بقلم وردية بطرس

منذ أواخر القرن التاسع عشر جمع الآباء اليسوعيون مجموعة كبيرة من القطع الأثرية التي تعتبر وثائق مهمة جداً لدراسة حقبات ما قبل التاريخ في لبنان، وقد أصبح الاطلاع على هذا الارث متاحاً للجميع منذ انشاء <متحف ما قبل التاريخ اللبناني> في العام 2000 من قبل <جامعة القديس يوسف> والذي جاء بعد أكثر من قرن من الأبحاث الأثرية في مئات المواقع التي تكشف تاريخ لبنان ووجود الانسان فيه، وان هذا المعرض الدائم منسق وفقاً لمعايير علمية وتربوية دقيقة، اذ ان المواضيع المتعلقة بعصور ما قبل التاريخ مثل اكتشاف النار واختراع الأداة والمسكن والزراعة متناولة من خلال عرض قطع أثرية واختبارية، زيادة عن مجسمّات وصور عديدة تجعل الشرح العلمي أكثر وضوحاً للصغار والكبار... ويقوم <متحف ما قبل التاريخ اللبناني> بأبحاث علمية وينظم سنوياً محاضرات متنوعة في عدد من المواقع الأثرية في لبنان وسوريا، كما يستقبل المتحف الباحثين اللبنانيين والأجانب لدراسة المجموعات الأثرية واجراء الأبحاث في مكتبته المتخصصة، وفضلاً عن المعارض ينظم المتحف مشاغل تربوية موجهة لتلاميذ المدارس وتتناول هذه المشاغل مواضيع معينة مرتبطة بشكل وثيق بعصور ما قبل التاريخ مثل الخزف، الحليّ وفن الجدرانيات... ومن خلال هذا النشاط يكتسب المشاركون معرفة واسعة عن حاجات انسان ما قبل التاريخ: أساليبه، تقنياته، اختراعاته، اكتشافاته، طرق عيشه، عاداته، وبيئته الطبيعية. ويفتح المتحف أبوابه امام الزوار أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة من الساعة 8:30 صباحاً لغاية 4 بعد الظهر، فيما يفتح أبوابه يوم السبت بناء على حجز مسبق للمجموعات الكبيرة، ويُقفل أيام الأعياد الرسمية والعطل الجامعية.

مديرة المتحف الدكتورة مايا بستاني وهدف <جامعة القديس يوسف> من انشاء <متحف ما قبل العصور>!

<الأفكار> زارت <متحف ما قبل التاريخ اللبناني> الكائن في شارع <جامعة القديس يوسف> في حي مونو - الأشرفية وجالت في أرجائه مع مديرة المتحف الدكتورة مايا بستاني حيث تحدثنا عن فكرة انشاء المتحف وأهدافه وعن محتوياته

ونشاطاته، ونسألها عن سبب اهتمام <جامعة القديس يوسف> بانشاء المتحف ولماذا بالتحديد عن عصور ما قبل التاريخ اللبناني فتقول:

- ان الآباء اليسوعيين كانوا هم الرواد اذ بدأوا بالأبحاث عن هذه الحقبات القديمة جداً وقاموا بجمع مجموعة كبيرة من القطع التي تعود لعصور ما قبل التاريخ والتي هي اليوم معروضة في هذا المتحف. وكان هدف الجامعة ان تؤسس هذا المتحف لتبرز للناس من خلال هذه المجموعة أهمية هذه الحقبة، وكيف يجب ان نحافظ عليها، وأيضاً لتعرّف الناس على هذا الارث الحضاري القديم. وكان الهدف الثاني للجامعة أيضاً ادخال هذه العلوم في كلية الآداب.

أهداف انشاء متحف متخصص بعصور ما قبل التاريخ!

ــ وما هي أهداف <جامعة القديس يوسف> من انشاء متحف متخصص بعصور ما قبل التاريخ؟

- قامت <جامعة القديس يوسف> بإنشاء متحف متخصص بعصور ما قبل التاريخ، لأن الآباء اليسوعيين كانوا يعملون على أبحاث عن عصور ما قبل التاريخ لأن هذه الحقبة لم تكن معروفة في المناهج اللبنانية - من قبل التلاميذ ولا المعلمين والمعلمات - وأعني هنا المناهج المحلية الوطنية وليس المناهج الأجنبية التي تُطبق في لبنان، ولكن أعتقد اليوم بعد مرور 18 سنة من افتتاح المتحف ومن خلال عملنا مع المدارس أصبح لديهم فكرة أوضح عن عصور ما قبل التاريخ. طبعاً هناك مدارس تدرّس تلك الحقبة وهي موجودة في مناهجها او يمكن انها غير موجودة بمناهجها ولكنها تدرّسها بطريقة ما، ولكن كما تعلمين انه ليس كل التلاميذ في لبنان يدرسون المناهج نفسها اذ هناك المنهج اللبناني والمنهج الأجنبي، ولكن طبعاً هناك تشابه بين المنهجين. وكان الهدف أيضاً تسليط الضوء على حقبة لا يعرفها الناس وقد أصبح بامكانهم التعرّف على تلك الحقبة من خلال القطع المعروضة في هذا المتحف.

