بقلم سعيد غريب
الموارنة ملح لبنان، فإذا فسد الملح فبماذا يملَّح؟
عبارة <حفر وتنزيل> عاشها الموارنة على مدى عقود، أما اليوم فينظرون الى أنفسهم وحالهم وحواليهم، فلا يرون سوى حزن في الأولى وتردٍّ في الثانية وتبخر المسيحيين في الثالثة...
أنهكتهم الحرب وما سبقها وما أعقبها، أضعفهم اتفاق الطائف واستقالوا من الدولة ووظيفتها عندما قرّروا مقاطعة الانتخابات النيابية عام 1992، وتقلّص عددهم بفعل التهجير والهجرة، وكبرت جروحهم رغم مرور أربعين عاماً على قتالهم مع الآخرين وورمت أحقادهم بفعل حروب الإلغاء التي بدأت قبل حوالى ستة وثلاثين عاماً واستمرت سياسياً واجتماعياً وإعلامياً بأبشع صورها.
إيمانهم بزعمائهم بلغ حد التصديق بأن تمثال السيدة العذراء في حريصا غيّر وجهته واستدار في ربيع العام 1968. إيمانهم بزعمائهم أطاح فؤاد شهاب باني دولة لا نزال نغرف من فضلاتها حتى اليوم.
إيمانهم بزعمائهم أنساهم نظافة الياس سركيس وذكاء شارل حلو.. هما ليسا <قويين>..
لمّا خُيّروا بين مخايل ضاهر والفوضى، اختاروا الفوضى وما نتج عنها من حربين مدمرتين واتفاق أخذ منهم الدور ومعظم الخيرات..
يريدون رئيساً قوياً، وحتى الساعة لم يتمكنوا من تحديد مفهوم القوة وماذا تعني القوة لدى الرئيس...
لم ينتبهوا الى أن الحلف الثلاثي الذي كان يضم ثلاثة أقوياء: كميل شمعون، بيار الجميل، ريمون إده، لم يتمكن رغم العظمة التي بلغها من إيصال أحدهم الى الموقع الأول، فأتى الثلاثة برابع من كتلة الوسط اسمه سليمان فرنجية. وحده رجل الدولة مكروه عندهم وفي وجدانهم لأن <جبلتو ثقيلة>..
لا يريدون أن يعرفوا أن أي رئيس <ضعيف> يمكن أن يكون <قوياً جداً> إذا التفّ قادتهم حوله ودعموه، متنازلين له وللدولة عن مرجعياتهم الشعبية.. المنطق لم يعد صالحاً والناس تنظر بعضها الى بعض وكأنها لا تنظر، لا تفهم على بعضها البعض، لا تسمع غير ما تريد سماعه.
هاجسها المصير والأولاد وأولاد الأولاد، غدها غامض، تمضي الساعات والساعات على الطرق لا تدري الجهة التي ستسلكها، تعرّج على المحلات و<المولات> للتبضع وملء البطون لتضيع العقول، تملأ خزانات سياراتها بالوقود لتحرقه بسعر متدنٍ في أنوفها وأنوف غيرها.
إن محنة لبنان كبيرة، وحزنه كبير ومخاوفه أكبر.
الموارنة جزء من شعب لبنان <العظيم> وجدوا في الأساس في لبنان ليبقوا فيه، ومن هاجر لم يفكر طويلاً ليعود إليه..
هم اليوم متمسكون به وغير متمسكين بالبقاء فيه.
أسسوا لبنان لأنهم كانوا سادة الحوار، وفي الوقت عينه ملح لبنان وملح العروبة. واليوم يفقد المثقفون الموارنة الغائبون والمغيّبون الثقة بأهلية زعمائهم وقادتهم، ويجدون أنفسهم في دفاع لا قيمة له عن قضية لا يعرفون ما هي بالضبط.
اليوم كل الخشية من أن يكون الملح قد فسد، أو على وشك أن يفسد لأنهم مختلفون، ومن أن قوتهم تزول لأن جمعهم أضحى تمثيلية..
كان الجميع يعوّلون على التفاهم لأنه من اتفاقهم يبدأ لبنان من جديد، شرط أن يكون الاتفاق على إنقاذ لبنان ولا شيء غير ذلك.
مأساة لبنان لا شبيه لها، لأن هناك أكثر من خمسين شخصية مارونية مرشحة للرئاسة، وكل واحد من هذه الشخصيات يعتبر نفسه قادراً إذا وصل على وضع حد للمأساة... لعل هذه مأساة المآسي..
بعد هذا كله، هل من أفق، هل من رؤيا، هل يبدأ لبنان الجديد؟ من أين؟ من طبقة سياسية جديدة؟ من بكركي؟
ممكن، فالوثيقة الاخيرة التي صدرت عن الصرح البطريركي الماروني قبل بضعة أشهر تقوم على العيش المشترك والميثاق الوطني والصيغة، وتقول: <إن مقولة العيش المشترك ليست شعاراً بل هي لب التجربة اللبنانية على الرغم من تصرفات البعض، وهذه المقولة تحمل مضموناً صريحاً وتلفت الى أن صلب العيش المشترك هو الانتماء الى مشروع حضاري التقى فيه الإسلام والمسيحية، وتشير الى أن الوضع الراهن بلغ مرحلة مصيرية، والكنيسة المارونية لا يمكنها أن تقف موقف المتفرج، مما يهدد مستقبل لبنان>.
الوثيقة تتخوف من الأمن الذاتي، والذي <يبرر وجوده من خلال عجز الدولة، فيبيح لنفسه حق الدفاع عن ذاته وينجر القوي الى فرض خياراته على الآخرين فتبدأ المواجهة في الداخل وتدخل البلاد في صراع المحاور، وهذا هاجسنا الأكبر>.
وتحذر الوثيقة من <استمرار التفرّد والتعنت والطمع بالسلطة، فهذا سيأخذ لبنان نحو الهاوية>.
ماذا سيفعل البطريرك الماروني، وماذا ستفعل بكركي إذا لم يؤخذ بالوثيقة وبمطالبها ورؤيتها؟ بل ماذا يستطيعان أن يفعلا؟ هل يلجأ البطريرك الماروني الى حلول أخرى؟ وهل من حلول أخرى؟
الأكيد، ان الموارنة كانوا أول المتمسكين بقيام لبنان، ويجب أن يظلوا آخر المتمسكين ببقائه بقيادة حكيمة لم يكتب لها أن تظهر حتى الآن!
نعم، الموارنة يستطيعون إنقاذ لبنان بكنيسة قوية وقامات فكرية تعيدهم الى دورهم الطليعي، فهم أكبر من لبنان الصغير، ولبنان الموارنة أكبر من لبنان المسيحي...