في كل فترة تطالعنا وسائل الإعلام بخبر انتحار فنان أو مشهور كان يملأ الدنيا فإذا به يشغل الناس بعد موته. الجميع يتساءل عن الأسباب التي تحدو بمن عرف النجاح والشهرة والمال والمجد إلى أن ينهي حياته واضعاً حداً لمسيرة أفرح فيها الناس أو أضحكهم أو ساهم بطريقة أو بأخرى بتحسين جزء ولو يسير من حياتهم. فلماذا ينتحر الفنانون بشكل خاص؟ هل هم نسبياً أكثر عدداً من غيرهم في الإقدام على الانتحار أم أننا نهتم لأمرهم لكونهم مشهورين؟ هل في الانتحار ضعف أم قوة؟ وما قصة «الوحدة» التي يرددونها دوماً في الرسائل التي يتركونها فيما هم محاطون بملايين المعجبين؟
انتحار المشاهير موضوع طرحته «الأفكار» وحملت أسئلتها الى المحللة النفسية الدكتورة رندا شليطا لتقف على الأسباب العلمية..
و«ليامز» و«مونرو»..
في 12 آب/ أغسطس الحالي، استفاق العالم على خبر انتحار الممثل العالمي المشهور «روبن وليامز»، صانع الضحكة الذي سطر في تاريخ السينما الأميركية أفلاماً عديدة ستبقى محفورة في الأذهان. «روبن وليامز»، أحد أعلام الكوميديا العالمية، لم يستطع إسعاد نفسه. فقد أصيب بحالة اكتئاب حادة جعلته يشنق نفسه بحزام. ومنذ أسبوع تقريباً غرّد صديقه الممثل الأميركي «روب شنايدر» متكهناً بأن الأدوية المستخدمة في علاج مرض «الباركنسون» ربماً تكون وراء انتحار صديقه «روبن ويليامز» قائلاً: «بما أنه أصبح بالإمكان الآن كشف المستور فإن «روبن ويليامز» كان يعاني من مرض «باركنسون»، والجدير بالذكر أن الرغبة بالانتحار تعد أحد أبرز الأعراض الجانبية للأدوية المستخدمة في علاجه».
«روبن وليامز» (63سنة) أعاد الى الأذهان أسماء كثيرة أخرى أبرزها الممثلة «مارلين مونرو» التي يقال إنها انتحرت في الخامس من آب / أغسطس 1962 عن عمر 36 عاماً في جرعة مفرطة من الحبوب المنومة وإنها كانت مصابة بقلق حاد ونوع من الهستيريا، مع العلم بأن كثيرين لا يعترفون بهذه الرواية ويرجّحون رواية القتل. فالفنانة الشهيرة كانت دخلت البيت الأبيض لارتباطها بعلاقات مع الرئيس الأميركي «جون كيندي» ومع أخيه «روبرت»... وعند ذكر «مونرو» لا بد من الإشارة الى أغنية «عيد ميلاد سعيد سيدي الرئيس» التي غنتها «مارلين» في الاحتفال بعيد ميلاد الرئيس الأميركي «جون كينيدي» داخل حديقة «سنترال بارك» في نيويورك، يوم السبت 19 مايو 1962، أي عشرة أيام قبل يوم ميلاده الفعلي، وقد غنتها بطريقة مثيرة وبفستان دخل التاريخ وبيع بمبلغ 1.26 مليون دولار في العام 1999. وبعد أداء الأغنية، صعد الرئيس «كينيدي» إلى المسرح وألقى دعابات قائلاً: «بإمكاني الآن اعتزال السياسة بعدما غنيت لي «عيد ميلاد سعيد»، بهذا الأسلوب الحلو المفيد».
«مونتيز» و«داليدا»..
الى «مونرو»، الشقراء الأشهر، يقفز الى الأذهان اسم الفنانة العالمية «داليدا» المولودة في الإسكندرية واسمها الأصلي «يولاندا جيليوتي» التي انتحرت في الثاني من أيار 1987 عبر تناول جرعة زائدة من المخدرات عن عمر 54 عاماً تاركة رسالة كتبت فيها: «لم تعد الحياة محتملة بالنسبة لي.. سامحوني».
