كل المنطقة الآن، ومعها العالم، أسيرة الوقائع مرة، والتوقعات مرة أخرى. والوقائع تقول إن قوات <داعش> تملك السيطرة على بلدة <عين العرب> أو <كوباني>، والتوقعات تشير الى أن بغداد على عتبة السقوط في قبضة <داعش> بعد اجتياحها لمنطقة الأنبار. وفي الوقائع أيضاً أن سنة منطقة الأنبار غير متحمسين لتفكيك قوات <داعش>، لأن البديل سيكون مزيداً من الاضطهاد الذي ذاقوا مرارته زمان حكم نوري المالكي، فلماذا يقاتلون <داعش> إذا كان المستقبل غامضاً وغارقاً في بحر الظلمات؟
والوقائع تقول إن مسؤولاً أميركياً له وزنه في القرار الأميركي، ورفض أن يذكر اسمه، أعلن أن تركيا وافقت على أن تستخدم الطائرات الأميركية وطائرات التحالف الدولي القواعد الجوية في تركيا، ومنها قاعدة <أنجرليك> المشهورة، لضرب قوات <داعش>، لكن ناطقاً باسم الحكومة التركية التي يرئسها <أحمد داود أوغلو>، كذب الخبر، ونفى أن تكون تركيا قد وافقت على إعارة قواعدها العسكرية للولايات المتحدة وحلفائها. وهذا يعني صراحة أن قوات <داعش> المسيطرة على <كوباني> عقدت تحت الطاولة اتفاقاً ما مع الحكومة التركية بحيث تمنع تدفق أكراد <كوباني> تجاه الحدود التركية، وإحداث بلبلة في الساحة التركية لصالح حزب العمال الكردي الذي يتزعمه رئيسه السجين <عبد الله أوجلان>، مقابل ألا تزج تركيا نفسها في الحرب الجوية ضد الدولة الاسلامية في العراق والشام.
وكل التحليلات، ومنها ذلك الذي أورده مدير المركز العراقي للمعلومات غسان عطية صباح الثلاثاء الماضي في إذاعة <مونت كارلو>، تستبعد انتقال دول التحالف من الحرب الجوية الى الحرب البرية. وفي هذا الصدد يقول غسان عطية إن الجيش العراقي الذي كلفت إعادة تأهيله أكثر من خمسين مليار دولار، ليس في مستوى مواجهة جحافل <داعش> التي تفوقه في الخبرة العسكرية والإيمان بالمعركة. ولذلك فاتكال الولايات المتحدة على هذا الجيش الذي أخطأ الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 في تفكيكه لا يستطيع أن يكون البديل عن القوات البرية الأميركية. ولكن من قال إن هذه القوات في وارد الدخول في المغطس البري؟
ثم إن إيران لن تقف مكتوفة اليدين إذا ما عادت القوات الأميركية البرية الى العراق، لأنها تبسط حمايتها على المناطق ذات الأماكن الشيعية المقدسة مثل النجف وكربلاء، ولن تسمح بأن يصيبهما سوء، ومعنى ذلك أن طهران لا تتردد في مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة في العراق إذا ركبت واشنطن المغامرة البرية.
وتصريح وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل من برلين بعد مقابلة نظيره <فرانك شتاينماير> أشبه بالبوصلة السياسية للآتي من الأيام، ولاسيما حين قال ان على إيران أن تسحب قواتها من العراق، وإذا فعلت فأهلاً بها في المجتمع الخليجي.
شبح التقسيم لما هو مقسّم!
إنها الوقائع. أما التوقعات فتنبئ بأن كل ما يجري في العراق وسوريا يوحي باقتراب شبح التقسيم، وبمعاهدة أخرى من نوع <سايكس بيكو> 1917. وفي ذلك قال رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري من جنيف، حيث كان يحضر المؤتمر البرلماني الدولي: إن اللعبة الآن هي تقسيم ما هو مقسّم.
وإذا بسط شبح التقسيم جناحيه في العراق وسوريا، فلن يكون لبنان في مأمن من رياحه، ولو أخذ التقسيم الصيغة الفيدرالية، ولا بد أن يكون هذا الموضوع قد تخلل محادثات الرئيس سعد الحريري والبطريرك مار بشارة بطرس الراعي في روما، وإن كان التركيز منصباً على الشغور الرئاسي، وعلى ورود اسم الرئيس أمين الجميّل كمرشح رئاسي لقوى 14 آذار، إذا اختار الدكتور سمير جعجع المرشح الأول لهذه القوى طريق الانسحاب. كما وردت أسماء قائد الجيش جان قهوجي، ويحتاج ترشيحه الى تعديل دستوري، والدكتور رياض سلامة حاكم مصرف لبنان، والوزير السابق جان عبيد كأفضل مــــرشح توافقـــــي، ولكن الرئيس الحريــــــري لم يبــح بهــــذه الأسماء خارج دائرة عشائه مع البطريرك الراعي، ولا البطريرك الراعي تلفط باسم واحد.
