تفاصيل الخبر

 ”ليسيه عبد القادر“ على لائحة الجرد العام للأبنية التراثية فهــل تصمـد أمـام هـجـمـة الـدولار والـتـجـار؟!

17/01/2019
 ”ليسيه عبد القادر“ على لائحة الجرد العام للأبنية التراثية فهــل تصمـد أمـام هـجـمـة الـدولار والـتـجـار؟!

 ”ليسيه عبد القادر“ على لائحة الجرد العام للأبنية التراثية فهــل تصمـد أمـام هـجـمـة الـدولار والـتـجـار؟!

بقلم عبير انطون

أصدر وزير الثقافة في حكومة تصريف الاعمال غطاس الخوري في التاسع من الشهر الجاري 2019 يحمل قراراً يحمل <الرقم 1> قضى بإدخال البناء التراثي القائم في العقار <رقم 2111> من منطقة المصيطبة العقارية والمعروف بليسيه عبد القادر في محافظة مدينة بيروت ضمن لائحة الجرد العام للابنية التراثية، وتضمن القرار <عدم القيام بأي عمل من شأنه تغيير الوضع الحالي للبناء المذكور من دون موافقة المديرية العامة للآثار المسبقة على الاعمال المنوي اجراؤها والمواد المنوي استعمالها>.

فهل يعني ذلك ان خطر الهدم زال وان المدرسة العريقة ستبقى في قواعدها سالمة بعد موجات الاحتجاج على اقفالها ونقل تلامذتها لتحل مكانهم جدران مول تجاري ضخم؟

وزير الثقافة غطاس خوري أكد ان المبنى لن يهدم: <أكدنا على الموضوع من خلال وضع المبنى على لائحة الجرد العام للابنية التراثية الا ان ذلك لا يلغي حق ملكيته ولا يفرض طريقة استعماله، كالكثير من المباني التراثية التي تغيرت وجهة استعمالها وأصبحت في ما بعد مصارف او مطاعم او حتى مكتبات، بينها مثلا مبنى المكتبة الوطنية في الصنائع التي كانت مستشفى شيدها الاتراك لتتحول وجهته في ما بعد الى <مدرسة الصنائع> ومن ثم كلية الحقوق للجامعة اللبنانية، ولتكون اليوم مقر <المكتبة الوطنية>.

ويضيف خوري:

- لقد تمت المحافظة على المبنى التراثي الا ان وجهة استعماله يمكن ان تكون مختلفة. اما بالنسبة للمدرسة فهناك جهود تبذل من اوساط عدة بما فيها السفارة الفرنسية واهالي الطلاب والرئيس سعد الحريري لايجاد مبنى لهذه المدرسة بحيث يستطيع الطلاب اكمال دراستهم داخل بيروت ولا يتم اخراجهم من المحيط الطبيعي الموجودين فيه>.

 

مزايا عديدة...!

 

<المحيط الطبيعي> استبعد مع غيره من المعوقات والحملات ما كان يحكى به قبلا عن نقل الطلاب الى مدرسة الآباء الانطونيين في بعبدا، خاصة وان الاحتجاجات بلغت اوجها على مدى أشهر من قبل الطلاب واهاليهم وقدامى المدرسة، بينهم النائب السابق وليد جنبلاط الذي اعتبر <ليسيه عبد القادر> تراثا يجب المحافظة عليه وكتب على <تويتر>: <أوقفوا المشروع الإجرامي التجاري لهدم ليسيه عبد القادر وتحويله إلى مول شبيه بالمولات البشعة في فردان وغيره>، داعيًا إلى المحافظة على ما تبقى من تراث، ومعتبراً أن «من مهمة بلدية بيروت استملاك العقار وجعله متحفاً»...

 من جانبه كان نائب بيروت هاغوب ترزيان قد رفع كتاباً للمديرية العامة للآثار، طلب فيه إدراج المبنى القائم على العقار رقم 2109 و2111 من منطقة زقاق البلاط على لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية مشيرا الى أن عمر المبنى يزيد عن المئة عام، وهو يتمتع بكافة المزايا التاريخية والهندسية والتراثية لذلك يعتبر بمثابة الإرث الثقافي لمدينة بيروت، خاصة وان العديد من أبنية زقاق البلاط هي مصنفة وتندرج على لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية، وأكد على أهمية تلك الأبنية ومنها <ليسيه عبد القادر> كونها تشكل نسيجا تراثيا مهما ومتعدد الانماط...

