بقلم عبير أنطون
[caption id="attachment_84341" align="alignleft" width="203"] الولادة من جديد.[/caption]حتى السادس عشر من كانون الثاني - يناير ، يبقى معرض "الفن الجريح" في فيلا عودة (الأشرفية ــ بيروت)، شاهداً على ما أصاب العاصمة اللبنانية من مرفئها، وما خلّفه هذا الانفجار في الأجساد والنفوس والبيوت. فماذا في المعرض - الشاهد على الألم والمعاناة، ومن شارك فيه؟ أية أهمية يكتسبها خصوصاً لناحية الفن والثقافة؟ هل له بعد اقتصادي ايضاً ؟ وما المقصود بعبارة Kintsugi التي قام على أساسها؟
"الأفكار" قامت بالجولة وعادت بالأجوبة ...
المعرض – الحدث، هو عبارة عن "تعبير فني جديد" مستوحى من الـ "كينستوجي" في اليابان الذي يقوم على "علاج الخزفيات" وإعادتها إلى الحياة بعد الاعتناء بها، اي ترميم الأواني الخزفية والفخارية وإصلاحها، تماماً مثل عودة الإنسان إلى الحياة، والمفهوم نفسه، قد ينطبق ايضاً في علاج الصدمات. وهل أشد منها بعد كارثة المرفأ وما عاشه الناس وما رأوه ؟
من خلال وجهات نظر ثلاث، ارتأى القائمون على معرض "الفن الجريح" ورعاته ( نظمه بنك
[caption id="attachment_84344" align="alignleft" width="372"] جان لويس مينجوي .[/caption]"بيمو") ان ينطلقوا بهذا المشروع الفريد من نوعه، والذي والحق يقال، إن من زاره وتأمل بمعروضاته واستمع الى الأشعار والموسيقى المتهادية فيه، خرج، وبالواقع الملموس، افضل نفسية وتقبلاً، وأكثر أملاً بأن الجرح وإن طال نزفه، فإنه سيشفى لا محال، طالما أن إبداعات على هذا النحو ما زالت بيروت، وفي عزّ كبوتها قادرة على تقديمها.
الوجهة الأولى للمعرض، تتشكل قبل أي شيء من خلال المنظور الفني البحت من خلال عرض الأعمال التي تعرضت للضرر جراء الانفجار، يليها المنظور
[caption id="attachment_84343" align="alignleft" width="448"] الفن ..علاج .[/caption]الإنساني. فما يمكن أن يغيّر الفن يمكن أن يغير البشر أيضاً، ويلقى ذلك ترجمته من خلال لوحات تعرضت للضرر بسبب الانفجار وجرى التدخل لاصلاحها، تماماً كما المريض الذي يلقى عناية فيشفى، وربما يصبح افضل من ذي قبل . اما المنظور الثالث لهذا المشروع فهو المنحى الاقتصادي، ذلك ان اللوحات او المنحوتات المعروضة، وإن هشّمها الانفجار، فإنها اكتسبت قيمة اقتصادية مضافة من بعده، وأضحى تقييمها المادي أكبر.
هذه الوجهات الثلاث إذاً، ارتكزت على أساسها معروضات "الفن الجريح" في فيلا عودة البيضاء، حيث الشارع المحاط بالأشجار في منطقة سرسق - الأشرفية، وهي الفيلا التي لطالما عرفت بمجموعة الفسيفاء الفريدة التي تحتضنها والتي تمَ استقدامها من مختلف أنحاء العالم، هذا غير التماثيل والمنحوتات المهمة المعروضة في أرجائها.
إعادة البناء..
لاختيار ما أتحفنا به معرض "الفن الجريح"، تم تشكيل لجنة برئاسة المعماري جان لويس مينجوي من الفنانين المحترفين ومن محبي الفنون. أما في الهدف فيقول مينجوي:
"تكريماً لضحايا الانفجار المدمر نأمل أن يساعد هذا المظهر الفني في توجيه كل منا على طريق إعادة البناء والولادة.. حتى لا ننسى أبداً ولا نستسلم أبداً. إنها إنارة طريق كل واحد منا في إعادة البناء" مضيفاً:
"لا تكفي مداواة الجراح وإخفاء الحدث... فنحن ملزمون بأن نولد من جديد ونعيش أكثر وبطريقة أفضل".
أقسام المعرض...
[caption id="attachment_84346" align="alignleft" width="373"] مزقها الانفجار.[/caption]يقسم المعرض الى أجزاء ثلاثة. الأوّل مستوحى من فاجعة المرفأ وما خلفته، ويضم الجزء الثاني أعمالاً من مجموعات خاصّة أتلفها التفجير وتمّت "مداواتها"على وقع الموسيقى والإضاءة إلى جانب نصوص لشعراء نظموا قصائد عن بيروت، أمثال صلاح ستيتية، نادية تويني، جبران خليل جبران وشارل قرم وغيرهم، معطوفة على موسيقى عبد الرحمن الباشا وغابريال يارد وزاد ملتقى وأسامة الرحباني وغيرهم. أما الجزء الثالث، فيتألّف من أعمال تمّ تحويلها بواسطة "لفتات فنية" على يد فنانين من لبنان وخارجه.
