المقصودة بالعنوان هي الشحرورة، هي صباح النجمة اللامعة، والمطربة الرائعة التي رفعت اسم لبنان عالياً، وأحبته إلى حدّ العشق، وأنشدت له عشرات الأغاني الوطنية، وغنت لجيشه الوطني أناشيد خالدة،عزفت بعضها موسيقى الجيش، يسير على وقعها الجنود في العرض العسكري. صباح التي لم تُعطَ الحد الأدنى من حقها مادياً ولا معنوياً، وهي اليوم في خريف العمر منسية، إلاّ من بعض المخلصين الذين يتذكرونها بين الفينة والفينة بزيارة سريعة أو مقابلة تلفزيونية أو تكريم خجول.
وقد لفتني وأنا من ممارسي رياضة المشي على شاطئ البحر الباكر واضعاً سماعة الراديو في أذني، وخلال أكثر من ساعة من الزمن أن صوت صباح غائب عن معظم الإذاعات اللبنانية إذا لم أقل عن جميعها، وكأن هناك حظراً مقصوداً على أغانيها.
تعود معرفتي الشخصية بالسيدة صباح إلى مطلع السبعينات من القرن الماضي ومعرفتي الفنية والموسيقية بأغانيها الرائعة إلى أيام يفوعتي وفتوّتي.
تعرفت الى شحرورة الوادي عن كثب عام 1974 عندما تسلمت مسؤولية قسم التخطيط والعمل النفساني في قيادة الجيش، شعبة الإعلام وكانت تسمى الشعبة الخامسة. وكنا في صدد تحضير أناشيد وأغانٍ وطنية شارك فيها العديد من الفنانين اللبنانين منهم على سبيل المثال لا الحصر المغفور لهم وديع الصافي، ونصري شمس الدين، وفليمون وهبي، وآخرون.
وتكرر ذلك عام 1977 عندما عملنا على إعادة توحيد الجيش، وكانت صباح السباقة وبحماس وبدون أجر إلى تقديم امكاناتها الفنية وحضورها المميز إلى جانب من ذكرت، وإلى جانب الفنانين النجوم إحسان صادق، وجوزف عازار، وايلي شويري، وفدوى عبيد، وآخرين. وعندما غنى جوزف عازار رائعته <بكتب اسمك يا بلادي...>، من ألحان الموسيقار العبقري إيلي شويري، وأنشد هذا الأخير <صف العسكر... طالع يسهر مع العسكر فوق جبال>، تبرعت السيدة صباح بكامل أجرها لإنتاج هاتين الأغنيتين. وكم شعرت بالفخر عام 1990، يوم حضرت عرضاً عسكرياً في مدينة العين ثاني مدن إمارة أبو ظبي وبحضور الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان يوم رأيت ضباط الكلية الحربية يسيرون على نغم <بكتب اسمك يا بلادي> وبعدها على إيقاع <صف العسكر...>. وأخبرت الشيخ زايد رحمه الله أن هذه الموسيقى هي من تلحين موسيقار لبناني اسمه ايلي شويري.
كانت تربطني في تلك الأيام بالفنانة الكبيرة وزوجها الراحل وسيم طبارة صداقة متينة، ومودة صافية، وقد أقسمت مرة أنها لن تقبل أي قرش من قيادة الجيش وعندما أخبرتها أن هذا حقها، ولدينا ميزانية، طلبت أن توزع على زملائها الفنانين. وبالمقابل، والتاريخ والحق يقال إن فنانة كبيرة طلبت مبلغ 50 ألف ليرة لقاء أغنية للجيش وكانت قيمتها الشرائية تفوق الـ50 ألف دولار حسب أسعار اليوم.
والآن ما هي حكاية ليلة القبض على صباح؟
قبل إختيار هذا العنوان، تذكرت الفيلم الرائع لفاتن حمامة وصلاح قابيل <ليلة القبض على فاطمة>.
في عشاء جمعني وأصدقاء داخل منزل السيدة صباح في الحازمية في بداية صيف 1980، أخبرتني أنها ستسافر الى القاهرة ظهر اليوم التالي فتمنيت لها سفراً سعيداً. في صباح اليوم التالي، تلقيت اتصالاً من الصديق الرائد عدنان شعبان وكان مسؤول الأمن القومي في قيادة الجيش يخبرني أن كميناً ينتظر السيدة صباح على طريق المطار من قِبل إحدى المنظمات الفلسطينية الراديكالية لاختطافها وربما لاغتيالها، ويجب عليها إما العودة من السفر، أو تجنب سلوك تلك الطريق. فكان أن تصرفنا بسرعة دون ترهيبها أو إرعابها، أبلغتها أنني سأرسل سيارة عسكرية، و<جيب> مرافقة، لنقلها إلى المطار نظراً للأوضاع الأمنية. وهذا ما حصل وانتقل الموكب المُرسَل من الحازمية إلى صحراء الشويفات إلى مدرج المطار، فالطائرة، وغادرت الشحرورة بأمان. ولم نكتفِ بهذا الحدّ. والسؤال: ما هو السبب؟ حيث تبين أن السيدة صباح التي اشتركت قبلها بأشهر ببرنامج كبير للتلفزيون الفرنسي اسمه <L’echiquier>، غنّى بعدها المطرب الفرنسي <انريكو ماسياس> أغنية لإسرائيل واتهمت شحرورة الوادي بالعمالة، والتواطؤ مع أنها غادرت بهدوء مستنكرة ولم تصفق. وهذا ما أثبته الشريط الذي طلبناه من فرنسا وشاهدته مع الصديق المخرج ألبير كيلو في تلفزيون لبنان. سلمت نسخة من الشريط للصديق رئيس الشعبة الخامسة المقدم (في حينه) محمود مطر الذي تفضل مشكوراً بتسليمه للعقيد محمد غانم رئيس المخابرات السورية في لبنان حيث أفهم المعنيين بسوء ظنهم، وخطورة إجرائهم المتسرع وحماقة قرارهم.
صباح التي علمت بالأمر وهي في القاهرة لم تعد إلى لبنان إلا بعد ثلاث سنوات أو أكثر بعد انتفاء السبب وزوال الخطر ورحيل المنظمة الراديكالية.
وأخيراً وليس آخراً، أتمنى كما الكثيرون أن يعطي لبنان الرسمي ولبنان الشعبي صباح جزءاً من حقها بالتكريم وهي كثيراً ما رددت <يا لبنان دخل ترابك>... قبل أن يحتضنها تراب لبنان بعد عمر طويل.