تفاصيل الخبر

من جعل أوروبا بلا مستقبل؟

14/12/2018
من جعل أوروبا بلا مستقبل؟

من جعل أوروبا بلا مستقبل؟

 

بقلم خالد عوض

الأحداث المتسارعة في أوروبا خلال الاسابيع الأخيرة تدل على أمر واحد: المستقبل الإقتصادي والإجتماعي للقارة العجوز مظلم. التعقيد في مسار خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي ينذر ليس فقط بكارثة مالية وإقتصادية في بريطانيا بل يهدد حتى كيان بريطانيا العظمى ككل، مع إمكانية كبيرة لخروج ايرلندا الشمالية واسكتلندا منها مستقبلا. حركة السترات أو الصديرات الصفراء في فرنسا أجبرت الرئيس الفرنسي على التنازل ليس فقط عن قراراته بل عن شخصيته التي كانت سببا في مجيئه إلى الرئاسة أساسا وعن الإلتزام الفرنسي بالإطار الأوروبي المحدد لعجز الموازنات. أما التغيير الآتي وخطوات تسليم السلطة في ألمانيا بين <حارسة> أوروبا المستشارة <أنجيلا ميركل> وخليفتها في الحزب الديمقراطي المسيحي <انغريت كرامب ــ كارينباور> فهي أيضا يمكن أن تصطدم بعقبات كثيرة من داخل حزبها وخارجه. صحيح أن المرشحة لأن تصبح المستشارة الألمانية عام ٢٠٢١ متحمسة كبيرة لأوروبا إلا أن النزعات الإنفصالية الممتدة من إسبانيا إلى إيطاليا والمجر ستوقد مضجعها قبل ذلك بكثير... ولكن لماذا أصبحت أوروبا بهذه الحالة وهي رائدة العالم الحر ديمقراطيا وإجتماعيا؟

 

الهجرة كانت الحل... فأصبحت المشكلة

 

عندما بدأت نسب الولادة تتراجع في أوروبا في بداية السبعينات إنطلق الحديث في عدة دول أوروبية عن فتح أبواب الهجرة، ولولا مجيء عدد كبير من المهاجرين في الثمانينات والتسعينات لكان عدد السكان في عدة دول أوروبية مثل ألمانيا وإيطاليا أقل ١٥ بالمئة مما هو عليه حاليا ولكان من المستحيل خدمة المتقاعدين وتوفير الرعاية للمسنين وتأمين الإحتياطات الإجتماعية اللازمة عبر الضرائب. في الوقت نفسه يتذمر اليوم معظم الأوروبيين من عبء المهاجرين الذين يغيرون من اللون الثقافي لبلدهم وتساهم نسبة منهم في زيادة نسبة الجريمة ناهيك عن التطرف الديني المنتشر عند الكثيرين من المهاجرين والذي جلب آثام <داعش> إلى قلب عدة مدن أوروبية. الواقع اليوم أن أوروبا بحاجة إلى مزيد من المهاجرين لأن نسب الولادة تتراجع بسرعة. حتى فرنسا - الملقبة بمصنع الأولاد الأوروبي لأنها حافظت مع إيرلندا على أعلى نسب ولادة - تعاني تناقصا في الولادات منذ ثلاث سنوات. شكل أوروبا يتغير ثقافيا وإجتماعيا وهذا التغيير لن يأتي بالرخاء بل بمزيد من المشاكل نظراً إلى تمدد النزعات اليمينية والانفصالية في القارة العجوز. ولولا تذمر البريطانيين من اليد العاملة الغريبة ومن نسب الهجرة المتزايدة بسبب قوانين الإنفتاح الأوروبية لما صوت معظم الناس هناك لصالح <البريكزيت>.

 

أوروبا ليست واحدة..

الفرق بين الجنوب والشمال كبير. اليونانيون ليسوا كالألمان والإيطاليون ليسوا مثل الإسكندنافيين والإسبان مختلفون عن النمساويين. لم تستطع أوروبا الموحدة تغيير ذلك ولا تمكن <اليورو> من توحيد المفاهيم الإقتصادية وسلم الأولويات في موازنة كل الدول. حتى فرنسا التي كانت تنادي بالإمتثال المطلق للمعايير الأوروبية، وخاصة بأن لا يتجاوز عجز الموازنة ٣ بالمئة من الناتج المحلي، تجاوزت ذلك منذ أيام عندما خرج رئيسها الجريح <إيمانويل ماكرون> ليعلن عن حزمة عطاءات بأكثر من عشرة مليارات دولار من النفقات لإرضاء الشارع الغاضب. هذا سيزيد العجز من ٢,٨ بالمئة إلى 3,8 بالمئة من الناتج الفرنسي بينما كان الأوروبيون الأشاوس بمن فيهم <ماكرون> يعارضون موازنة إيطاليا لعام ٢٠١٩ لأن العجز فيها كان ٢،٧ بالمئة من الناتج المحلي! ما حصل في فرنسا سيطرح السؤال الذي كانت عدة دول أوروبية تتردد في إعلانه: هل هناك دول من <النخبة> في أوروبا يحق لها ما لا يحق لغيرها؟

 

 الصين من جهة والولايات المتحدة من الجهة الأخرى

لم يعد غريبا أن نرى التباين الأوروبي ــ الأميركي في عدة أمور جوهرية يطفو إلى العلن. الولايات المتحدة في حرب تجارية لا هوادة فيها مع الصين بينما الأخيرة مصرة على إستراتيجية الحرير التي <تشتري> من خلالها الأسواق المختلفة في العالم عبر الإستثمارات الكبيرة. الأسواق الأوروبية لا يصح أن تكون مغلقة أمام الطرفين بعد اليوم بسبب الأفضلية للبضائع الأوروبية ولذلك فإن أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم تريدان الدخول إلى الأسواق الأوروبية، واحدة بالترهيب <الترامبي> والثانية بالحرير الصيني. ليس الموضوع هو نظرية المؤامرة وليست أحداث فرنسا مثلا صنيعة المخابرات كما يحلو للبعض أن يفسر. هناك خلل إجتماعي كبير في الدول الأوروبية نفسها وبين الدول نفسها وهناك أزمة قوة شرائية حقيقية. يكفي التذكر أن أوروبا لا زالت تطبع النقد عن طريق ما يسمى التحفيز الكمي وأنها لم تخرج حتى اليوم من الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالعالم عام ٢٠٠٨ وأن مستوى الفائدة على اليورو لا زال أقل من الصفر مقابل ٢،٢٥ بالمئة للفائدة على الدولار ليتبين عمق الأزمة الأوروبية. ورغم كل هذا التحفيز لا زال النمو الإقتصادي في أوروبا متواضعا وبالكاد يصل إلى ١,٥ بالمئة مقابل ٤ بالمئة تقريبا في الولايات المتحدة وأكثر من 5,6 بالمئة في الصين. ولكن رغم كل ذلك من الواضح أن أوروبا اليوم هي ضحية الصراع التجاري الأميركي - الصيني.

رغم هذه النظرة السوداوية لمستقبل أوروبا لا يزال هناك ضوء إسمه ألمانيا. هي الدولة الوحيدة في المستنقع الأوروبي التي عرفت كيف تحافظ على نموها وخرجت بسرعة من أزمة ٢٠٠٨. العين اليوم على <انغريت كرامب ــ كارينباور> خليفة <ميركل> وعلى قدرتها أولا على توحيد الألمان وراءها ومن ثم إعادة الروح إلى الجسم الأوروبي المريض والمتفكك.