وتتابع قائلة:

- ومن أهداف المتحف كما كل المتاحف الحفاظ على القطع الأثرية والقديمة وتعريف الناس عليها. وطبعاً لدى المتحف ما قبل التاريخ أهداف أخرى وهي مهمة بالنسبة الينا واحداها ان ننزع الأفكار المسبقة او الخاطئة عن الانسان ما قبل التاريخ بأنه انسان همجي، انسان بلا ثياب وما شابه، وهذه ليست نظرة المجتمع اللبناني فقط بالانسان ما قبل العصور بل هناك العديد من المجتمعات تنظر اليه بهذه الطريقة، ولهذا نحاول ان نظهر للناس انه لولا الانسان ما قبل العصور لما كنا قد وصلنا الى ما نحن عليه اليوم.

محتويات المتحف!

ــ ماذا يحتوي المتحف وكيف يتم تقسيمه؟ وكيف ينتقل الزائر من مرحلة لمرحلة خلال جولته في أرجاء المتحف؟

- طبعاً يحتوي المتحف على قطع اختيرت من المجموعة الضخمة التي اسسها الآباء وهي قطع متنوعة مثل: أدوات، أسلحة، وحجارة (أنواع عدة من الحجارة)، وقرون (قرون الحيوانات)، والفخار، والحليّ، اي أنواع عدة وليس نوعاً او صنفاً واحداً. والمبنى كان بالأساس قائماً ولكن تمت توسعته لكي يناسب حاجاتنا كمتحف متخصص، ولن نوسعه  أكثر لكي لا يملّ الناس، لأن الهدف ليس الكمية بل النوعية والتنوع، وبالتالي المساحة كانت مقبولة لعرض القطع في <الفترينات>. ودائماً بكل متحف عندما تكون المجموعة موجودة وتُوضع في معرض دائم في المتحف او حتى غير دائم فهي التي تُملي على القيمين على المتحف الخطوات التي سيتخذونها لعرض تلك القطع، اي لا يمكن تغيير القطعة بل يتم ابرازها فحسب، اذ انه ممنوع ان تُلمس ولكن ممكن ترميمها ليس الا، مثلاً اذا كان الفخار قد كُسر لقسمين فيمكن اعادة ترميمه، وهذه أمور علمية لا نقدر ان نتخطاها، ولهذا اخترنا ان يكون المتحف بهذا الحجم، ولقد اخترنا ان نتناول كل المواضيع لأنه وفقاً للمجموعة استطعنا ان نستخرج المواضيع الأساسية لعصور ما قبل التاريخ، ولا ننسى الحقبات الزمنية لأن عصور ما قبل التاريخ في لبنان تبدأ بمليون سنة وتنتهي مع الكتابة وبالتالي هو زمن طويل، وبما ان مجموعتنا تضم عدداً لا بأس به من القطع الحجرية فقد حاولنا ان نستخرج منها ما يمكن ان يحاكي الزائر مع الاخذ بعين الاعتبار التسلسل الزمني، لهذا أردنا ان نبدأ بأول اكتشاف للانسان التي هي الأدوات، ومع مرور الزمن كيف اصبحت تلك الأدوات، وبعدها نتطرق للمسكن في عصور ما قبل التاريخ، والغذاء، واختراع الزراعة، وتدجين الحيوان... ولقد اتبعنا تسلسلاً منطقياً عندما تناولنا موضوع الأدوات، ونعني بها الأسلحة فاذا لاحظت خلال الجولة في ارجاء المتحف ان الخطوة الأولى انطوت على المادة الخام اي الحجر، وبالتالي وضعنا في <الفترينات> المواد الأولية التي اُستخدمت لتصنيع الأدوات الحجرية، اذ بدأنا بالمادة الخام وأدوات التصنيع الى ما هنالك، وفي الختام يرى الزائر كيف كانت تلك الأدوات تستعمل. وحتى بموضوع الزراعة فيجد الزائر في <الفترينات> طريقة عرض القطع بتسلسل منطقي اذ عرضنا خطوات عمل المزارع حيث يبدأ بحراثة الأرض ثم بعدما تنضج الحبوب يأتي وقت الحصاد ثم جرش الحبوب وتخزينها ونقل الحبوب من بيت الى بيت ومن قرية الى قرية الى آخره، اذاً بهذه الطريقة تُعرض القطع وليس بطريقة عشوائية وبالتالي <الفترينات> هي بنفسها تحكي عن تلك الحقبة، وبالتالي يعرف الزائر كيف كانت كل هذه الأمور تحدث في تلك العصور. كما أننا نتناول طريقة أخرى لعرض القطع فاذا لاحظت في الطابق الأول أن <الفترينات> فيها تقنية الصقل اذ تعرض الأدوات المصقولة، مع العلم ان الانسان في عصور ما قبل التاريخ لم يكن يصقل كل الأدوات بل كان يصقل الأدوات التي تُستخدم لقطع الخشب، اذ كان الانسان يصقل الحافة القاطعة لتُستخدم تلك الأداة لمدة أطول دون ان تنكسر، كما كان يصقل الجوانب لتقدر ان تدخل بسهولة بالمقبض، وعندما كان يصقل القطعة ككل فكان يفعل ذلك لابراز جمال القطعة. اذاً طريقة العرض لهذه القطع مهمة وقد تم عرضها بطريقة مدروسة.