وإذا ما عدنا بالزمن فإن لائحة بأسماء مشاهير من مختلف المجالات تطول: الرسام الهولندي الشهير «فان غوغ» الذي قتل نفسه في أحد حقول القمح بعدما رسم لوحته الأشهر، وهو كان يقايض لوحاته أحياناً في المطاعم الصغيرة مقابل صحن من الطعام (بيعت مؤخراً لوحته «زهور عباد الشمس» بستين مليون دولار)، «هنيبعل» القائد القرطاجي، الممثلة «ماريا مونتيز» صاحبة أحد أشهر الأفلام «ارابيان نايت» التي وجدت غارقة في مغطس حمامها وهي ميتة، «أرنست هامنغواي» صاحب رواية «الشيخ والبحر» الذي انتحر ببندقية قديمة كان يملكها، هو الكاتب الأميركي الشهير والفائز بجائزة نوبل للآداب والذي كتب في رسالة انتحاره «الحياة أصبحت كئيبة»، الكاتبة «فرجينيا وولف» التي وضعت حجراً ثقيلا في ملابسها وألقت بنفسها في البحر تاركة كلمة كتبت فيها: «سأفعل ما أراه أفضل»، الدكتورة درية شفيق مؤسسة أول حزب نسائي في مصر وقائدة الثورات التي تطالب بتحرير المرأة.
الى هذه الأسماء يضاف الكثير بعد، نذكر منهم «إدوارد جون شميث» قبطان سفينة «تايتنيك» التي غرقت في المحيط عام 1912، «أدولف هتلر» بعد هزيمته في الحرب العالمية الثانية، «كريستينا أوناسيس» ابنة الملياردير اليوناني الكبير «اريستوت أوناسيس» بعدما ابتلعت عدداً كبيراً من الأقراص المنومة، أميمة عبد الوهاب إحدى أشد المعجبات بعبد الحليم حافظ التي ألقت بنفسها من شقته في الزمالك بعد سماعها خبر موته، الشاعر اللبناني خليل حاوي الذي أطلق الرصاص على نفسه فور سماعه وهو في منفاه في أستراليا بخبر اجتياح الجيش «الإسرائيلي» لجنوب لبنان وحصاره لبيروت عام 1982، الفنانة اللبنانية داني بسترس ابنة العائلة المعروفة، واللائحة تطول..
خوف..القمة !
مع المحللة النفسية والأستاذة الجامعية رندا شليطا التي تحمل دكتوراه في علم النفس العيادي (ودكتوراه في الادب الفرنسي) حاولت «الأفكار» شرح أسباب انتحار المشاهير من الناحية النفسية.
تقول شليطا:
- الفرد منا يتولى تكوين صورته عن نفسه في جزء كبير من خلال عيون الآخرين، فكيف بالحري اذا كان هذا الفرد محاطاً بملايين العيون المسلطة عليه؟ وهناك في علم النفس
ما نعرفه ويسمى بـ«الخوف من الوصول الى القمة» لأن المرء يجد نفسه حينها فوق الناس أجمعين فيقول: لا بد إنني سأقع لاحقاً. هذا الأمر عملت عليه منذ مدة وكان الموضوع «جبران في القمة» واستندت فيه الى أبحاث ومراجع عديدة كتبت حول جبران خليل جبران بينها كتاب يروي حادثة حصلت: في أحد الأيام كان جبران مع أصدقائه في معرض للرسم في نيويورك، وبينما الجميع يتجول في أرجاء المعرض إذا بجبران يدخل الى غرفة جانبية ويبكي بشدة. فتشوا عنه ولما سألوه عن السبب أجابهم : كتبت «النبي» وأشعر بأن ليس لدي ما أكتبه بعد، بمعنى أنه «نشف». ويقال إنه عقب ذلك قام الفيلسوف والأديب الكبير بزيارة الى سويسرا للقاء المحلل النفسي «كارل يونغ» وهو أحد المحللين النفسيين الذين عملوا مع «سيغمان فرويد» قبل أن ينشق عنه لاحقاً وكان يومذاك يبحث في نظرية «اللاوعي الجماعي». ولكن جبران لم يتمكن من مقابلته لأنه كان على سفر. قصده ليرتاح وليعرف أنه لم «ينشف» بعد.