بيان...!

قرار وزير الثقافة يحمي المبنى التراثي قانونا من الهدم اذاً، لكن لا يحميه من تغيير وجهته التي يتردّد انها ستتحول الى مبنى تجاري ضخم بعدما تمّ البيع منذ سنوات مع ذكر الأسماء والجهات. وكانت المعلومات التي تواترت حينها وأشعلت الاجواء والاستنكار جعلت مكتب المحامي منير فتح الله بوكالته عن مالكة العقار السيدة هند الحريري القاروط وشركة «راحة تو للاستثمار ش.م.ل>، يصدر بياناً أفاد فيه بأن الموكلة بصفتها المالكة الوحيدة للعقارات رقم 1934 و2109 و2111 و2112 و5279 منطقة المصيطبة العقارية التي تشغلها حاليا مدرسة «ليسيه عبد القادر»، يهمها أن توضح للرأي العام أن كل ما يُشاع عن بيعها لهذه العقارات، بما فيها العقار رقم 2109 المصيطبة القائم عليه المبنى القديم والذي لا تتعدى مساحته نسبة 7 في المئة من إجمالي المساحة الكاملة لهذه العقارات لإقامة برج أو مول عليه، إنما هو خبر غير صحيح على الإطلاق، ولا يمت للحقيقة بأية صلة. وتؤكد الموكلة حرصها على إبقاء هذا المبنى، وبأن الشركة الموكلة ضنينة بإظهار الحقيقة للرأي العام حتى لا ينقاد إلى مثل تلك الإشاعات المغرضة>.

 فهل كان هذا البيان كافيا لتهدئة القلوب، وما هي اهمية ليسيه عبد القادر تراثيا ولبنانيا؟

تراثيا، يعود المبنى الى ايام الحقبة العثمانية، في حي <زقاق البلاط> في أعرق مناطق بيروت  التي امتازت حينذاك بطابعها الأرستقراطي، وقد بنيت فيها القصور ذات السقوف القرميدية وحُددت أيام الإنتداب الفرنسي، بقصر <حنيني> إلى الشمال، وقصر الدكتور <دي بران> على تلة جنوب غربه، وقصر <آل الخوري> إلى غربه، وقصر <حسن القاضي> إلى شرقه. وقد شكلت هذه المنطقة مكانا نموذجيا جاذبا، وبدأت النخب التجارية والعلمية والمدارس والبعثات الأجنبية والقناصل تفد تباعا الواحدة تلو الأخرى، حتى أصبح <الزقاق> حي الطبقة الراقية، الذي شكّل وجه بيروت الحضاري، وكان استقبل المدرسة الاولى للبنات في المشرق العربي كله من قبل المرسلين الاميركيين.

ففي العام 1843 أسست الإرسالية الأميركية مدرستها ومطبعتها في تلك المنطقة في ما كان يعرف بـ<مدرسة الأميركان>، وتم بناء <الكنيسة الإنجيلية> عام 1862 الشهيرة ببرج جرسها الذي حوى أول ساعة في بيروت وعرفت بـ<ساعة الأميركان>، ثم أسس المعلم بطرس البستاني مدرسة وطنية غير تابعة للبعثات التبشيرية الغربية، وعام 1860 تأسست <المدرسة السورية البريطانية> التي أصبحت في ما بعد <ثانوية الحريري الثانية>، ثم تأسست <المدرسة البطريركية> والتي تعرف بـ<البطركية> في أعلى التل المشرف على <زقاق البلاط>، وأسس عارف نكد <المدرسة المعنية> لتكون أول مدرسة تابعة للطائفة الدرزية في بيروت.