أي ان معركة رئاسة الجمهورية صحراء جرداء ولم ينبت فيها حتى الآن أي عشب، والمعركة هي الآن للتمديد البرلماني، وهو، كما تقول الوقائع والتوقعات، يكاد يكون تحصيل حاصل، للاعتبارات الآتية:
ــ أولاً: ظــــــروف لبنان اللاأمنيــــة، بـــــدءاً مــن عرسال وجرود بريتال ومدينة طرابلس لا تسمح بالحملات الانتخابية، والتجول الحر بين البلدات والقرى.
ــ ثانياً: ان الدخول في حمأة انتخابات برلمانية جديدة يتطلب موازنة مالية ليست هذه الأيام في متناول رؤساء اللوائح، أو المرشحين المستقلين، بالنظر لجفاف موارد الدعم المالي الخارجي، ومعانــــاة نواب بالجملة من ظروف اقتصادية صعبة.
مكانك راوح!
ــ ثالثاً: ثلث نواب البرلمان، إذا لم نقل أكثر، على غير ثقة في أنهم سيعودون الى البرلمان، أو ان رؤساء اللوائح سيعيدون التعاون معهم من جديد. وهذا الواقع ينسحب على العماد ميشال عون رئيس تكتل الاصلاح والتغيير، والرئيس سعد الحريري رئيس تيار <المستقبل>، وحتى الرئيس نبيه بري جزئياً، وإن كانت الترشيحات النيابية الأخيرة قد أبقت القديم على قدمه، ومنحت نواباً مثل ميشال موسى وعلي عسيران فرصة الفوز بالتزكية، لعدم وجود منافسين.
ــ رابعاً: ليس هناك تشجيع من سفراء دول مجلس الأمن، والاتحاد الأوروبي، ولا حتى روسيا، على المغامرة بإجراء انتخابات نيابية جديدة، ما دامت المعارك في سوريا لم تضع أوزارها، وما دامت المنطقة مقبلة على متغيرات، وأفضل شيء للبنان أن يلتزم بسياسة <الستاتيكو> أي البقاء حيث هو الآن.
ومما يزيد في القلق ما أورده العماد جان قهوجي في حديث الى جريدة <الفيغارو> الفرنسية عن ان تنظيم <داعش> لن يهدأ ل
ه بال إلا إذا حصل على ممر الى الشاطئ. وأبرز ممر في هذا الباب هو الشمال، وتحديداً منطقة العبدة في عكار. ولذلك يحذر العماد قهوجي في حديثه الى <الفيغارو> من الخلايا النائمة التي سيعتمد عليها <داعش> في المرور الى البحر. وهناك شبهة في وجود هذه الخلايا على أرض عكار وطرابلس، وما الانشقاق اليتيم لبعض جنود الجيش من أبناء عكار إلا عينة من هذه الخلايا، كما ان أزمة شادي مولوي وأسامة منصور في طرابلس، والضغط عليهما للخروج الليلي من جامع عبد الله بن مسعود في باب التبانة، وغض النظر عن خروجهما الى مكان مجهول، كل ذلك ينبئ بأن <داعش> ليست عارية تماماً من بعض المؤيدين، وإن كان هناك استنكار عام في طرابلس لعمليات الذبح والقتل التي يمارسها تنظيم <داعش> في سوريا والعراق.
الرغيف والبندقية
وطرابلس، وأنا واحد من أبنائها الذين رضعوا من ثديها القومي، والوطني، لا يجوز أن تعامل كمتهمة باحتضان الارهاب. فالارهاب يولد من المعيشة ولا يولد من الجغرافيا. وهذا الفقر المدقع الذي أصاب منطقة باب التبانة وباب الحديد وبوابة الحدادين، وغيرها من الأبواب والبوابات، أرض خصبة للمنظمات الارهابية. فالمواطن الذي يعيش تحت عتبة الفقر، ويتهدده الجوع والمرض، هو فاقد الارادة أمام لهفته على الرغيف والحياة. ولذلك فإن مقاومة الارهاب لا تكون بالمدفع والصاروخ وجنازير الدبابات، بل تكون باقتلاع جذور الفقر بمشاريع انمائية غنية بفرص العمل، ويفضل ابن المنطقة المحرومة رغيفاً وحقيبة مدرسية أو جامعية، من أن يأخذ بندقية أو قنبلة ضد الجيش، أو النظام.
وطرابلس بتكوينها السياسي والاجتماعي ليست ضد الجيش، حتى لو أدار مدافعه صوب بعض أحيائها، كما حصل ذات يوم من عام 1958. فهي تفرق بين جيش يحمي النظام وجيش يواجه الناس. وإذا طفت على بيوت طرابلس هذه الأيام وجدت اجماعاً حول المؤسسة العسكرية، ودعوة الى التفاتة انسانية نحو أحياء طرابلس القديمة التي عانت الأمرين من فيضان نهر أبو علي عام 1958 الذي أجبر العديد من عائلات الأحياء القديمة على الهجرة صوب المناطق الجديدة التي حلت مكان بساتين البرتقال.
والمعادلة المطلوبة في أحياء الفقر والحرمان هي: خذ رغيفاً وفرصة عمل وأعطني البندقية والقنبلة!