في نيسان (ابريل) 1975 سقط لبنان في وهدة عين الرمانة. وفي مطلع عام 1991، كانت قيامة لبنان، بقرارات جريئة للرئيس الراحل الياس الهراوي، وقرارات اقتصادية تاريخية للرئيس الشهيد رفيق الحريري حوّل لبنان من حال الى حال، بطرقات وأوتوسترادات ومدارس جديدة، وشركة <سوليدير> التي نفخت الروح في وسط بيروت، وإن كان هناك من اعترض على انتقاص في حقوق ملاكي الأسواق القديمة، وللأيام أن تحكم لهم بين خطأ وصواب.
وعين الرمانة وردة في مبسمي، وضياء في ذاكرتي. فقد عشت فيها سنوات مهمة من حياتي، عندما كنت نائباً لرئيس تحرير <الحوادث>، وكان مبنى المجلة شامخاً كالطود مطلاً على الشياح والحازمية وفرن الشباك. في تلك المرحلة حققت أكثر من سبق صحفي مثل المقابلة الصحافية التاريخية مع رئيس جمهورية قبرص المطران <مكاريوس> يوم عزّ على صحف الولايات المتحدة وفرنسا وانكلترا، الوصول الى الرجل وأخذ كلمة واحدة في حق الأسطول السادس الذي كان يحاصر جزيرة قبرص لتطويعها بعدما ذهبت بعيداً في خط الرئيس عبد الناصر.
وفي ذاكرتي نفحة من طيبة وكرم أهالي عين الرمانة، حيث تعاملوا معنا وكأننا جزء من عائلات المنطقة. وفي عيد السيدة، الذي يصادف في تموز (يوليو) من كل عام كانت تأتينا الى مكاتبنا في مبنى <الحوادث> أطباق <الهريسة> (قمح وسكر وماء ورد) دلالة على وحدة المواطنية بيننا وبينهم. وذات ظهيرة اشتد القصف بين عين الرمانة والحازمية (مقر الجيش) وشارع الفاكهاني (الطريق الجديدة) مقر ياسر عرفات، ووصلت الشظايا الى أرض المبنى، فخرجت مع المدير الاداري الراحل اسكندر أيوب، لالتماس سبيل العودة الى بيوتنا في المنطقة الغربية من بيروت، كما كانت التسمية يومذاك.
ولم يكن هناك سبيل متاح لبلوغي سيارة <الأوبل> التي ركنتها قرب المبنى، فإذا بإحدى الجارات من أهل عين الرمانة تشير إلينا لنلطي عندها، فيما وصلت سيارات <جيب> بمدافع للقوات اللبنانية. وكانت العودة الى المنطقة الغربية، بدءاً من المتحف، من الصعوبة بمكان. ذلك كان يوم السبت الأسود، وقد سيقت الاتهامات فيه الى أكثر من جانب. وكل ما أذكره أن صديقنا الوزير السابق جوزف أبو خاطر، كان قلقاً علينا ونحن في قلب تلك المعركة، ونصيحته لي يومذاك أن أضرب صحبة بائع فواكه أمام مكتب القوات اللبنانية في فرن الشباك، فإذا شاهدني جماعة حاجز القوات عند أبو ايلي، بائع الفواكه، اطمأنوا الى أنني من أهل المنطقة، وهكذا كان يوم السبت الأسود، وعبرت الطريق الساخنة بالنار والبارود، مع مدير المطبعة محمد عقيل ابن دير كيفا في الجنوب.
وكان علينا أن نعبر بسيارة <الأوبل> التي كنت أقودها، الحاجز الأكبر عند منطقة المتحف.
الرصاص ينهمر من كل مكان ودوي المتفجرات يملأ المدى. ولما اقتربنا من الحاجز المجاور للمتحف، طلع علينا أشخاص مقنّعون بالجملة، واقترب رئيسهم مني وسألني عن هويتي، فلما علم أنني من <الحوادث> تبسم وقال: <النار والرصاص لا يسمحان لكم بالعبور الآن، سأغطي الزجاج الخلفي بمجموعة صحف ومجلات، وأضع أمامك عند الزجاج الأمامي بعض المجلات والصحف أيضاً، فتحجب عنك الرصاصة الطائشة.