 أما قرار البعثة العلمانيّة الفرنسيّة باختراق المشهد الثقافي الموجود في <زقاق البلاط> فقد جاء في أواخر العشرينات (1928)، ما دشن استحضارا للغة الفرنسية والفكر الفرنكوفوني الى قلب بيروت مع قوس قزح ثقافي عثماني اميركي بريطاني فيها... وقد فُوض السيد <Pierre Deschamp> مؤسس <البعثة العلمانية الفرنسية في بيروت> بتأسيس مدرسة فرنسية وكان لبنان جزءا من الامبراطورية العثمانية حينذاك، فكانت <Le Collège Français de la MLF> عند بيت بطرس في منطقة <التباريس>، وقد فاق الاقبال عليها التوقع خاصة وانها علمت اللغتين الفرنسية والعربية، اذ كان مؤسسها السيد <دو شامب> يردد: < Nous serons une bonne école si nous savons être une bonne école arabe> اي <أننا سنكون مدرسة جيدة إذا عرفنا كيف نكون مدرسة عربية جيدة>، وبناء على سمعتها الطيبة طالب بعض من اهالي بيروت بتعليم بناتهن تربية عالية المستوى فلا تكون هذه حكرا على الاولاد الذكور فقط، فافتتحت البعثة الفرنسية مدرسة لتعليم البنات في العام 1929 واختيرت منطقة الظريف وتم تأسيس مدرسة البنات <Le lycee des Jeunes Filles> التي ستتخذ اسم <ليسيه عبد القادر> لاحقا منذ عام 1974نسبة الى اسم القائد عبد القادر الجزائري، وهو اسم الشارع المتربّع في طلعة المنطقة. وكانت البعثة الفرنسية قد اشترت من استاذ الطب في <جامعة القديس يوسف> الدكتور <هيبوليت دو برون> المبنى الانيق ذا الحديقة الضخمة الذي سكنه منذ ثمانينات القرن التاسع عشر عند جنوب زقاق البلاط وحوله مستشفى ميدانيا في الحرب العالمية الأولى. المبنى الفاخر شيد في العام 1914 وكان ملكا للشقيقتين <بوين> بهندسة مميزة جدا من حيث البناء المميز بقناطره وقرميده ومسلاته.

 كان التهافت كبيرا لتسجيل التلميذات في المدرسة. وفي ما يطلق عليه بـ<القصر> <لو شاتو> كانت صفوف الحضانة والمدرسة الداخلية للبنات، فيما استقبل المبنى الثاني الصفوف من الابتدائي الأول حتى البكالوريا بقسمها الاول فيما الثاني كان يفترض اتمامه في <الليسيه الكبير>، وقد امتدت مباني مدرسة <الليسيه الحديثة> بين طلعة عبد القادر من الشرق، وشارع الشوف من الغرب، وكركول الدروز من الجنوب، وشارع رشيد نخلة ومباني قسم المكفوفين في المدرسة الإنجيليّة من الشمال، لتستقبل منذ العام 1974 الطلاب من الجنسين في مبانيها السبعة. وتجدر الاشارة الى ان <مبنى العميان> الذي اصبح اليوم مبنى صفوف الابتدائي، كان منزلاً للشاعر رشيد نخلة، وابن ابنه كان يدرس في <الليسيه>.

كيف اشتراه الرئيس الحريري؟

 في ندوة نظمتها صحيفة اللواء في الرابع من كانون الاول/ ديسمبر 2018 روى الدكتور فوزي زيدان رئيس <اتحاد جمعيات العائلات البيروتية> سابقاً كيف انتقلت ملكية <ليسيه عبد القادر> الى الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

فمع انتفاضة 6 شباط عام 1984، اشتعلت خطوط التماس بين شقَّي العاصمة الشرقي والغربي، وعاد القنص إليها، وأغلقت المدارس والجامعات أبوابها، ولما استقرّت الأوضاع نسبياً فتحت المدارس أبوابها، بينما بقيت المدارس المنتشرة في مناطق التماس مقفلة نتيجة القنص، ومنها مدرسة «الليسيه الفرنسية الكبرى>، حيث كان 175 تلميذا مسجلين فيها يُقيمون في المنطقة الغربية من بيروت وقد بقوا في بيوتهم، نتيجة رفض إدارتي «الليسيه عبد القادر» و«الليسيه فردان> استقبالهم بذريعة عدم وجود أماكن شاغرة لهم.

وبعد وضع الملف من قِبل الأهالي بعهدة زيدان، لجأ إلى الرئيس سليم الحص الذي كان يتولّى وزارة التربية، وبعد عرض المشكلة عليه أجرى اتصالاً بالسفير الفرنسي وطالبه بتأمين أماكن للتلامذة في المدارس الفرنسية الموجودة في المنطقة الغربية من بيروت، أسوة بما فعله مع تلامذة المنطقة الشرقية.

