بقلم عبير أنطون
[caption id="attachment_81955" align="alignleft" width="185"] لييا.. واعقاب السجائر المرميّة.[/caption]
شكّلت لييا نوربتليان حالة خاصة مذ ظهورها على شاشات التلفزيون وهي تلبس "يونيفورم" عمال النظافة، وبيديها القفاّزات والآلة التي تمسك بها القمامة، وبجانبها الكيس المملوء بشتى أنواع النفايات. راحت الأقلام والألسن تحيك القصص حول لييا، والتعتير الذي أودى بها الى هذه الحال، والوضع الاقتصادي الذي قذف بامرأة نحيفة، رقيقة ،تحمل الشهادة في السياحة والمحاسبة وتتكلم الانكليزية والفرنسية وتعيش في منطقة النقاش المتنية الى اضطرارها للعمل حتى تردع شبح الجوع الذي يهدّد نسبة كبيرة جداً من الأسر اللبنانية. الا انّ هذه الصورة عن لييا والوظيفة التي دخلتها من كل "قلب وربّ" كما يقول المثل اللبناني، هي في موقع مخالف تماماً. فلييا ليست "معتّرة"، ولا هي تبحث عن القرش وهدفها في ما تقوم به، يقع في مقلب بعيد عن الصورة التي رُسمت لها.
فماذا أرادت لييا أن تقول؟ وما هي دعوتها الى اللبنانيين اليوم؟ هل تقصّدت الضجة التي أثارتها إطلالتها في أكثر من تقرير تلفزيوني؟ وماذا يقول السيد فادي بو سعد الذي فسح لها المجال في شركة "رامكو"، ولماذا وظّفها ؟
الأسئلة أجاب عنها لـ"الافكار" كل من السيد فادي بو سعد ولييا نوربتليان التي كانت بغاية الصراحة ..
حكاية "لييا" مع شركة "رامكو" بدأت لما دخلت الشركة تحمل صوراً في يدها. توجهت الى الشركة يقول بو سعد لـ"الأفكار" شاكية من أنّه في المنطقة التي تعيش فيها قمامة على الأرض مبرزة لنا الصور، طالبة منا العمل على الأمر أكثر، فشكرناها على لفتة النظر وشرحنا لها أننا نعاني نقصاً في عدد العاملين، بعد أن غادر 750 عاملاً أجنبياً الشركة إثر تفاقم أزمة الدولار، فضلاً عن أنّ انتاجية العامل اللبناني في المجال ليست مرتفعة، وهو يتململ سريعاً اذ يعمل لثلاث ساعات ومن ثم يتوقف لساعة ومن بعدها يستأنف، كما وأجبناها بأنّنا بحاجة الى 500 عامل لتوظيفهم . هنا قالت لي: أنا اعمل. رحّبت بذلك ، وشرحت لها الصعوبات التي قد تواجهها فأجابتني بأنّها أصلاً، وفي مبادرة شخصية منها كانت تجمع النفايات وترفعها من الشارع.
ويضيف بو سعد:
- وفّرنا لها مختلف التسهيلات اللازمة بينها أن تكون في شارع قريب من مكان سكنها، مع تأميننا لكل ما يلزم. شجّعناها كونها ستكون عنصراً فعالاً في تغيير الصورة لطريقة التفكير اللبنانية بأنّ أعمالاً مماثلة تقع تحت راية "الـ"عيب" و"لا يجوز" فيما العيب هو الاستجداء او السرقة او النهب، او الشكوى من شح المال في البيت في حين ان العمل والانتاج متاحَين.
ولما نسأله عن أسباب تململ العامل اللبناني يجيبنا بو سعد: هو غير معتاد على عمل مماثل. العامل الأجنبي مثلاً، تستقرّ انتاجيته من الصباح وحتى يعود الى الـ"دورمز" بالمستوى عينه، في حين أنّ العامل اللبناني يصحو من دون جلد، يشرب القهوة والسيجارة ويعمل ثم يتوقف، وهكذا ..من دون تعميم طبعاً. غالبية من يتقدمون الى العمل لدى "رامكو"، يقصدونها من منطقة الشمال، وهي تفتح أبوابها لاستقبال عمّال من كل المناطق اللبنانية خاصة وانها بحاجة الى حوالى 650 عاملاً اليوم،
[caption id="attachment_81953" align="alignleft" width="224"] نفايات ..ولا فرز ![/caption]مع تدريبات تؤمنها لهم، كما وتدرّبهم على العمل بأمان، كل شخص بحسب المهمة الموكلة اليه، فمن يكنس الارض يختلف تدريبه عمن هو في "الكميون" الخ ..