فكما أن الناس أصيبت وكذلك بيوتها وأعمالها، فإن الفن أيضاً طاله هول الكارثة. أصيب بفجيعة وتقطعت أوصاله وضربه الشلل، وتأثر في جميع مرافقه. فقد تعرض الكثير من الفنانين لصدمات نفسية، وتضررت الأعمال وورش العمل، من هنا كان اساسياً للمعرض ان يقدّم أعمالاً مستوحاة من الكارثة او اعمالاً تشوهت او اتلفت بفعلها وتم تحويلها على يد فنانين إلى أعمال جديدة، أحيطت خلالها بعناية فائقة، لتعود وتنهض من جديد، بحيث يشاهد ناظرها عبورها من الموت إلى الحياة مباشرة أمامه.
وانطلاقاً من ذلك، قدّم المعرض - التحية أعمالاً بصرية وسمعية تمحورت حول بيروت وما فيها ،فكانت لوحات للفنانين مطبوعة
[caption id="attachment_84348" align="alignleft" width="375"] يدا كلوديت عالجتا لوحة "يونغ".[/caption]بآثار الكارثة منها لشفيق عبود (1926 – 2004) الذي قدّم سلسلة "المقاهي المبتلَعة" عام 1990، وهي تشكيلات ضخمة ملوّنة مستوحاة من واقع الحرب الأهلية اللبنانية، وفريد عواد (1924 – 1982) بأعماله المستوحاة من الطبيعة الصامتة، وصليبا الدويهي (1913 – 1993) الذي اشتهر بانطباعيته في تصوير مشاهد من الريف اللبناني، وبول غيراغوسيان (1926 – 1993) الذي رسم الأناس المهمشين في شوارع بيروت فضلاً عن مواضيع العائلة والألم والمنفى والعمال..
والى هؤلاء الرواد، حرص المعرض على تقديم أجيال لاحقة من الفنانين أيضاً، بينهم انطوني خليل وهلا عز الدين ونبيل نحاس وعماد فخري وهادي سي وميساك طرزيان وأروى سيف الدين في اعمال فنية ثلاثية الأبعاد ...وهؤلاء نفّذوا لوحاتهم ومنحوتاتهم بعد 4 آب/ أغسطس ، كشواهد حيّة على الكارثة التي أطبقت على العاصمة، هذا الى جانب منحوتتين لكاتيا طرابلسي إحداهما تكسرت وتعُرض في صندوق شفاف مصنوع من مادة «البليكسي غلاس» كانت نحتتها في عام 2015 عندما جرى تدمير آثارات بغداد فحاولت إعادة بناء تاريخ العراق من خلالها، وثانية شوهتها شظايا الانفجار وكانت نفذتها من جانبها في العام 2019 .
وهذه المعروضات على اختلافها، حتى ولو شوهها الانفجار، فإنها في استقبالها لزائرها تشعره بأنها خرجت عن صمتها وكلّمته بلسان حالها وكأنها هي من تنظر الى الزائر وليس العكس، تخبره بما حل بها وبأن بعض الوقت يستلزمها بعد لتعود وتجدد ذاتها وقيمتها، وكأنها تعكس ما يؤمن به الكثيرون بأن الفن "يبقى الخشبة الأخيرة لخلاصنا".
يوحنا ..والحب والسلام ..
[caption id="attachment_84342" align="alignleft" width="250"] لوحات جريحة .[/caption]هذا الانفجار الذي خطف بدماره الشرس روح غايا فودوليان، مديرة "معرض ليتيسيا" في الحمرا وهي في ربيع عمرها، كان خطف ايضاً روح العديد من الغليريهات والمتاحف بينها طبعاً متحف سرسق البيروتي الشهير. الا ان هذا المتحف الرمز وما يعنيه في تاريخ العاصمة وذاكرتها ، يعبّر من ناحيته في معرض"الفن الجريح" عن رفضه الاستسلام وبقائه متمسكاً بدوره، وذلك من خلال مشاركته في فيلا عودة بلوحة هي من مقتنايته يؤكد على اعادة عرضها كما هي في صالاته، ذلك ان منظمي "الفن الجريح" خصصوا جانباً من المعرض للوحات تعود إلى فنانين أوروبيين، فكانت لوحة الفنان الإيطالي غويدو ريني (1575 – 1642) التي رسم فيها القديس يوحنا المعمدان، وهي من ضمن مقتنيات متحف سرسق في بيروت وتعود للقرن السابع عشر .
