بقلم خالد عوض
[caption id="attachment_82038" align="alignleft" width="325"] رئيس الحكومة السابق سعد الحريري: الإصلاحات بعد الرؤية أو قبلها؟[/caption]الهجرة ليست أمراً جديداً أو طارئاً على اللبنانيين. والأزمات الإقتصادية ليست هي أيضاً مستجدة. مانشيتات الصحف اللبنانية منذ الأربعينات تتكلم عن الفساد وتسأل الطبقة السياسية عما فعلته بالماء والكهرباء والنفايات... ربما حجم الأزمة هو الأكبر اليوم ولكن جوهرها هو نفسه. مساحة لبنان أي الـ١٠٤٥٢كلم مربع لا تسع لأكثر من عدد سكان معين. وعندما يفيض هذا العدد تكثر الأزمات. التاريخ يؤكد ذلك والجغرافيا تعززه. من دون رؤية إقتصادية جامعة تأخذ في عين الإعتبار الجذور السياسية والثقافية والطائفية للبنانيين من الصعب تحقيق إستقرار مستدام. المسألة لم تعد قضية نظام سياسي مهترئ أو الحاجة إلى دولة مختلفة من حيث الشكل والتوزيعات. ما يحتاجه لبنان هو دور إقتصادي مستدام يضمن لكل ناسه الإزدهار والإستقرار. أما موضوع الجيران والحدود السائبة والتأثيرات الإقليمية وما يقال عن تخصص لبنان في إستيراد الأزمات ولعب دور "الساحة"، كل ذلك يصبح ثانوياً إذا تكاملت النظرة الإقتصادية مع الواقع الجغرافي وموارد البلد، الطبيعية والبشرية.
التاريخ يشهد على.. الهجرة
منذ أيام الفينيقيين واللبنانيون يبحثون عن الرزق وراء البحار. تصدير الحرف ليس فقط خاصية للثقافة اللبنانية بل هو أيضاً مرآة لدور الهجرة في المجتمع اللبناني. وليس ضرورياً الرجوع آلاف السنين إلى الوراء ليتبين أن الواقع الإقتصادي في لبنان لم يكن يلبي حاجات مواطنيه.
[caption id="attachment_82024" align="alignleft" width="308"] رئيس الجمهورية الراحل فؤاد شهاب (١٩٠٢-١٩٧٣): لو بقي رئيساً لأصبح لبنان مثل سنغافورة.[/caption]في مقال له عام ٢٠١٧ يذكر الدكتور أكرم خاطر مدير مركز "موييز خيرالله لدراسات الإنتشار اللبناني" في جامعة شمال كارولينا الأميركية أهم أسباب هجرة اللبنانيين منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين. فبينما كان الإعتقاد السائد أن هذه الهجرة محصورة بمسيحيي جبل لبنان الذين كانوا يشتكون من ظلم الدولة العثمانية واضطهادها لهم أو يهربون من الخدمة العسكرية في الجيش العثماني، يبين الدكتور خاطر أن هذه الحجج لم تكن هي الأسباب الحقيقية. فالمسيحيون لم يكونوا ملزمين بالخدمة العسكرية على عكس المسلمين وكان بإمكانهم تجنبها عن طريق بدل مالي. كما أنهم لم يكونوا وحدهم الساعين إلى ترك لبنان. فبينما هاجر حوالي ١٢ بالمئة من المسيحيين تبين أن أكثر من ١٨ بالمئة من الدروز غادروا هم أيضاً في المرحلة نفسها. كذلك لم يكن الإضطهاد هو السبب. فالعديد من شيعة جبل عامل كانوا يراسلون القنصل البريطاني في بيروت السيد "ألدريدج" طالبين منه ضم جبل عامل إلى منطقة جبل لبنان نظراً لأفضلية العيش والإمتيازات الكثيرة التي كان سكان جبل لبنان يتمتعون بها مثل الحرية والأمن وإنخفاض الضرائب. لماذا هاجر اللبنانيون إذاً في هذه الفترة؟
فتش عن الإقتصاد والمال
السبب الأول لهرب اللبنانيين منذ قرن ونصف القرن هو ضيق سبل العيش في جبل لبنان. والسبب الثاني هو البحث عن الثروة في أميركا. فالأخبار التي كانت تأتي من القارة الجديدة هي أن بإمكان الفرد هناك جني خلال شهر واحد ما يوازي مدخول سنة كاملة في لبنان. ويشير الدكتور خاطر إلى أن وصول اللقاحات إلى لبنان بدءاً من عام ١٨٦٠ زاد عدد السكان بين ٣٠٠ و٥٠٠ ألف نسمة بسبب تراجع الوفيات، مما خنق الإقتصاد الذي لم يكن باستطاعته خلق فرص عمل لكل هذه الأعداد وهذا ما دفع الناس إلى الهجرة. فالإقتصاد كان يعتمد على الحرير الذي هبطت اسعاره عام ١٨٩٠ وعلى الزراعة التي كانت موسمية ومرتبطة بالأحوال الجوية، لذلك فإن الكلام عن أسباب سياسية أو دينية أو أمنية لهجرة اللبنانيين أساسه الحقيقي إقتصادي ومالي. هذا كان صحيحاً على مدى التاريخ وهو ينطبق على حاضرنا اليوم. فلو كانت أسباب الهجرة غير إقتصادية لما هاجر بعض اللبنانيين ومن كل الطوائف إلى أقل المناطق في العالم استقراراً وأمناً وعدالة وأصعبها حياة ومناخاً. المشكلة أن الهجرة أصبحت متأصلة في ثقافة اللبناني كحل لمشاكله في بلده بدل أن يحاول المساهمة في خلق الحلول.
