بقلم صبحي منذر ياغي
صوت الرصاص الذي لعلع صبيحة يوم الاحد 13 نيسان/ أبريل 1975، في عين الرمانة، لم يكن أمراً عادياً في تلك الايام، وقد اثار هلع المواطنين الذين لم يدروا ان هذه الرصاصات كانت بمنزلة الاعلان عن بدء الحرب الاهلية. فحادثة عين الرمانة صارت البوابة السوداء التي دخل منها الوطن الى لعبة الموت واليباس والدمار.. ومع حلول هذه الذكرى البشعة، يردد اللبنانيون دون ارادة منهم: <تنذكر وما تنعاد>!
كان جورج حاتم يغط في عز نومه كباقي سكان عين الرمانة عندما استيقظ على لعلعة الرصاص، وفي دردشة مع <الافكار> يقول: <انتشر الخبر كالنار في الهشيم، سيارة <فولكسفاغن> وصلت إلى مكان الاحتفال نحو الساعة العاشرة تقريباً. حاولت المرور بالقوة قرب الكنيسة، ثم وصلت سيارة <فيات> حمراء أطلق من فيها الرصاص باتجاه الجموع المحتشدة لتدشين كنيسة <سيدة الخلاص> للروم الكاثوليك في شارع مار مارون برعاية رئيس حزب الكتائب اللبنانية الشيخ بيار الجميل، ما ادى الى مقتل جوزيف أبو عاصي وهو من وجهاء المنطقة وعدد من المواطنين. واعتبر الاهالي ان العملية كانت محاولة فاشلة لاغتيال شيخ الكتائب..>.
وأضاف حاتم: <هرعنا الى المكان، فإذا نحن أمام فوضى وصراخ وتوتر. انهم من الفدائيين، هكذا كنت أسمع من الناس من حولي. ومن ثم تطور الوضع دراماتيكياً، وانتشرت الشائعات عن مقتل الشيخ بيار. وفي هذا الجو المشحون، تطل بوسطة تقل ركاباً عائدة من مخيم صبرا، فارتاب الاهالي وخافوا وأطلق عدد منهم النار باتجاهها فقتل كل ركابها ما عدا سائقها أبو رضا.. واندلعت الاشتباكات وتوتر الوضع.. ومن هنا بدأ الجحيم >.
اما أبو طوني طبراني، وهو ابن الـ 80 عاماً، فقد تمنّع في البداية عن الكلام لكنه عاد وقبل بالحديث عن تلك الذكريات الاليمة، معتبراً ان يوم 13 نيسان/ أبريل كان مشؤوماً. <وأدركت يومئذٍ اننا فعلاً دخلنا في جحيم الحرب، فهرعت مع اولادي الى منزل أقارب لنا في منطقة الصنائع ، ثم رجعنا بعدما هدأت الاشتباكات. لاحظت بعد ذلك ان شباب المنطقة الذين لم يملكوا السلاح يوم حادثة عين الرمانة بدأوا بالتدرب مع حزب الكتائب بإشراف ضباط من الجيش اللبناني، ومنهم من خضع لدورات عسكرية في عيون السيمان وصنين وبسكنتا .. كنت اقرأ في كل هذه التطورات ان الحرب طويلة >.
وتابع يقول: <ما زال العديد من اهالي عين الرمانة يعيشون هاجس ذلك اليوم والسؤال الدائم هو: من أجبر البوسطة الفلسطينية على عبور منطقة عين الرمانة؟ حتى حصل ما حصل..>.
ويستغرب ابو طوني ما تردد من اتهامات للكتائب بإشعال الحرب، وسأل: هل ان عناصر الكتائب ذهبوا الى مخيم صبرا لافتعال الحادثة ام العكس؟
محور الشياح - عين الرمانة!
خليل نعيم(65 سنة) عاد بالذاكرة الى زمن خط التماس هازئاً من تسمية هذه الخطوط بمحور الشياح - عين الرمانة وكيف ان المسؤول الليبي عبد السلام جلود طلب يوماً من المسؤولين الفلسطينيين وهو في منطقة الشياح إرشاده الى هذا المحور، فضحك طويلاً عندما وجد نفسه أمام شارع يفصل بين المنطقتين ظناً منه انه يطل على محور سيناء - فلسطين..