وتضيف شليطا من مكتبتها الزاخرة بالمراجع المختلفة:
- أنا أعمل مع الكثير من المشاهير والذين هم تحت الأضواء على قصة الخوف من القمة هذه.
قتل الرغبة ..
وعن كلمة «الوحدة» التي تتردد في رسائل الانتحار التي يتركها المشاهير قالت:
- الوحدة هنا لا تعني أن تعيش وحيداً إذ يمكن للإنسان أن يكون وسط مظاهرة مليونية ويشعر أحياناً بالوحدة. نحن عند العرب ركبنا مفهوم العائلة وبأنها تحمي من الانتحار أو أقله الإحباط وهذا ليس صحيحاً. العائلة قد تكون عاملاً مهماً في التوازن النفسي إلا أنها ليست شرطاً ضرورياً وكافياً. كم من إمرأة مسنّة في حيّ سرسق في الأشرفية تعيش مع الخادمة وأولادها مسافرين وبعيدين عنها، هل يفكرن بالانتحار أو يشعرن بالإحباط؟ ليس بالضرورة.
وتشرح شليطا حالة «روبين وليامز» قائلة:
- كل أفلامه كانت تضج بالحياة وبحبها، إلا أنه في غرفة نومه كان حزيناً. يضحك الآخرين ويسبح في الكآبة. يعيش في هوليوود، وهو بين القصور والطائرات والحفلات ولا يشعر بالرضا. وهنا أيضاً أمر لا بد من الإشارة إليه، وهو فقدان اللذة أو الرغبة في المضي بالحياة لأنه يملك كل شيء وهذا أمر خطير. أدخل أحيانا الى غرف بعض الأطفال في لبنان وأقول في نفسي: حرام هذا الطفل لقد قتلوا الرغبة فيه. لاحظوا الأولاد، لما ينتظرون هدية ويتلقونها يكونون في قمة السعادة بينما لا يهتمون إذا ما وصلتهم عشرون هدية.. الرغبة في النضال والبقاء في الحياة لتحقيق الذات أمر أساسي. أنظروا الملياردير «بيل غيتس» صاحب شركة «مايكروسوفت» العالمية مثلاً. فهو يمنح ابنه مصروفاً قليلاً في حين أنه باستطاعته أن يؤمن له كل شيء لأنه وعى اللعبة وأراد أن يبقي حيّاً في ابنه حافز التقدم والنضال في الحياة وقد وهب أمواله للجمعيات الخيرية.
وعن غناء «داليدا» je veux mourir sur scene قالت شليطا إن «موليير» أيضاً مات وهو يمثل في المكان الذي أحبه. كم من مرة نسمع في حياتنا اليومية عبارة «بدي موت وأنا بعزي» فيتحول هذا نوعاً من «الفانتازم» المكون سابقاً لديهم. ويقول «فرويد» كما أن هنالك نزعة الحياة هناك أيضاً نزعة الموت.
وتضيف شليطا:
- يجب التفريق بين نوعين من الإحباط: أول ويكون أثر مشكلة أو حادثة تفوق قدرتنا على تحملها وهذه يمكن معالجتها بفضل بعض المساعدة النفسية أو الأدوية، ونوع ثان، وهو إحباط يحمل في طياته جذور الانتحار وهذا خطير جداً ويجب على من يسمع عبارة «أريد أن أنتحر» من محبطي النوع الثاني أن يتنبهوا جيداً جداً لهذه الحالة وأن يبقوا الشخص المعني تحت المراقبة.