لوحة القديس يوحنا هذه التي لم يسلمها المرفأ من عصفه، أعيد إحياؤها في المعرض القائم حالياً من خلال تقنية الغرافيك الحديثة حولها المعرض إلى ألبوم رسومات لفنانين عالميين تناولوا الشخصية نفسها في أعمالهم. ومع تفرج المشاهد على اللوحة التالفة، تطالعه أخريات لمايكل أنجلو وليوناردو دا فنشي ورافاييل، وآخرين مروا بريشتهم عبر القرون على هذا القديس ورسموه .
والى "يوحنا المعمدان"، تلفت النظر في المعرض اللوحتان الزيتيتان الضخمتان اللتان تعودان إلى الرسام الكوبي أندي ليانز، واللتان أصابتهما الشظايا بدورهما وكانتا معروضتين في غاليري (ساوث بوردر) في بيروت. وهنا، ما إن يقترب الناظر من اللوحتين المتشظيتين حتى يكتشف مربعات صغيرة مدموغة برمز مشفر تغطي ثغراتهما بفكرة لكارلو مسعود. يضع الزائر عينه بواسطة هاتفه الجوال عليها فيخرج له رابط (لينك) يقرأ فيه رسائل عن بيروت المنكوبة ضمن شريط فيديو قصير أو صورة فوتوغرافية.
كل هذه اللوحات والمنحوتات المختارة بدقة عالية وتنظيم يشهد له، تحاول كما ابناء بيروت وبناتها ان تتعافى، وهذه المعافاة هي وعد منها لأن عالمها حي ، وكما يقول مينجوي، القيم على المعرض:
[caption id="attachment_84345" align="alignleft" width="312"] لوحة توم يونغ .[/caption]"الفن هو عالم في نظام حركة دائمة ... ولا يمكنه أن يموت. وإذا ما غاب حضوره هذا عنا علينا أن ننفخ فيه الحياة... وما يمكنني قوله هو إن الأفكار التي ترونها هنا هي بمثابة مدخل إلى هوية وولادة يجددان حياة هذه الأعمال".
نفخ الحياة مطلوب بشدة في بيروت اليوم ، فهي جريحة طبعاً لكنها لا تزال حية تماماً كما المعروضات . وهذه الـ"بيروت" حضرت زاهية بمنحنياتها الجميلة في "الفن الجريح" من خلال (المنحوتة البرونزية لهادي سي) والتي ابرزت الرقمين 6 و9 للدلالة على توقيت انفجار المرفأ. اليها تنضم منحوتتا "الحب"،"السلام"( للفنانة التشكيلية نايلة رومانوس) حتى تجتمع في المعرض وكأنها باسمائها تختصر ما تتوق إليه بيروت من حب وسلام، فتعود من جديد عروس المدائن.
توم يونغ..وما دخل كلوديت؟
[caption id="attachment_84347" align="alignleft" width="375"] منحوتة بيروت وفيها الرقمان 6 و 9 اشارة الى ساعة الانفجار .[/caption]واذا ما حملت كل لوحة من المعرض او منحوتة قصتها، فإن للوحة "Holiday Inn Interior Spectrum" للفنان البريطاني توم يونغ، حكاية مختلفة ومعاني تختزن الكثير.
فاللوحة المعروضة في "الفن الجريح" كان رسمها توم يونغ، لتصور فندق الـ"هوليداي إن" الذي دمر خلال حرب لبنان. بعد انفجار المرفأ تضررت اللوحة، وللمصادفة الغريبة، في الاماكن عينها التي كانت اصابت الفندق فعلياً اثناء الحرب. بعد الشظايا التي طالتها، وتحت اشراف توم نفسه، قامت كلوديت مهنا وهي خياطة معروفة في الاشرفية، تضرر أيضاً مشغلها في الجميزة ونجت باعجوبة من الانفجار، باعادة خياطة الدمعة التي كانت في اللوحة وتعاملت معها كما لو انها قطعة من القماش، ولذلك فإن العمل اختلف اليوم عما كان عليه في الأصل. صحيح ان اللوحة هذه كانت تمثل الحرب في لبنان كما يراها الرسام، الا انها اليوم، بفضل يدي كلوديت، باتت تجسد أيضاً صدمتها وصدمة جميع الضحايا الآخرين، وهذا ما يجعل العمل عملاً أكثر ثراءً من جهة وأكثر تعقيداً من جهة أخرى. وهذه اللوحة بدل ان يكون قدرها الزوال تطورت، وهي الآن الشهادة الحية لانتصار الحياة على الموت. هذا المفهوم الجديد لحياة العمل الفني فريد من نوعه ورسالته عالمية.
وفي هذه اللوحة والعمل عليها نقطة أساسية اخرى لا بد من الاشارة اليها، وتتمثّل بوضع انانية الفنان جانباً فتكون الرسالة هي تنحية الأنا وقبول وساطة الآخر، والعمل معاً من أجل الصالح العام. كلوديت حولت عمل الرسام، وهكذا قامت هي وتوم بتغيير العمل الأولي متجاوزَين تحفظات الفنانين المعتادة! ..