بقلم صبحي منذر ياغي
لقد شهد الوطن العربي في تاريخه سلسلة من الثورات الشعبية والانقلابات، نتيجة عوامل عدة أبرزها نكبة فلسطين عام 1948 وتحميل الأنظمة العربية القائمة حينذاك مسؤولية هذه الهزيمة، فضلاً عن التدخلات الخارجية والصراعات الدولية على منطقة الشرق الأوسط، وكانت الانقلابات مغلفة دوماً بشعارات الإصلاح والتغيير والقضاء على الفساد، إلا أنها كانت في خلفيتها نتيجة حتمية للواقع الإقليمي والدولي الذي يتغير باستمرار وتنعكس تردداته على الوطن العربي بأسره.
وربما كان لبنان الدولة الوحيدة من بين الدول العربية الذي لم يعرف في تاريخه السياسي انقلابات تُذكر، وقد يعود ذلك الى طبيعة نظامه القائم على التوافق والتجانس بين الطوائف وبالتالي لتشابك مجتمعه وتنوعه، إلا أن الوقائع تذكر حالات جرت فيها محاولات لتغيير النظام او السلطة حين حاول رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي انطون سعادة القيام بعصيان مسلح انتهى به الى محاكمة صورية وإعدامه بطريقة أثارت حفيظة الرأي العام المحلي والدولي في 8 تموز (يوليو) عام 1949، ومن بعدها قام الحزب القومي في الستينات بمحاولة انقلابية فاشلة للإطاحة بالرئيس فؤاد شهاب وزج عدد كبير من مسؤولي الحزب وقادته في السجون لسنوات طويلة.
الحزب القومي: انقلاب
انتهت احداث 1958 التي نشبت بوجه الرئيس كميل شمعون لانضمامه الى حلف بغداد الذي قام لمواجهة المد الناصري بصيغة لا غالب ولا مغلوب، وتسلم اللواء الرئيس فؤاد شهاب مقاليد الحكم، ووقف القوميون السوريون الى جانب الرئيس شمعون خلال مواجهته الاحداث التي عصفت بلبنان، وشعر القوميون بعد انتخاب اللواء شهاب انهم اصبحوا في <عين العاصفة> وسيدفعون ثمن ولائهم السابق للرئيس شمعون، ويقول رئيس الحزب السابق الراحل عبد الله سعادة في كتابه <أوراق قومية> عن هذه الحقبة ما يأتي: <... كان حزبنا يعاني اكثر من سواه من اضطهاد السلطة وقمعها على كل صعيد حتى اني اضطررت كرئيس للحزب ان اراجع رئيس الجمهورية شاكياً اليه هذا الاضطهاد المتنوع الاشكال، من جملته اضطهاد المدرسين القوميين الاجتماعيين، ونفيهم دون حق الى المدارس النائية علاوة على باقي الموظفين في القطاعين العام والخاص... واذكر انني قلت له :ان هناك ضجة كبرى تتزايد في أوساط الشعب ضد سياسة العهد وان سلفيه بشارة الخوري وكميل شمعون قد أُعفيا من مركز الرئاسة الاولى الاول بثورة بيضاء والثاني بثورة حمراء واخشى ان استمرت الحال على هذا المنوال ان نواجه مشاكل في العهد الثالث... وفي 15 ايلول (سبتمبر) 1961 ارسلت اليه كتاباً مفتوحاً عبر الصحافة انقل اليه فيه شكوى الشعب من الحكم وكان لموقف رئيس الجمهورية اثر كبير في قرارنا توسل السياسة الانقلابية لانقاذ الحزب ولبنان مما كان يُعد لهما>...
وفي السياق نفسه، ورد في قرار المجلس الأعلى في الحزب القومي في 8/7/1972 وفي معرض تقييمه اسباب المحاولة الانقلابية في لبنان سنة 1961 انه <إثر الأحداث التي تعرض لها الكيان اللبناني عام 1958 وتدخل الحزب فيها بالقوة المسلحة، وهي أحداث خاض القوميون الإجتماعيون معاركها بقوة وبسالة واستشهد فيها عدد كبير من الرفقاء ثم انتهت الى تسوية سياسية على حساب الحزب بأن أقصته عن المشاركة في الحل وبأن جاءت بحكم أخذ يعمل، بمختلف الوسائل، على خلق العراقيل واصطناع المضايقات وممارسة الضغوط في وجه العمل الحزبي، وصلت الى حد محاولة اغتيال رئيس الحزب عام 1960، ومنع الاحتفالات الحزبية واعتقال بعض المسؤولين والرفقاء بتهم شتى وبدون تهم أحيانا، وإخراج العديد من الرفقاء غير اللبنانيين خارج الحدود اللبنانية، ثم ممارسة ضغوط التزوير والإرهاب وغيرهما في الإنتخابات النيابية ضد مرشحي الحزب أدت الى إسقاطهم، إثر هذا كله، أخذ أكثر من رفيق مسؤول بل وأخذ الكثير الكثير من الرفقاء القوميين الإجتماعيين يفكرون ويطالبون بعمل جدي حاسم لوضع حد لهذا التنكيل وفك الطوق الذي أخذ يشتد على الحزب، وللدفع بالحزب الى الفعل في سياسة البلد وقيادته بما يتناسب مع قوته ونضاله ومساهمته الأساسية في أحداث عام 1958. ونشأ في القيادات العليا إتجاه نحو الإقدام على خطوة حاسمة ترفع المعنويات في الداخل وترد للحزب إعتباره في الخارج وتدفع به الى أن يغدو قوة مؤثرة في سير الأحداث وفاعلة في سياسة البلد..>.