وبعد "النجومية" التي حصدتها لييا كأوّل عاملة نظافة في لبنان، وتوقّعه من أن تكرّ سبحة العاملات من بعدها، يقول بو سعد:
"لا بل هي الأولى في لبنان والشرق الأوسط وكانت شركتنا السبّاقة الى ذلك. لا أتوقّع أن يكون عندي سبحة تكر بنسبة كبيرة من العنصر النسائي، إلا أنّ لييا هي عنصر أساسي لتغيير مفهوم العمل، ورسالتنا موجهة من خلال هذه السيدة الى الشاب والرجل اللبناني . فإذا كانت هي المرأة تعمل في هذا المجال، وهو يتطلّب قوة بدنيّة، هل يمكن لك أنت كرجل او شاب أن تقبع في البيت وتتذمّر من عدم وجود عمل؟ هنا العيب الحقيقي" !
وعمّا إذا كان متوقعاً للضجّة التي أحدثها توظيف لييا واذا ما ساهم الأمر في "تصحيح الصورة" التي اهتزّت لـ"رامكو" بعد قضية العمّال الأجانب فيها يوضّح بو سعد :
- صراحةً، اشتغلت على الرسالة الى الشاب اللبناني من خلال توظيف لييا. لم يكن هدفي أن تحدث هي الضجة إنّما أن تمرّ من خلالها تلك الرسالة للحث على العمل. بذلك فقط ننهض بالبلد، ولا نتّكل على اليد العاملة الأجنبية لتقوم بما يمكن أن نقوم به نحن.
ويضيف بو سعد:
- أتأسف لما حدث، وكنت أعتقد أن وسائل الاعلام ستركّز على هذه الناحية من عمل لييا ورسالة الشركة من خلفها وليس تصوير الأمر وكأن الظروف الاقتصادية هي التي أجبرتها على هذا العمل. فـلييا "مش معترة"، وهي أرادت أيضاً ان توصل رسالة في النظافة والبيئة، وجاء ذلك ليلتقي مع رسالتنا بجعل اللبناني يدخل في هذا المجال. نحن اليوم في الشركة لدينا 650 وظيفة شاغرة، والشركة الأخرى بحاجة الى 600 عامل ايضاً يمكن توظيفهم في 24 ساعةَ، ما يعني اننا يمكن تأمين العيش الكريم لـ 1200 عائلة. جاءنا عدد كبير الا انهم، تركوا بظرف خمسة أيام بحجة ان هذا الشغل "ليس لهم".. في فرنسا والغرب عاملات نظافة، وتقدن الكميونات، اين الرجال؟
وعن الضمانات المؤمنة، يجيب بو سعد بأن العامل "آكل شارب نايم" في دورمز على اعلى مستوىً، لناحية النظافة والامان والتقديمات الموجودة مع "كيترينغ" وشيف موجود دائماً.
اما بخصوص الشق الثاني من السؤال حول صورة "رامكو" فيؤكد بو سعد ان الأمور غير مرتبطة ببعضها على الاطلاق، ولم يكن السبب أي اداء سيئ او مسيئ قامت به الشركة، انما السبب هو أزمة الدولار التي تفاقمت، فراح العمال يطالبون بالرحيل، واستغلّوا ما يمكن ترويجه على بعض مواقع التواصل الاجتماعي. مضيفاً " الله وكيلكم، لم تبق جمعية انسانية الا وزارتنا وصولاً الى كبريات الوسائل الاعلامية ولما كانوا يصلون الى هنا ويرون ما يتم تقديمه، فضلاً عن شرح ما حصل، كانوا يقفلون عائدين".
وفي سؤالنا الأخير لـ"بو سعد" عن شكوى لييا من عدم فرز القمامة، فإنه يشير الى أنّ مهمتهم كشركة هي نقل النفايات وليس فرزها. فالناس لا تفرز من المصدر، ومعمل الفرز تضرر جرّاء انفجار المرفأ في الرابع من آب (اغسطس) الماضي ما فاقم الأزمة، مؤكداً أن موضوع النفايات قرار سياسي، ويمكن ان يحل ببضعة أيام لو وجدت الارادة السياسية له. فنحن هنا لا نخترع الدولاب.. لنعتمد تجارب الدول التي نجحت في هذا الاطار ونسعى الى تطبيقها .
لييا والـ"ميتاليك ميوزك"..
[caption id="attachment_81952" align="alignleft" width="223"] لييا ومجموعة الأولاد الذين نزلوا للمساعدة.[/caption]مع لييا التي باركنا لها ذكرى الاسبوع على بدئها العمل، حمل الحديث الجدية والكثير من الفكاهة. فمزاج لييا الجيّد تجعلك تقبل على الحديث معها من دون ان يكون لـ"النقّ" اية فسحة.