ــ وما هي أنواع الحجارة او الأتربة المعروضة في المتحف؟

- ان أكثر نوع من الحجارة استخداماً في لبنان في تلك الحقبة هو حجر الصوان اذ انه موجود في مناطق لبنانية عدة، وان حجر الصوّان هو نوع من  الحجارة التي يسهل نسبياً التعامل معها، علماً أنه عثر في لبنان بمواقع سكنها الانسان في تلك الحقبات على أدوات حجرية من أنواع غير موجودة في بيئتنا اليوم، وهو ما يُعرف بالحجر الأخضر او الزجاج البركاني.

نشاطات المتحف!

ــ ماذا عن نشاطات المتحف؟

- يقوم المتحف بنشاطات للصغار او لفئات عدة نسميها المشاغل التربوية، وعلى أرض الواقع 90 بالمئة من المدارس التي تحجز لزيارة المتحف يقوم تلاميذها بالمشاغل التربوية حيث نتطرق لمواضيع متصلة مباشرة بالتقنيات والاختراعات، ويدخل التلاميذ إلى الصالة ويتابعون عرضاً على برنامج <باور بوينت> اذ يُفسّر لهم مثلاً اين يجد الأثري الحليّ عندما يحفر، ومن كان يلبس الحلي وغيرها اي نعطيهم نبذة عن هذه الأمور، وبمواد مشابهة وطبيعية يصنّع التلاميذ الحليّ، من ثم يأخذ كل تلميذ الحليّ الذي صنعه بنفسه، والأمر نفسه بالنسبة للفخار... ويتم الحجز مسبقاً للمشاغل التربوية اذ نقضي ساعتين مع كل صف، وأحياناً نفتح يوم السبت اذا كان الأهل يرغبون بتسجيل اولادهم بالمشاغل التربوية خارج اطار المدرسة.

وأضافت:

- كذلك نقوم بمحاضرات اذ ندعو الذين يعملون او المتخصصين بعصور ما قبل التاريخ في المنطقة او خارج لبنان، ونقوم بمشاغل تدريبية للكبار مثلاً عن رسم القطع الحجرية اذ لها خصائص فيقصدنا تلاميذ وأساتذة مدارس للقيام بها، ولدى المتحف نشاط ثانوي وهو ليلة المتاحف التي أطلقتها وزارة الثقافة، اذ يشارك <متحف ما قبل التاريخ> فيها منذ اطلاقها، كما لدينا سنوياً <اليوم العالمي للمتاحف> الذي يُحتفل فيه يوم 18 أيار (مايو)، اذاً هذه هي النشاطات للعامة. ولدينا ايضاً جانب مهم وهو يتعلق بالأبحاث العلمية اذ يقوم المتحف بأبحاث علمية، مثلاً عملنا ضمن مشروع في قرية اللبوة في شمال بعلبك في العام 2011 وقد جاء بنتائج مهمة جداً ودراسات عديدة ومتنوعة، وما زلنا نقوم بالدراسات وسنصدر المنشورات. والآن نعمل أيضاً على مشروع اعادة اظهار القبور الميغاليتية في بلدة منجز - عكار الغنية بمواقعها الأثرية القديمة، وهذا المشروع مموّل من وزارة الخارجية البريطانية وسنفتتحه في آخر حزيران (يونيو) المقبل.