<الحسكة العملاقة>
كان أسد الاشقر أول من طرح فكرة الانقلاب على رئيس الحزب عبد الله سعادة وذلك في أوائل عام 1961، وكان دافعه الى ذلك حسب ما قاله <إن الحزب هو <الحسكة العملاقة> الباقية في حلق فؤاد شهاب الذي يتحين الفرصة حتى يضرب الحزب ولذلك يجب أن نسبقه>.
وما أن وقع الانفصال في سوريا مع مصر حتى استقر عزم رئيس الحزب عبد الله سعادة <فبادر فوراً، وبعد أربعة أيام فقط من وقوع الانفصال، الى تطيير البرقيات لبعض الرفقاء، وبدأت قيادة الحزب القومي بوضع الخطة النهائية لتنفيذ الانقلاب، وجرى وضع الخطوط العامة للخطة الانقلابية.
المكتب الثاني بالمرصاد
أجواء المباحثات القومية حول الخطة الانقلابية وصلت الى المكتب الثاني من خلال الضابط سامي الخطيب (الذي اصبح في ما بعد نائباً في البرلمان) الذي تلقى معلومات مفصلة في هذا المجال من صديق له لجأ الى لبنان، وهو ضابط سوري سابق يُدعى فضل الله ابو منصور، وهو ضابط سوري مسرح من الجيش وقد هرب من الملاحقات التي كان ينفذها النظام السوري بحق القوميين بسبب اغتيال العقيد البعثي عدنان المالكي في دمشق. وكان الخطيب قد عمل على تسوية اقامته في لبنان ورتب له مساعدة مالية شهرية وصار بمنزلة متعاون فاعل مع الشعبة الثانية. وتولى سامي الخطيب رفع تقرير حول هذه المعلومات الى رئيس الشعبة الثانية العقيد انطوان سعد في 16/10/1961.
ويقول النائب السابق سامي الخطيب في هذا المجال: <انه منذ ذلك التاريخ انطلقت عجلة الشعبة الثانية لرصد تحركات القوميين السوريين على الصعد كافة وفي كل المناطق، واعتُبر نشاط الحزب القومي اولوية في عمل الشعبة الثانية وبدأت ترد الى رئاسة الشعبة التقارير اليومية عن تحركات القوميين السوريين في المناطق، وكانت اهمها منطقة الشمال حيث تمكن الملازم اول فؤاد شيخة من تجنيد سائق الدكتور عبد الله سعادة المدعو رياض درويش، وتمكن النقيب اميل كلاس في ابلح من تجنيد احد مسؤولي الحزب في شتورا، ومثلهما النقيب كمال عبد الملك في الجنوب، والرائد انيس ابو ذكي في جبل لبنان، وطبعا انا في بيروت..>.
ساعة الصفر
تقررت ساعة الانقلاب الساعة الثالثة من صباح 31/12/1961، وكانت خطة التنفيذ وفق ما ذكرها رئيس الحزب عبد الله سعادة تقضي باعتقال رئيس الجمهورية في بيته في صربا واعتقال قائد الجيش وكبار ضباط الاركان واحتلال وزارة الدفاع من قبل كتيبة النقيب فؤاد عوض المصفحة واحتلال الاذاعة اللبنانية وقطع الاتصالات الهاتفية في كل لبنان والافراج عن النقيب شوقي خير الله من سجنه في الفياضية ليكون الى جانب النقيب فؤاد عوض ساعة التنفيذ واستنفار قوميي الشمال في طرابلس لمواجهة اي خلل او اضطراب.
وكان النقيب سامي الخطيب قد تبلغ من صديقه ابو منصور معلومات عن امكانية حصول الانقلاب عند الساعة الثانية والنصف صباحاً، فسارع الى مقر قيادة الجيش التي كانت في منطقة المتحف، ويذكر الخطيب انه باشر مع رئيس الشعبة الثانية العقيد انطوان سعد اتخاذ التدابير الاحترازية حيث عمد العقيد سعد الى الاتصال بالقصر الجمهوري في صربا واستنفر الحرس بالكامل وكان رئيسه آنذاك الملازم اول صادق رعد، وكان رعد ضابطاً نشيطاً محباً للرئيس فؤاد شهاب، وطلب سعد من المقدم جان نخول الذهاب فوراً الى المحكمة العسكرية لاستنفار قيادة الشرطة العسكرية واستقدام مصفحاتها لحماية وزارة الدفاع.
