بقلم علي الحسيني
تتأمل في وجوههم، تنظر في عيونهم، تدخل في اعماقهم لتبحث عن زمن أنصفهم او عن رقعة فرح في حياتهم فلا تجد غير البؤس والجوع والقهر. هم النازحون السوريون الذين يعيشون على حافة المجتمع وكأنهم عار على هذه الدنيا فلا من يسأل عنهم ولا عن أوجاعهم وآلامهم ولا عن الايام والليالي التي تمضي عليهم وهم جياع. فقراء خيم النازحين من قب الياس الى عرسال الجوع واحد.
مخيم الجوع. هو اسم المخيم الذي يسكنه النازحون السوريون في بلدة قب الياس البقاعية، تصل الى مشارفه فتسمع أنين الاطفال وبكاءهم الذي يصل الى خارج الخيم، والدة تحاول اسكات طفلها الجائع بشربة ماء او كسرة خبز مجففة تحت أشعة شمس البقاع الملتهبة. لا من يسأل عنهم او يتحنن عليهم. وحدها الصلوات تتحول هنا الى دواء، ووحده ذراع الام يصبح أرجوحة عمر يغفو عليه الاطفال بعدما سرقت أحلامهم وتحولوا الى مجرد ارقام على لوائح المؤسسات الاجتماعية والخيرية، لكن لا مساعدة تصلهم ولا أمل يعيد البريق الى عيونهم، لولا بعض الحكام الخليجيين كإعانة نصف المليار دولار من دولة الكويت.
البؤس والحرمان أصبحا صفة لازمة لأي مخيم نزوح سوري في العالم كما الجوع والأمراض. ولكن لا يعلم حال مخيمات البقاع الا من تفقدهم وسأل عن أهلهم وسار من خيمة الى أخرى. هنا تبكيك دمعة العجائز وينفطر قلبك لبكاء طفل يتلوى على ذراع والدته جوعاً وحراً من دون ان تتمكن من مده ولو بجرعة دواء غابت عن لوائح الدعم الشهري بسبب نقص في ميزانية الأمم المتحدة كما قيل لهم، فتبقى تهّزه بين يديها حتى يغلبه النعاس ويستسلم للنوم وكأنه يلفظ انفاسه الاخيرة. لدى دخولك الى خيمة حسين مزهر ابن مدينة دمشق الهارب من براميلها المتفجرة تشعر وكأنك تقف على حافة العمر أو كأن الدنيا ستنتهي في اللحظة التي تقف فيها عند باب الخيمة.
لا شيء يدل في داخل الخيمة على الحياة سوى بكاء طفل في السنوات الاولى من عمره يكاد يلفظ أنفاسه الاخيرة من شدة الجوع. تحاول الوالدة ان تلهيه بأغنية من هنا او شربة ماء من هناك لكن الحجة هذه لم تعد تنفع مع طفل يُعاني من سوء التغذية منذ مجيئه الى هذه الدنيا. تبكي يسرى زوجة حسين على حالها وحال عائلتها فتقول والله العظيم ان الفقراء اكثر عطفاً علينا من الاغنياء، زوجي هذا مقعد ولدي ثلاثة أولاد. تعرض زوجي منذ سنة الى إصابة ادت الى توقفه عن العمل، كان يعمل في البناء، الظروف اليوم أصبحت صعبة فلا توجد فرصة أخرى له لنسد حاجات أطفالنا ورمقهم. نحن في شهر رمضان الخير والبركة لكن يبدو ان المسلمين يتلهون في أمور أخرى بعيدة عن ديننا وكتاب نبينا، ما ذنب اطفالنا لكي يموتوا جوعاً وألماً؟ المسلمون الفقراء في العالم ينتظرون هذا الشهر ليأكلوا أنواعاً عديدة من الطعام يجلبها لهم الاغنياء، اما نحن فنشتهي الأرز والماء واذا تمكنا من تناول قطعة من الحلويات فإننا نشعر وكأن الجنة فُتحت لنا ابوابها. وهنا يتدخل حسين المقعد ليقول: حكامنا يتلهون بكراسيهم وبكيفية توريث ابنائهم، تراهم متخمون من الاكل وتبدو عليهم مظاهر البزغ والترف أما نحن فننتظر الفرج من عند الله وهو بكل تأكيد سيأتينا يوماً ما.
