. في لبنان حققت المصارف أعلى الأرباح وعلى مدى سنوات عندما كانت الأحوال الإجتماعية في البلد تسوء كل يوم والوضع السياسي والإقتصادي يتجه نحو الحضيض. هذا الإنفصام بين عالم المال والإقتصاد الحقيقي هو مرآة لمشكلة النظام العالمي اليوم. وبدل أن تبادر الحكومات إلى حلول جذرية تهرب إلى الديون فتنفخ الفقاعة المالية أكثر وأكثر. تأجيل إنفجار البالون المالي لا يمكن أن يستمر إلى الأبد.

من المبكر جدا أن نستقرئ إلى أين تتجه الأحداث في العالم وأي نظام عالمي جديد نحن مقبلون عليه... ولكن المؤكد أن مشاهد المظاهرات في مدن الغرب ستحتل صدارة الأخبار لمدة غير قصيرة.