بإيجابية كبيرة تتعاطى مع عملها الجديد، وإن كانت لا تنكر بعض الصعوبات فيه. بعد تجربة الاسبوع الأول تقول:
- لقد كان النهار الأول صعباً عليّ نوعاً ما لانني لم أعرف كيف اتعامل مع المستوعب وهو اثقل مني وزناً او كيف امسك الآلة التي ترفع اعقاب السجائر، فآلمتني يدي ولو في القفّاز، خاصة لجانب الاظافر اذا كنت ألامس الارض لرفع هذه الأعقاب، وكذلك عرفت بعض الالم في ظهري لانني اعاني من الـ"ديسك" . لذلك، لمّا عدت الى البيت، وضعت مخططاً ليومي التالي حتى أعمل بطريقة سليمة، ومشي الحال، وبدل ان أرفع النفايات بتّ أجمعها في اكياس كبيرة وأصور مكانها للعمال من بعدي فيرفعونها الى الشاحنة . الامر كله يتطلب ساعتين للتدريب الجيّد، وانا على استعداد لمشاركته مع من يطلبه مني، او حتى يمكنني ان استفيد من خبرات الآخرين، الا ان المهمّ ان ينزلوا على الأرض، وينظفوا، اكان من خلال الشركة او من خلال مبادرة فردية. هذه بيئتنا وهذه ارضنا ومن واجبنا المحافظة عليها.
وتضيف لييا بحماسة:
- ما اكثر ما تصلني اشارة "لايك" وكلمة "برافو" عبر مواقع التواصل، إلا ان ليس هذا هو المطلوب، مع شكري لهم . أريدهم ان ينزلوا، كمجموعة الأولاد الذين تحمسوا وهبّوا للمساعدة. أرى العبوس والوجوم على وجوه الناس، وهنا ادعوهم ولو لتحسين القليل ، وهنا ستتبدّل نفسيتهم. انا التقط الصور لما كان عليه الحال قبل ان ارفع النفايات حيث اعمل وبعدها، ولمّا أعود الى البيت، وأنا اشرب قهوتي وسيجارتي، أتأمل بالصور وأفرح للفرق الذي صنعته. إنه خيط أمل بغدٍ أفضل. فأنا لم انتسب للشركة لأكسب لقمة العيش علماً ان المردود المادي مهم، ولا كما كتب، لأن الظرف الاقتصادي هو ما حدا بي الى هذا العمل ، انما لأحدث فرقاً ولو بسيطاً.
ولما نسأل لييا إن كانت نادمة على خطوتها تجيبنا بتأكيد واضح: على الاطلاق! وأنصح الجميع بأن يتقدموا الى وظاف مماثلة، وبينهن النساء. حتى في الشركة سألوني :هل ستسلمين قريباً؟ فأجبتهم: أنا اليوم بعمر الخامسة والثلاثين. لمّا يخونني جسدي اترككم ، واعود لرفع النفايات في مبادرة خاصة متى استطيع ذلك!
اثناء عملها، تستمع لييا الى الموسيقى . فنسألها عن نوعها وتجيب :
- استمع الى الموسيقى التي اؤلّفها. فأنا بعد العمل والغذاء ادخل الى الاستوديو. أعدّ معزوفات معيّنة، أسجّلها وأعيد الاستماع اليها في اليوم التالي بهدف تحسينها وتطوير نفسي فيها. وفي الصباح الباكر، وبما انني أبدأ عملي عند السادسة صباحاً فإنني اول ما استمع الى معزوفات الفنان "غابور زابو" عازف القيثارة، والملحن، وعازف الجاز وهو مجري، ولد في بودابست، والى موسيقى جريئة تعطيني الطاقة، وكثيراً ما استمع الى "بهرنجي" يعزف موسيقى حلوة فيها ذبذبات شرقية.
وتشير لييا انها غالباً ما تفش خلقها على طريقة الـ"بلاي باك" او بالموسيقى الالكترونية التي تستمتع بالعمل عليها مع زوجها. لا اصدار خاص بها حتى الآن، وإن كانت تنوي ذلك مستقبلاً. فـلييا كانت تغني و تعزف الموسيقى في بعض الاماكن التي طالها الوضع الاقتصادي من قبل "كوفيد 19" حتى اصحابي يحبون موسيقانا ونقوم بقعدات صغيرة هادئة، فنقصد مكاناً جميلاً "بين الشجر" ونعزف ونغني.
وعن ردة فعل زوجها على عملها أجابت ضاحكة:
- كان يساعدني في رفع النفايات من قبل ان أعمل في الشركة ولنا معدّاتنا في أسفل البناية التي نقطن فيها . لما دخلت عليه بالـ"يونيفورم" ضحك طويلاً ، شجعني مجنّداً نفسه لدعمي. لقد "علِق" لخمسة اشهر في قبرص، التي كنا سنسافر اليها للعمل فيها، وكان يبحث عن ارض فيها، لاننا نحب الارض، وقد حظينا بفرصة عمل الا ان "كورونا" اغلق كل شيء للاسف. اما الانجاب، فهو مشروع مؤجل لدى لييا التي وإن فكرت به، سيكون اولادها على طريق التبني، وهي أصلاً لعبت الدور الراعي مع اخوتها بعد وفاة والديها، وكان اخوتها على عاتقها. "لا يمكن في هذه الظروف انجاب ولد، تقول لييا، لكن ان هي فكرت بالأمر بعدما تنفرج الأحوال، فسيكون ذلك عن طريق التبني، صبي او بنت "ما بتفرق" وربما اكثر من ولد واحد. فهي جاهزة لمدّهم بحبّ كبير...!