وللبنانيين حصة وافرة من الفقر
لا يبالغ وزير الشؤون الاجتماعية اللبناني رشيد درباس، حين يقول ان النزوح السوري هو اخطر ما واجه لبنان في تاريخه. لكن السؤال الابرز هو ماذا فعلت هذه الدولة كل تلك السنين قبل ان تطرأ قضية اللاجئين السوريين على لبنان؟. في دراسة أعدها <المركز اللبناني للدراسات> تفيد ان اكثر من مليون ونصف المليون لبناني يعيشون تحت خط الفقر المطلق ونحو مئتين وخمسين الفا تحت خط الفقر المدقع. ويؤكد تقرير التنمية البشرية للعام الصادر عن الأمم المتحدة ان ثلاثين بالمئة من اللبنانيين فقراء وثمانية بالمئة معدمون واللافت انه لا توجد في لبنان سياسة خاصة بمكافحة الفقر او سياسة اجتماعية عامة تتضمن خططاً للحد من الفقر، بينما تقتصر مقاربة الحكومة على اعتبار علاج المشاكل الاجتماعية نتاجاً فرعياً وحصيلة آلية للتدابير المتخذة لمعالجة المشاكل الاقتصادية والقائمة حالياً بوجه أساسي على التثبيت النقدي وإعادة إعمار البنية التحتية المادية. وتعطي سياسة الحكومة الاولوية للقضايا الاقتصادية على القضايا الاجتماعية، بحيث ان التعامل مع الفقر لا يتم على قاعدة كبح الأسباب والآليات المولدة له بل على قاعدة معالجة النتائج ووصف الفقر حالة قائمة ينبغي التخفيف من سلبياتها.
رحلة العذاب الواحدة
من مخيم قب الياس الى مخيم عرسال مروراً بعدد من المخيمات غير الرسمية لا يتغيّر حال الفقراء ولا يتبدل حتى مع تبدل الجغرافيا. في مخيم عرسال المكتظ بالنازحين السوريين تتطالعك للفقر أنواع وألوان واصعبها حكايات وروايات أبطالها فتيات ونساء امتهنّ كار الدعارة لمساعدة عائلاتهن، فكل يوم تجدهم في بلدة ومنطقة بحثاً عن رزق غير شرعي دفعهن العوز اليه. داخل احدى الخيم تندفع احداهن للكلام من دون حذر لتقول: نعم هناك بعض الامهات قررن البحث عن لقمة العيش عن طريق الحرام وفي بعض الاحيان بقبول من الزوج او بغض طرف منه، لكن الحقيقة الواحدة ان كل الدول الاسلامية مسؤولة عن الاوضاع التي وصلنا اليها وكل الحكام سوف يحاكمون يوماً امام الله وسوف يُسألون عن اموالهم وكيفية صرفها، ألم يوصِ الله بالفقراء؟.
وتقول السيدة نفسها والتي رفضت الكشف عن اسمها: نحن لا نريد دروساً من الهيئات في كيفية تعلم النظافة ولا دروساً بتحديد النسل وتوزيع موانع للحمل على خيم النازحين رغم ان هذا يعتبر تعدياً على الحريات الشخصية، بل نريد اطعام اطفالنا الذين يموتون اما جوعاً وإما حرقاً او برداً. الله لا يسامح كل زعيم تآمر علينا ودمر بلدنا واليوم عرفنا قيمة سوريا ولذلك لم نعد نريد اي شيء سوى العودة الى ديارنا والموت بين أهلنا بعدما رأينا الذل بأعيننا هنا والكل يتفرج علينا.
السوريون مروا من هنا
هذا ليس عنواناً لفيلم سينمائي ولا حتى لمسلسل تلفزيوني رغم انه يُصلح ليكون الاثنين معاً. من هنا مرّ السوريون هو إسم لمخيم يقع عند اطراف بلدة عرسال البقاعية في لبنان، مخيّم لا تجتمع فيه أدنى مقوّمات الحياة حتى يكاد أن يكون نسياً منسياً لا يصله الا من أضاع طريق دخوله الى البلدة او الخروج منها.
المازوت والدواء لقلّة قليلة من أبناء المخيم. النزوح الليلي من خيمة الى أخرى بحثاً عن طعام وشربة ماء هي رحلة عذاب شبه يومية ابطالها أطفال حفاة يبحثون عن ملجأ آمن لأجسادهم الطرية، فلا هم ان غرست اقدامهم في الوحول ولا حتى ان تشتت العائلات بين الخيم ليلاً فالمهم ان يجدوا ما يسد رمقهم حتى لا يتحولوا الى جثث هامدة. هنا لن تخبرك دموع العجوز صبيحة بعد اليوم عن ولدها بسام الذي قتل امام عينيها على حاجز للنظام يوم هربوا من مدينة <بابا عمرو> في حمص، فالأمر متروك لجيرانها وهؤلاء حفظوا سيرة حياتها عن ظهر قلب لكثرة تردادها لهم. ولن تــــخبرك عـــــن زوجـــــة ابنهــــــا التي انتحرت بعدما عجزت عن تأمين أبسط حقــــــــوق الحياة من غذاء ودواء لطفليها ابراهيم ومنى.
مساحة كبيرة من الحزن توجد في داخل العجوز تكفي لأن توزع بالتساوي على العالم كله ومع هذا يشعر جميع من حولها بأن الايام المقبلة ستكون احسن وبأن فتات الخبز التي تجمعها ليلاً من الحاويات ومن أمام المنازل لتعقمها تحت الشمس وتصبح جاهزة للأكل بعد ان تبلل بالماء، سوف تتحول ذات يوم الى سفرة مليئة بأشهى أنواع الطعام.