إنه جورج عدوان
ذلك الرجل يومذاك لم يكن سوى رئيس حزب <التنظيم> جورج عدوان الذي هو الآن نائب الشوف ونائب رئيس القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع.
ووصلنا تحت وابل الرصاص الى منطقة البربير ورحنا نلتقط أنفاسنا، ونتحسس أجسامنا، مخافة أن نكون قد تعرضنا لشظية.
كنا في منزلة وسط صحافياً بين الفريقين المتقاتلين، وروح الوسط كانت باب النجاة لنا.
تلك هي بعض الأسرار المتعلقة بوجودنا في عين الرمانة. وحادثة جورج عدوان أذكرها لأول مرة على سبيل كشف الحقائق مهما كانت مرة كالعلقم، تماماً كالأسرار المتعلقة باستشهاد الرئيس رفيق الحريري ويجري إزالة الستار عنها أمام المحكمة الدولية في <لاهاي>. وبين الشهود الذين استمعت إليهم المحكمة و رئيسها <دايفيد راي>، ثلاثة من أهل القلم والعمل الصحفي هم الوزير السابق باسم السبع، ومصطفى ناصر، وعلي حمادة. والثلاثة، بكل صدق، أعطوا بشهاداتهم مهنة الصحافة قدسيتها وعنفوانها. باسم السبع كشف كيف كان اللواء رستم غزالي يتقاضى المال من الرئيس الشهيد، ضمن حالة ابتزاز. وخلافاً لما يجري تداوله، في الحرب الباردة بين تيار <المستقبل> وحزب الله، أعلن مصطفى ناصر الذي كانت له وكالة أنباء مجاورة لمكاتب <الأفكار> في بناية <التاجر>، ان الرئيس الشهيد رفيق الحريري لم يكن خصماً لحزب الله، وانه عند الحديث عن القرار 1559، قال غير مرة: <أقطع أصابعي العشر ولا أوقع على بيان ضد المقاومة>.
أما علي حمادة، المحدث الرزين المسلح بالعلم والخبرة، فكان لافتاً في كلامه أمام المحكمة حين أذاع سراً من الأهمية بمكان، بحكم قربه من الرئيس الشهيد، وهو ان رفيق الحريري أخبره بأنه في صدد الذهاب مع وليد جنبلاط الى صرح بكركي، لإقناع البطريرك نصر الله صفير، بالتوجه معهما في عيد الشهداء الى ساحة الشهداء، ورفع أيديهم معاً: البطريرك صفير والرئيس الحريري ووليد جنبلاط.
ولكن استشهاد الرئيس الحريري عطل الخطة!
والسر الثاني الذي أذاعه علي حمادة ان الرئيس الحريري وهو يجتمع داخل دارته في باريس، بعدد من الأصدقاء والصحافيين، أمسك بيد رندة تقي الدين مراسلة جريدة <الحياة>، وقال لها: <حطي كفك.. فالجماعة محكومون بترك لبنان>!
والجماعة لم يكونوا سوى أركان نظام الوصاية السوري.
وقد توقف رئيس المحكمة في <لاهاي> <دايفيد راي> طويلاً أمام عبارة <حطي كفك>، لأنها عبارة غير مألوفة في قاموس المحكمة، ولم يطمئن إلا بعدما شرحوا له بأن عبارة <حطي كفك> معناها <كوني على ثقة>.
سعد الحريري والدور!