من سنغافورة إلى لبنان: ينقصكم رؤية و...قائد
[caption id="attachment_82025" align="alignleft" width="188"] أبو سنغافورة "لي كوان يو": الرؤية الإقتصادية أولاً، ثم النظام السياسي الملائم لحمايتها فيتحقق الإزدهار الإقتصادي[/caption]رغم كل ما هو مثبت تاريخياً هناك من يقول إن الفشل السياسي هو وراء التراجع الإقتصادي، وإن إدارة سياسية فاسدة لا يمكن أن تؤدي إلى إقتصاد مزدهر. ولكن الاتفاق السياسي لا يعيش من دون رؤية إقتصادية تطمئن المجتمع على مستقبله. هذا تماماً ما قاله الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" عندما جاء إلى لبنان طارحاً مبادرته الإنقاذية، مشدداً أن اللبنانيين بحاجة إلى ميثاق إجتماعي جديد (Nouveau Pacte Social)، وهو لم يتحدث عن إتفاق سياسي. هذا ما فعلته سنغافورة منذ أكثر من خمسين سنة وتقوم به عدة دول اليوم منها رواندا في أفريقيا. أي وضع رؤية إقتصادية بعيدة المدى ثم الإتفاق على أفضل نظام سياسي لحمايتها. عام ١٩٦٠ كانت سنغافورة المعروفة بالمدينة-البلد دولة متأخرة لا يزيد فيها متوسط الدخل عن ٣٢٠ دولار في السنة (كان متوسط دخل اللبناني حوالي ١٠٠٠ دولار أي ثلاثة أضعاف). أما اليوم فقد أصبح متوسط الدخل السنغافوري ٦٠ ألف دولار سنوياً مقابل أقل من ٦ آلاف دولار للبناني. ماذا حصل في سنغافورة؟ جاء رئيس الوزراء "لي كوان يو" عام ١٩٥٩ وظل رئيساً للحكومة حتى ١٩٩٠، وقرر عام ١٩٦٥ أن يجعل من سنغافورة المقصد الأول لكل مستثمري العالم. وحتى يتحقق ذلك اعتبر "لي" المسمى بأبي سنغافورة أن هناك ركائز ثلاث لجعل البلد الوجهة الإستثمارية الأولى في العالم: القضاء على الفساد واعتماد الجدارة حصراً والكفاءة في التوظيف والبراغماتية السياسية، أي عدم الإنغلاق في الشرق أو الغرب أو الرأسمالية أو الشيوعية بل أخذ أفضل ما يناسب سنغافورة من أي مكان. وبنى "لي" نظاماً إستبدادياً لتحقيق هذه الصفات ولم يتمسك بالقيم الديموقراطية لمجرد أهميتها الإنسانية بل فضل المصلحة المجتمعية والوطنية وتمسك برؤيته الإقتصادية قبل كل شيء. وهنا لا بد من استذكار رئيس الجمهورية الراحل فؤاد شهاب الذي سبق "لي كوان يو" في رؤيته اللبنانية وجند المكتب الثاني في مخابرات الجيش لحماية رؤيته. إحترم فؤاد شهاب النظام الديموقراطي في البلد ورحل مع إنتهاء ولايته الرئاسية. ربما لو لم يفعل ذلك كان وفر على اللبنانيين عقوداً من المآسي.
وطن الستة شهور!
اليوم حاول الرئيس سعد الحريري تسويق حكومة انقاذية لمدة ستة شهور تحقق الإصلاحات التي إقترحتها المبادرة الفرنسية. ولكن في غياب الرؤية البعيدة الأمد التي تجمع كل اللبنانيين وراء هوية وطنية واحدة لن يكون الإصلاح مستداماً. ومن دون قائد قادر على المضي نحو الرؤية من دون تردد لن تستقيم الأمور. فعشرات الاف المهاجرين اللبنانيين اليوم يبحثون عن صورة لبلدهم عام ٢٠٣٠ و٢٠٤٠ ولا يرون إلا المشاهد المرعبة نفسها التي لازمتهم خلال الخمس وأربعين سنة الأخيرة. عسى أن يتمكن الحريري من أن يرينا صورة لبنان المستقبل وليس إعادتنا إلى الماضي.