ــ لو كان «روبن وليامز» بين يدي شليطا أو أي محلل أو معالج نفسي هل كان لينقذه؟
تجيب شليطا بأن الاختصاصي يميز للتو، وبأنه طبعاً يمكن المساعدة شرط أن يبقى المعني تحت المراقبة. وتشدد هنا أن ليس كل يأس يؤدي الى الانتحار إنما قد يؤدي الى الإحباط. وهي تنصح من يشير لها كلامه أو سلوكياته بأنه محبط، وقد لا يكون أعلن ذلك لنفسه أحياناً، بألا يسافر بعيداً أو يقود سيارة خاصة في لبنان لأنه قد يقوم بحادث من دون أن يعي أسبابه. وتشير شليطا الى أن المحبطين الذين يحملون بذور الانتحار قد لا ينتحرون بخطوة واحدة إنما يقومون بكل شيء يمكن أن يؤدي الى الموت السريع كتعاطي المخدرات أوالكحول بشكل مبالغ، والقيام بكل ما هو خطير وغير عادي، كتصرفات «مايكل جاكسون» مثلاً الذي تناول كمية كبيرة من الدواء وكان يقوم بما ليس عادياً.
وعما اذا كانت الفحوص المخبرية تنذر بحالة إحباط أو توجه الى الانتحار تقول شليطا إن ذلك ممكن فـ«السيروتونين» مثلاً قد يكون مؤشراً لذلك. وحول تجربة شخصية، أخبرت شليطا أن سيدة اتصلت بها لتعالج ابنتها وهي تردد دوماً بأنها تريد أن تنتحر. طلبت منها شليطا، الأمر الذي تطلبه عادة من كل المتصلين بها، أن تتحدث أولاً الى الشخص المعني عبر الهاتف فهناك مؤشرات في الصوت والنبرة والكلمات يمكن أن تقودها الى خيط القبول بالمعالجة أو توجيهها نحو علاج آخر. وطلبت شليطا من الأم أن تذهب بابنتها فوراً الى المستشفى لأن حالتها تستدعي ذلك، ولم يتم الأمر وانتحرت الفتاة.
ليس شجاعة ..
وعن وسائل الانتحار لا تؤكد شليطا أن الوسيلة تدل على نفسية المنتحر أو الأسباب، فالخطوة متى تم الإقدام عليها هي المهمة. وهي تؤكد في هذا المجال أن الانتحار لا يحمل أية جرأة على الإطلاق. الجرأة أن يصل مكسيم شعيا الى قمة افرست مثلاً، أما خطوة الانتحار فلا تتطلب أية جرأة. هي كما يقال بالعامية «ساعة تخلي» أي تخلي العقل عن وظائفه في توجيه الإنسان، وعندها يفقد هذا مقوماته الإنسانية التي يعرفها الإنسان الطبيعي.
وعن ظاهرة الفنانات خاصة العربيات اللواتي كن سابقاً يضحين بكل شيء وهن في قمة شهرتهن فيصبن باليأس والإحباط بعد انحسار الأضواء تقول:
تغيرت هذه الظاهرة التي كانت تسمى في ما مضى «الترهب للفن». ففي القديم كانت من تنشد الشهرة تسافر الى مصر بشكل خاص للغناء أو الرقص وكانت المواصلات كما وسائل التواصل صعبة جداً الأمر الذي تغير اليوم اذ بات بإمكان الفنانات الانتقال الى أماكن التصوير والبقاء على تواصل مع العائلة أو نقل العائلة بأكملها الى مواقع قريبة من التصوير في أي بلد كان. فقد سهلت المواصلات ووسائل التواصل الاجتماعي هذا الأمر كثيراً.
وعن الطفولة وتأثيرها في التفكير بالانتحار أو الإقدام عليه تنفي شليطا العلاقة المباشرة وتشرح:
هناك من يعرفون ألوان التعذيب والقهر المختلفة ويكونون من أبرز الأسماء لاحقاً، وتكون شخصياتهم متوازنة. قد تكون هناك عوامل مؤثرة في الطفولة أحياناً، لكنها ليست شرطاً إلزامياً.
وتؤكد شليطا في الختام أن المراهقة هي العمر الأصعب بالنسبة الى التفكير بالانتحار أو القيام به، ففيها تتم تغييرات جسدية ونفسية كبيرة.