ونعيم يتذكر الليالي السوداء وكيف كانت الاشتباكات تندلع فجأة. يبدأ القنص والقصف ليلاً، وسط صراخ الاطفال وعوائلهم، وابنه <الفونس> ما زال لليوم يعاني من اصابته في رجله بشظية، عندما كان يحاول قطع طريق سيدة المراية في عين الرمانة.. وخليل لم يترك منزله هناك إلا في الظروف القاسية جداً، بسبب ملكيته له وخوفه عليه.. كان الملجأ المكان الأنسب للاختباء وقت القصف، تدور فيه أحاديث حول السياسة والقضية والحرب، وكان الحلّ الآخر لمواجهة القصف هو الانتقال إلى مناطق أخرى أكثر أمناً. وأجبرته الظروف التي مرت بها المنطقة حيث يقطن على إرسال عائلته إلى قبرص حيث أمضت أكثر من سنة ونصف السنة هناك.
اما جورج زيود، فقد اختصر ما شاهده في ذلك اليوم بقوله: <كنت في الكنيسة عندما وقعت حادثة عين الرمانة. أثناء عودتي إلى منزلي، صادفت سيارة مصابة وعليها آثار دماء، وصلت إلى مكان سكني فشاهدت بالقرب من البناء <بوسطة> وأشخاصاً متحلّقين حولها يتجادلون ويتصارخون. أوقفت سيارتي في منتصف الشارع، أوصلت عائلتي إلى مدخل المبنى الذي نسكنه، بدأ إطلاق النار المتبادل، وبعدها قتل من قتل في البوسطة. كان هناك مسلّحون في«البورة> المقابلة لمنزلي يتوزعون على أكثر من جهة، ويطلقون النار، وفي الليلة نفسها بدأ القصف من المنطقة الغربية>.
وإذا روى المواطنون ما جرى كل على طريقته وعفويته، فإن رواية مصادر في حزب يميني (حزب الأحرار) تختلف الى حد ما، كونها مرفقة بالأسماء والتفاصيل: <عند الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر 13 نيسان/ أبريل 1975، كان مقرراً أن يبدأ احتفال تدشين كنيسة <سيدة الخلاص> للروم الكاثوليك في شارع مار مارون المتفرع من شارع بيار الجميل بحضور الشيخ بيار الجميل، وفي الوقت نفسه كان الفدائيون الفلسطينيون يحتفلون بمهرجان تأبيني أقيم في مخيم صبرا لشهداء الثورة الفلسطينية اشتركت فيه جميع الفصائل الفلسطينية. نحو الساعة العاشرة تقريباً، وصلت إلى مكان الاحتفال سيارة <فولكسفاغن> يقودها لبناني يدعى منتصر أحمد ناصر وهو من مقاتلي جبهة التحرير العربية وهي الجناح الفلسطيني من حزب البعث العراقي. كانت لوحتها مكشوفة ومعروفة بأنها تابعة للكفاح المسلح الفلسطيني.
وتابعت المصادر: <حاول رجال السير منعه من المرور، فتجاوزهم واصطدم بجوزف أبو عاصي مرافق الشيخ بيار الجميل، وعدد من الشبان الذين حاولوا أيضاً منعه من إكمال طريقه من أمام موقع الاحتفال فلم يأبه وتابع طريقه مسرعاً، فأطلق الرصاص على السيارة. فتوقف ونزل من السيارة بسرعة وسقط على الأرض، بعدها أصيب بجرح في كفه وعلى الفور نقل إلى مستشفى <القدس> الذي تشرف عليه المقاومة الفلسطينية. وصباح اليوم التالي عندما توجهت دورية الدرك لأخذ إفادته كان قد اختفى ولم يعثر له على أثر.
