بقلم المهندس خالد عوض
الغريب في موضوع أصبح يسمى <فضائح الغذاء> في لبنان أن معظم الناس يرون ما قام به الوزير أبو فاعور عملاً بطولياً. والغريب أيضاً أن الإخراج الإعلامي لعمل وزارة الصحة بدا وكأنه ضربة موجعة لمافيات الفساد في لبنان، على أنواعها. الأقل غرابة في كل هذا الأمر هو عطش اللبنانيين إلى أدنى حقوقهم وإلى أبسط واجبات الدولة. الوزير قام بأقل ما يجب على أي مسؤول في الدولة أن يقوم به وهو نفسه يقر بذلك. لا بل أن رئيس دائرة الغذاء في وزارة الصحة كان هو من يجب أن يتصدر الحملة وليس الوزير، هذا في حالة بلد لا تتحكم فيه الطوائف في السياسة والسياسة في الإدارة. أما الإخراج الإعلامي فهذه قضية أخرى تتشابك فيها السياسة مع العطش الإعلامي العام والمفهوم للأخبار الفضائحية خاصة عندما تذكر المؤسسات والمطاعم التي تقدم طعاماً فاسداً بالاسم.
لكن أن يعتبر الإعلام ما قام به وزير الصحة صدمة أو فضيحة أو ضربة للفساد فهذا مضحك. ماذا كان يتوقع الناس في لبنان؟ أن تكون مطاعمهم تتبع أرقى مواصفات سلامة الغذاء في العالم؟ أو أن تكون المتاجر ومحلات <السوبرماركت> تطبق أدق معايير الرقابة على جودة الغذاء؟ لماذا يستغربون وهم سمعوا ما سمعوا منذ مدة ليست بعيدة عن اللحوم الفاسدة أو اللبنة الممزوجة بمواد حافظة يمكن أن تضر بصحتهم أو عن المنتجات الغذائية التي يحصل تلاعب في تواريخ انتهاء صلاحيتها؟
وأين تأثر الفساد ومافياته في كل ما انكشف؟ ما تبين من خلال حملات مراقبي وزارة الصحة والاختبارات التي كشفت التلوث الغذائي وسوء الرقابة وصولاً الى مسلخ بيروت هو سلسلة مخالفات منتشرة على كامل أراضي لبنان. لا أكثر ولا أقل. منها مخالفات بسيطة وأخرى خطيرة رغم أنها كلها تعكس الضرر الذي يلحق بصحة أي شخص تناول طعاماً من هذه الأماكن. ولكن <ماكينة> الفساد لم تتأثر بكل ذلك. فسلسلة توريد الطعام ومكوناته غير معنية حتى الآن بكل ما يحصل بل ستجد فرصة لتحسين الأسعار عن طريق تسويق <النظافة الصحية> في ما تستورده أو توزعه وللهروب بالتالي من الضغط الذي يشكله انخفاض اليورو على الأسعار الحالية.
حتى تكتمل مبادرة الوزير الصحية لا بد من تنظيم قطاع الغذاء في لبنان عن طريق التطبيق الإلزامي لشروط سلامة الغذاء وإدارة الجودة الغذائية في المؤسسات المعنية وإخضاعها دورياً للكشف الرقابي ومنحها شهادات مصادقة لا فساد فيها. وكلفة تحقيق الجودة في الغذاء ليست عالية لأنها مرتبطة بنظافة الأشخاص الذين يحتكون بالغذاء وبنظافة المأكولات ومكوناتها والحفظ والتخزين السليم لها والتعقيم المستمر للأدوات والأواني التي تستخدم في تحضير وتقطيع وفرم الطعام والأسطح التي يحضر عليها. كل هذه أمور بسيطة محتاجة إلى جهد عادي وكلفة متواضعة. أما في موضوع الضرر الدعائي والسياحي فيبقى ما فعله وزير الصحة أهم خدمة للسياحة. فالبلد الذي يلاحق الإهمال ويسمي المخالفين وتكون وزارة الصحة فيه رقيبة حقيقية على الغذاء هو الذي يقصد وليس البلد الذي يتستر على المخالفين. الكلام عن ضرر سياحي هو تشويش سياسي لأن وزير الصحة عرى كثيرين بأسلوبه وتعامله الشفاف مع الاستهتار الغذائي.
ولكن لماذا أصبح وزير الصحة اليوم حديث البلد إذا كان فقط يقوم بعمله؟ هل لأن المسؤولين الآخرين مقصرون لدرجة أن يظهر وائل أبو فاعور بطلاً شعبياً؟ أم لأنه صادق في ما يقوله للناس في زمن أصبح الصدق وجهة نظر؟ أو لأن الناس معنيون مباشرة في موضوع صحتهم ويريدون أن يعاقبوا من يضر بها؟ الجواب هو كل ما سبق.
ولكن الأهم من كل ذلك أن الوزير أبو فاعور يمثل اليوم بصيص أمل. فمنذ أن جاء إلى وزارة الصحة وهو يلاحق المستشفيات والمستوصفات التي تخزن الأدوية الفاسدة والتي ترفض استقبال المرضى قبل الدفع والتي تتلاعب بالفواتير من دون تمييز سياسي أو طائفي. هذا اتجاه معاكس للمسار الانحداري العام للبلد ككل ومحاولة إصلاح فيها من النزاهة ما يفتقده كل لبناني اليوم مع مسؤوليه لا بل مع نظامه
بشكل عام. إنه شمعة مضيئة في سواد المستقبل الذي يتنافس الفساد و<داعش> على رسمه. لو عندنا ٢٤ وزيراً ووزيرة مثل وائل أبو فاعور، دروزاً كانوا كلهم أو من أي مذهب، سيكون لبنان في مكان آخر. المهم أن يكونوا من طائفة ما يمثله وزير الصحة اليوم قيمياً وليس سياسياً.
هناك خوف جدي على سلامة وزير الصحة، ليس لأنه لاحق مستشفى هنا أو مطعماً هناك، وليس لأنه يتعاطى بجدية وبرغماتية مع مسألة تحرير العسكريين المخطوفين، بل لأنه بدأ يشكل خطراً حقيقياً على منظومة الفساد في البلد. فهو يمكن أن يصبح نموذجاً سياسياً فائق الشعبية لا يمكن للفساد في لبنان أن يتعايش مع أمثاله.