للذل أنواع هنا
يستفزك حجم صبر الناس في هذا المخيم. يحدثونك عن أنواع من الذل لكن بكبرياء. العمل في عرسال على قد الحال لا يكاد يكفي أهل البلدة المحاصرين نوعاً ما، فمنذ ثلاثة أعوام ولغاية اليوم لم يجد المهندس الزراعي زياد الاخرس عملاً في عرسال يعتاش منه مع عائلته. يخشى على نفسه من الذهاب خارج حدود البلدة وتحديداً باتجاه بلدة اللبوة، هناك من سيتعرف عليه وقد تكون نهاية حياته لأسباب بدأت يوم نزح من القصير الى القلمون وبعدها الى عرسال من دون ان يدرك بأن الجيرة والصداقة اضافة الى التجارة التي جمعت بين أهالي القصير وأهالي قرى الهرمل قد تتحول الى عداوة وانتقام ومطالبة بقطع الرؤوس بسبب المواقف السياسية.
وداخل مخيم <من هنا مر السوريون> ستجد عشرات التلاميذ داخل <هنغار> لا تتعدى مساحته المترين عرضاً والخمسة أمتار طولاً. وفي المخيم نفسه قد يصادف أن تحضر وفاة رجل عجوز عجزت المفوضية التابعة للأمم المتحدة والجمعيات الأهلية عن تأمين دواء له ليموت بعيداً عن بلده وعن ثلاثة أبناء ما زال مصيرهم مجهولا. لكن رغم كل هذا القهر والعذاب والجوع لا بد وان يترك كلام الحاجة صبيحة جزءاً ولو صغيراً من الامل في داخل كل زائر بأيام تحمل الفرح وموائد من الطعام حتى ولو خرج من المخيم من دون الصلاة لروح عجوز مات في الغربة.
ارتفاع عدد الفقراء الى الثلثين
منذ ثلاثة أشهر تقريباً لم تقدم قرارات مؤتمر الدول المانحة في الكويت الكثير الى لبنان، فالحاجات اكبر بكثير من المبالغ التي رصدت في مجتمع يعاني اصلاً من آفات الفقر والحرمان وانعدام خطط التنمية الواقعية. والاطلاع على خريطة المناطق الأكثر فقراً في لبنان يظهر ارقاماً مخيفة عن السكان الضعفاء كما تصفهم الأمم المتحدة والذين يتوزعون على مناطق لبنانية عدة مناصفة بين مليون ونصف مليون لبناني ضعيف ومليون ونصف مليون لاجئ سوري. والحال ان عدد سكان لبنان ارتفع بشكل حاد وازداد بنسبة 30 بالمئة منذ آذار/ مارس 2011 ليرتفع تدريجاً عدد الفقراء في لبنان بمقدار الثلثين مع كل الآثار المترتبة على هذا الأمر سواء على مستوى البطالة ام أوضاع العائلات والاطفال ونظام التربية وغيره من القطاعات.
في المقابل تظهر دراسة للأمم المتحدة عن الارقام المتوقعة للعام 2015 زيادة في عدد سكان لبنان ليصبحوا 5,9 ملايين نسمة أي ما يقارب الستة ملايين، منهم 3,3 مليون شخص محتاج و1,8 مليون لاجئ سوري وفلسطيني بحكم الأمر الواقع يضاف اليهم الكثير من السوريين غير المسجلين لأسباب عدة. وتحتاج هذه الكتلة البشرية الى 2,14 مليار دولار لتمويل معيشتهم، في حين تعتبر الدراسة تحت عنوان <الحاجات ذات الاولوية> ان 29 بالمئة من اللاجئين السوريين والفلسطينيين غير قادرين على تلبية حاجات البقاء الخاصة بهم فيما يفتقر ثلثهم تقريباً الى وثائق الاقامة القانونية ما يحد من قدرتهم على تأمين رفاهيتهم الخاصة، والمقصود بالرفاهية سبل العيش.
خريطة توزيع الفقراء
وتظهر خريطة توزع اللاجئين واللبنانيين الفقراء ان ثمة مليوني شخص يوصفون بأنهم تحت خط الفقر ويعيشون في 242 منطقة عقارية موزعة على كل لبنان من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب مروراً بسهل البقاع والعاصمة بيروت ومحيطها ويعيشون جميعاً وسط تدهور خطير وسريع على صعيد التوترات الاجتماعية والفقر بما يفوق قدرة الدولة والمؤسسات والبنى التحتية على تلبية الحاجات المتعاظمة. ويتوزع هؤلاء الفقراء بين 86 بالمئة لاجئين سوريين و68 بالمئة لبنانيين. لكن الاسوأ ان نسبة ارتفاع أعداد الفقراء في لبنان بلغت 61 بالمئة منذ العام 2011. ومن أبرز المناطق الاكثر فقراً الضواحي الجنوبية والشرقية للعاصمة بيروت وطرابلس ووادي خالد واقصى مناطق عكار المتاخمة للمناطق السورية وعرسال وجرودها الى القاع ومنطقتها ومنها ضواحي مدينة صور وصيدا اي المخيمات الفلسطينية وأحزمة البؤس المدنية، اضافة الى بقع متفرقة في البقاعين الاوسط والغربي وبعلبك. ويبلغ معدل الفقراء فيها 49 بالمئة سوريين مقارنة مع 38 بالمئة من اللبنانيين الفقراء.