<فيات> حمراء
بعد ثلثي الساعة تقريباً، وصلت سيارة <فيات> حمراء غطيت لوحتها بأوراق تحمل شعارات فلسطينية وفي داخلها أربعة مسلحين، فتجاوزت حاجز الدرك الذي أقيم إثر عملية إطلاق النار السابقة وأخذ المسلحون يطلقون الرصاص عشوائياً على الأهالي المتجمعين عند مدخل الكنيسة، فسقط قتيلاً كل من جوزف أبو عاصي وأنطوان ميشال الحسيني وديب يوسف عساف وإبراهيم حنا أبو خاطر وأصيب سبعة أشخاص بجروح مختلفة.
رد الأهالي بالرصاص على السيارة وهي تحاول الفرار، فقتل فدائي وأصيب اثنان نقلتهما قوى الأمن إلى مستشفى <القدس>، فيما نقل القتلى والجرحى من أهالي عين الرمانة إلى مستشفى <الحياة>.
وهكذا حدثت المجزرة..
في هذه الأجواء المشحونة والمتوترة جداً، وفيما الأهالي مذهولون مما جرى ويحاولون لملمة آثار ما حدث ودماء أحد عشر شاباً تغطي الأرض والشبان المسلحون يقفون على أعصابهم خوفاً من الساعات المقبلة، فجأة اقتحمت الشارع <بوسطة> مزدحمة بالفلسطينيين الذين كانوا متوجهين إلى مخيم تل الزعتر وهم ينشدون الأناشيد الحماسية. فاعتقد الأهالي أن هجوماً مفاجئاً تتعرض له عين الرمانة استكمالاً لما جرى. لحظات وانهمر الرصاص على <البوسطة> التي لم ينجُ من ركابها سوى السائق واثنين من رجال المقاومة.
وتؤكد المصادر وتتساءل: <هذا تفصيلياً ما جرى في عين الرمانة قبل ظهر الأحد 13 نيسان/ أبريل 1975، فكيف تكون حادثة البوسطة هي الشرارة التي أدت لاندلاع الحرب اللبنانية؟ ان أي مراقب محايد عندما يقرأ تسلسل الأحداث التي جرت يومئذٍ في عين الرمانة يدرك حتماً أن شرارة اندلاع الحرب كانت محاولة اغتيال الشيخ بيار الجميل.
الحادثة بلسان اليساريين والفلسطينيين
ترى شخصيات فلسطينية قيادية ومعها شخصيات من قيادات الحركة الوطنية اللبنانية التي عاشت تجربة الحرب الاهلية ان ما حصل في عــــين الرمانـــــة هـــــو نتـــــاج تخطيـــــط داخــــــلي وإقليمي ودولي لضرب الثورة الفلسطينية وضـــرب اتفـــاق القاهـــرة الــــذي عقـــد بين الدولـــة اللبنانية إبان حكم الرئيس شارل حلو مع ياسر عرفات وبإشراف الرئيس جمال عبد الناصر.
تعبئة وتحريض
الكاتب الفلسطيني محمود كعوش اعتبر ان ما جرى كان على خلفية حملات التعبئة والتحريض التي قادها ومارسها حزب الكتائب اللبناني ضد الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، على امتداد الأعوام التي تلت عقد <إتفاق القاهرة> بين السلطة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية برعاية جمهورية مصر العربية بقيادة الراحل الكبير جمال عبد الناصر في عام 1969، وعلى خلفية تغذية هذا الحزب لأعضائه بتعاليم الإرهاب الصهيوني وزرع سموم تلك التعاليم في نفوسهم، قامت مجموعة من هؤلاء يوم الأحد الموافق 13 نيسان/ أبريل عام 1975 بارتكاب مذبحة بشعة في منطقة عين الرمانة البيروتية لم تقل بشاعة عن المذابح والمجازر وحروب الإبادة التي ارتكبها الصهاينة بحق الفلسطينيين.