ولما لم يتجاوب السفير الفرنسي، قصد زيدان مفتي الجمهورية اللبنانية آنذاك الشيخ حسن خالد وعرض الأمر عليه، فبادر إلى الاتصال بالسفير الفرنسي معترضاً على مواقف فرنسا المنحازة وطالبه بتأمين أماكن لتلامذة المنطقة الغربية في المدارس الفرنسية، وكلّف زيدان بمتابعة هذا الملف مع السفارة.

وبعد لقاءات عدّة مع الملحق الثقافي الفرنسي <كلافييه> قبلت السفارة الفرنسية تحمّل مسؤولياتها، ووافقت على قبول التلامذة في «الليسيه فردان> و«الليسيه عبد القادر» مقابل تأمين ثلاث قاعات جاهزة التصنيع قبل بداية العام الدراسي المقبل.

 وفي خضم العمل على تأمين أماكن للتلامذة، كان الفرنسيون قد باعوا «ليسيه عبد القادر» إلى أحد المتموّلين اللبنانيين من بلدة بيت الشعار المتنية، كي يُقيم مكانها مجمّعاً تجارياً ضخماً، وكان سيتسلّم العقار شاغراً في صيف العام 1985، عندها لجأ زيدان إلى الرئيس الحص للبحث في كيفية تأمين الصفوف الجاهزة، ومصير مئات التلامذة الذين سيجدون أنفسهم في الطريق بعد تسليم العقار إلى المالك الجديد.

في ذلك الوقت، اتصل الرئيس الحص بالرئيس الشهيد رفيق الحريري في باريس عارضاً عليه الوضع، عندها قرّر الحريري تأمين الصفوف الجاهزة وقام بإرسالها إلى «ليسيه عبد القادر»، وبذلك تمَّ تسجيل تلامذة <الليسيه الكبرى> في «ليسيه فردان> و«ليسيه عبد القادر»، فيما أبلغ الحريري الحص بعد أيام بأنّه استرد العقار من المتموّل اللبناني، واتفق مع الفرنسيين على إبقاء المدرسة بإشرافهم وإدارتهم، في مسعى منه لعدم السماح بإقفال أيّ مدرسة في المنطقة الغربية، كما وعمد بعد أشهر قليلة إلى شراء مدرسة «كرمل السان جوزف» في فردان من الدولة الفرنسية، وأبقاها سنوات عدّة بإدارة الراهبات قبل انتقالها إلى مقرها الجديد في المشرف.

جزء من الوجدان...!

تشكل <ليسيه عبد القادر> أكثر من مدرسة. هي مكان في الوجدان، وهي في ذاكرة بيروت ارث ثقافي وانما رؤية مستقبلية أيضا في ما تشكله من فضاء علماني حضاري يجمع الاوساط والطبقات والفئات والطوائف على اختلافها. تغيير وجهتها يخشى منه، وهناك تخوف فعلي من تأثير يشبه لعبة الـ<دومينو> بحيث تنهار الحجارة الواحدة تلو الاخرى، خاصة مع الأزمة الاقتصادية الخانقة للاهل والمدارس، وكنا في فترات سابقة شهدنا طفرة اقفال دور للثقافة والمسارح والسينما لتحل مطاعم <الفاست فود> والمقاهي العالمية مكانها وذلك في اكثر شوارعنا عراقة واكثرها شهرة.

صمدت <ليسيه عبد القادر> في عز الحرب، وخرّجت قادة وروادا وأسماء لامعة في الثقافة والادب والسياسة رجالا ونساء بينهم مي ونظيرة ارسلان، قيصر روسيا، تقي الدين الصلح، بنات رياض الصلح، أول ملكة جمال جميلة حداد، ناديا تويني، وغيرهم الكثيرون وهي لا تزال مستمرة في رسالتها... لكن هل ما صرخ به اهالي الطلاب لناحية ضرورة بقاء المدرسة في مكانها كأولوية لما يشكله الموقع من قيمة مضافة على الاصعدة كافة سيؤخذ بالاعتبار؟

.