ومن خلال أقوال الشهود كان دور رفيق الحريري يتجاوز لبنان، ويصل الى قلب الولايات المتحدة، تماماً كما هي الآن حركة خليفته الرئيس سعد الحريري. فعندما انطلقت <عاصفة الحزم> من السعودية، رأينا الرئيس سعد الحريري يتوجه الى أنقرة، ويجتمع بالرئيس <رجب طيب أردوغان> الذي تربطه به صداقة متقادمة العهد، وحين حصل تردد من بعض الدول الحليفة حيال <عاصفة الحزم>، رأينا سعد الحريري يتوجه الى العاصمة القطرية الدوحة ويجتمع بصديق لبنان أمير البلاد الشيخ تميم بن حمد. والأخبار المعلنة تقول إنه أراد أن يعزز جهود دولة قطر الشقيقة في الإفراج عن العسكريين اللبنانيين الأسرى لدى <جبهة النصرة في مرتفعات عرسال، فيما المهمة، إضافة الى ذلك، تتعلق بالدور التركي في دعم <عاصفة الحزم> خصوصاً بعدما قام الرئيس التركي <رجب طيب أردوغان> بزيارة طهران وتداول مع مرشد الثورة الاسلامية السيد <علي خامنئي> والرئيس الإيراني <حسن روحاني> في شؤون المنطقة، والعلاقات الإيرانية ــ السعودية. وقدرة أمير قطر الشيخ تميم على استقراء رحلة <أردوغان> الى طهران تفوق كل قدرة أخرى.
وبقدر ما لا يجوز أن تحمل زيارة الرئيس الحريري لدولة قطر فوق ما تحتمل، بقدر ما يمكن الاستنتاج منها بأن الأمر يتعلق بالدور التركي، خصوصاً بعدما أعلن <رجب طيب أردوغان> دعم <عاصفة الحزم> لوجستياً، ثم بردت همته في هذا المجال وراح يركز على ضرورة إسقاط حكم الرئيس بشار الأسد حليف إيران، فكيف هو التفسير المنطقي لهذا الموقف التركي؟ مرة متحالف مع إيران اقتصادياً، ومرة منفصل عنها سياسياً في سوريا، الى حد المطالبة بإسقاط نظام بشار الأسد؟
والنصيحة السعودية الآن هي: <خذوا من تركيا ما تستطيعه من مواقف ولا تثقلوا عليها>، وحتى الآن لم يصدر عن تركيا أية إشارة اعتراض على تعيين خالد البحاح رئيس وزراء اليمن نائباً لرئيس الجمهورية اليمنية عبد ربه منصور هادي، كما فعلت إيران!
والمهم أن يبقى التحالف الدولي متماسكاً في <عاصفة الحزم>، وهو ما تحاول إيران بعد توقيع الاتفاق النووي في لوزان، أن تفسد فرص نجاحه، وقد جاءها الرد من الولايات المتحدة التي هاجمت تسلط الحوثيين على اليمن!
الخارج في إجازة!
في هذه الحمى السياسية المستعرة لا يجوز، حتى ولو على سبيل الاستئناس، أن نطلب من المجتمع الدولي أن يلتفت إلينا ويفتح لنا طريق قصر بعبدا الرئاسي، فيأتي مندوب من الولايات المتحدة مثل <روبرت مورفي> عام 1958، أو <ريتشارد مورفي> عام 1988، ليقول: <أيها اللبنانيون هذا رئيسكم>.
صفحة من الماضي لا تقبل أي قياس، والمبادرة متروكة للبنانيين أنفسهم، وإن استعانوا على ذلك ببصمة خارجية، مثل بصمة الرئيس الفرنسي <فرانسوا هولاند> التي يريدها البطريرك مار بشارة الراعي في آخر الأسبوع المقبل عندما يزور قصر <الإليزيه>.
وكان المشهد اللافت دعوة المتروبوليت الياس عودة خلال قداس عيد الفصح النواب الى الاقتداء بانتخاب قداسة البابا، أي المجيء الى مجلس النواب، وإقفال الأبواب على أنفسهم وعدم الخروج إلا مع الدخان الأبيض الذي يؤشر على انتخاب رئيس للجمهورية.
وكلام المتروبوليت الياس عودة هو كلام ضمير لبناني يأبى أن تبقى البلاد صحراء سياسية قاحلة بدون انتخاب رئيس. ويتقاطع كلام مطران الروم الارثوذكس مع خطوات متقدمة في الحوار بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، عبر الوسيطين النائب ابراهيم كنعان وملحم رياشي، وهذا الحوار لا بد أن يصل الى نهاية، مثل الكتاب الذي لا بد أن تكون له صفحة أخيرة.
ناموا بدون رئيس..
فلعلكم ستصحون على رئيس ولكن ليس قبل الخريف المقبل، بعدما يكون موسم الاصطياف قد جرر أذياله، وقطف ثماره، وعوّض عما فات!