واعتبر كعوش انه من المفيد التذكير بأن الوضع الفلسطيني خلال عامي 1975 - 1976 قد تميز بسمات مهمة، كان أبرزها الصمود الوطني داخل الوطن المحتل وخارجه في وجه المؤامرات المتعددة الأوجه والأقنعة وإحباطها، وما قاد إليه من نهوض وطني فلسطيني استطاع أن يحرز العديد من الانتصارات في أكثر من مجال وعلى أكثر من صعيد. وقد تجلت المقدمات البارزة لانتصارات تلك الفترة بالانتصار السياسي الذي تحقق في الدورة التاسعة والعشرين للجمعية العمومية في الأمم المتحدة عام 1974، حين تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية من الاعتراف الدولي بها، كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، ناهيك عن الإقرار بحق هذا الشعب في العودة وتقرير المصير، وإقامة الدولة الوطنية المستقلة. كما أقرت الأمم المتحدة، بحق الشعب الفلسطيني في استخدام أشكال النضال كافة، بما في ذلك الكفاح المسلح، من أجل استعادة حقوقه الوطنية من المغتصبين الصهاينة.
ووفق اوساط يسارية ان الحرب كانت سيناريو وخطة وضعها العزيز <هنري كيسنجر> وزير الخارجية الأميركي الذي كان يهدف من وراء خلط الأوراق على الساحة الفلسطينية الى إنهاء وجود منظمة التحرير الفلسطينية كونها الرقم الأصعب في حل معادلة القضية وإنهاء الهوية الفلسطينية. ثم وجد <كيسنجر> في نظام الرئيس حافظ الأسد في سوريا الذي حصل على رضا أميركا بانقلابه عام 1970 فرصة لإحكام سيطرة النظام في سوريا على المقاومة الفلسطينية واحتوائها بما يخدم مجريات التسوية التي خطط لها.
أهالي عين الرمانة:
لم ننسَ ولكننا تعلمنا
أهالي عين الرمانة الذين ما زال اكثرهم على قيد الحياة، منهم من كان صغيراً يوم اندلعت الحرب، ومنهم من شارك فيها شاباً متحمساً، لم ينسوا حتى اليوم ما حصل، وأكثرهم مستعد لحمل السلاح دفاعاً عن الوطن من الاعداء الخارجيين، لا لقتل اخينا في الوطن، لأن التجربة الاليمة، كما قال جان عبد الله، علمتنا ألا نكون ضحايا المؤامرات الخارجية، متمنياً على الطرف الآخر ان يكون قد تعلم من الماضي، فلا يقاتل لأجل سوريا او ايران او أميركا ..
أمّا روبير قصيفي صاحب محلّ سمانة صغير ويسكن عند الشارع العريض في منطقة عين الرمّانة، فقد رأى أنّ <أكثر ما يزعجه هذه الأيّام هو تجرّؤ بعض مَن هُم في المنطقة المقابلة له على الدخول يومياً إلى المنطقة التي يسكنها والقيام باستعراضات وشتائم على مسمع من عائلاتنا، مع العلم أنّه حتى العام 1978 لم يكن أحد يجرؤ على هكذا فعل أو يفكّر فيه حتّى>، ويؤكّد روبير أنّه وعلى الرغم من كلّ الشواذات التي تحصل، فإنه لا يفضّل عودة ذاك الزمن. ويقول وهو يشير إلى مبنى قديم: <لقد خسرت شقيقي الوحيد جورج ابن الـ 14 عاماً بعدما قتله أحد القنّاصين من ذلك المبنى>. ويشدّد روبير على أنّ الحرب اللبنانية <قضت على آمالنا، ولم أخرج شخصياً منها سوى بفقدان شقيق، وأب وأم ليس لهما في هذه الدنيا أحد غيري وغير الله>.
سكان عين الرمانة يرفضون العودة الى الماضي البشع، ولهذا فإن اكثر من صادفناهم رفضوا التحدث عن تلك الفترة الاليمة..
ولا يسعنا إلا ان نردد مع الاهالي تلك العبارة: <تنذكر وما تنعاد>.. التي تتردد كل عام مع هذه الذكرى السوداء..