تحرير خير الله واعتقال ضباط
تمكن القوميون من تحرير رفيقهم الضابط المعتقل شوقي خير الله وبدأ تنفيذ العمليات كما هو مقرر، واعتقل الانقلابيون رئيس الأركان يوسف شميط، وقائد موقع بيروت عبد القادر شهاب، والمقدم توفيق جلبوط مدير الامن العام، والمقدم فرانسوا الراسي والمقدم جنادري، والزعيم ميشال نوفل قائد قوى الامن الداخلي، اما قائد الجيش عادل شهاب فكان غائبا عن بيروت..
ووصلت المصفحات والشاحنات العسكرية برئاسة الضابط الانقلابي فؤاد عوض الى امام مقر وزارة الدفاع، وجرى تبادل اطلاق النار بين المهاجمين والمدافعين عن الوزارة والذين كان في عدادهم العقيد سعد، والعقيد اسكندر غانم، والنقيب سامي الخطيب، والنقيب احمد الحاج الذي تمكن من الافلات من معتقليه.
كيف فشل الانقلاب؟
يقول اللواء سامي الخطيب في هذا الصدد انه < حوالى الساعة الرابعة صباحاً حصل اول تطور ايجابي لصالحنا، اذ وصل صبحي ابو عبيد (وهو عميد في الحزب القومي)، الى ساحة المتحف وكان متوتراً جداً، وأعلم فؤاد عوض بفشل الحملة على منزل فؤاد شهاب، وشرح له كيف فوجئوا بالحرس الجمهوري ومصفحاته التي استُقدمت من صربا بحالة استنفار قصوى، وما ان اطل الرتل الانقلابي بقيادة صبحي ابو عبيد والملازم علي الحاج حسن المكلف باعتقال فؤاد شهاب او قتله عند الضرورة حتى فتح الحرس الجمهوري النار على الرتل مما اجبرهم على ترك السيارات والتفرق في كل الاتجاهات، وتمكن الحرس الجمهوري من توقيف البعض ايضاً..>.
دبابات <M48> تفشل الانقلاب
ويتابع الخطيب في مكان آخر: <حوالى الساعة الخامسة صباحاً شُق صمت الليل الطويل.. فإذا بأصوات جنازير دبابات <M48> الكبيرة آتية من جهة مستشفى البربير.. ولما سمع النقيب عوض صوت الـ<M48> بدأ يقترب وأصبحت طلائعها على موازاة بوابة قصر الصنوبر طلب من آمر المصفحة بقصف الدبابات الآتية من جهة البربير بالقنابل الخارقة، لكن الرقيب الأول آمر المصفحة سأل النقيب عوض: <لماذا نقصفهم وهم من جيشنا ونحن هنا لنحرّر القيادة من جماعة جنبلاط الذين احتلوها ليلاً.. هكذا قلت لنا..>.
واضاف الخطيب: <في هذه الاثناء فتحت دبابات <M48> نار رشاشاتها عيار 12,7 ملم فأصابت بضعة جنود من كتيبة عوض، كما سُمعت مصفحات قوى الامن الداخلي بقيادة العميد سعيد الحسن قائد شرطة بيروت آتية من جهة المديرية العامة لقوى الامن الداخلي من جهة شارع الطبية على طريق الشام، وكذلك كانت قد وصلت قبل ذلك سرايا من الفوج الرابع وتمركزت قرب قصر العدل، وعلى مداخل شارع بدارو... وهكذا تمّ الاطباق على كتيبة المصفحات المستقلة الثانية التي كانت تطوق وزارة الدفاع لتحقيق عملية انقلابية، بالاشتراك مع الحزب القومي، لكن النقيبين فؤاد عوض وشوقي خير الله تمكنا من الفرار في سيارة جيب <لاند روفر> واتجها نحو الاشرفية..>.
يعيش فؤاد شهاب يعيش لبنان
وفي تمام الساعة السادسة والربع من صباح الاحد 31/12/1961 دخل الملازمان الأولان جوزف روكز وانطوان بركات والمرافقون الى وزارة الدفاع وهم يرفعون رشاشاتهم ويصرخون باعلى اصواتهم <يعيش فؤاد شهاب يعيش لبنان..>.
وهكذا فشلت عملية الانقلاب وجرى تحرير الضباط المعتقلين لدى القوميين الذين جرت مطاردة فلولهم في منطقة المتن، ليتم القاء القبض على سعادة وكافة الانقلابيين والعشرات من القوميين وحظر الحزب ومنعه من العمل، ولتبدأ سلسلة محاكماتهم في ثكنة الامير بشير في بيروت، وكان على رأس المحكمة اللواء جميل الحسامي.
لذا فإن تاريخ لبنان الحديث لا يحمل بين صفحاته واقعة انقلابية سوى تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة للقوميين الذين هم في الاساس لا يؤمنون وفق ادبياتهم وعقيدتهم بنهائية الكيان اللبناني.