بقلم طوني بشارة
مع مطلع شهر أيار/ مايو 2015، وقع الاختيار على مدينة جبيل لتستلم من مدينة الشارقة جائزة عاصمة السياحة العربية للعام 2016، وقد رشحت وزارة السياحة اللبنانية مدينة جبيل للمشاركة في مسابقة ( اختيار عاصمة السياحة العربية للعام 2016) من قبل جامعة الدول العربية والوزراء العرب، في إطار دعم القطاع السياحي وتشجيعه، وذلك نظراً لمكانة جبيل على الخارطة السياحية من جهة، ولكونها ثاني أقدم مدينة مأهولة في العالم من جهة ثانية.
والمتتبع لأوضاع جبيل يعلم أن هذه المدينة العريقة قد ضُمت الى لائحة مواقع التراث العالمي في العام 1984، كما تم اختيارها أفضل مدينة سياحية عربية للعام 2013، من قبل أكاديمية تتويج جوائز التميز في المنطقة العربية، وبالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة، وسبب اختيارها عائد لكونها أقدم مدينة مأهولة تحولت من مدينة صغيرة إلى كبيرة، دون أن تفقد أصالتها وعراقتها.
ولقد بات واضحاً أن الحصول على هذا اللقب يخضع لمعايير محددة من قبل مجلس وزراء السياحة العرب، ويتم منحه للجهة التي تطبق هذه المعايير، فما هي المعايير المعتمدة التي على أساسها تم اختيار مدينة جبيل؟ وما هي المقوّمات التاريخية التي تتمتع بها هذه المدينة دون سواها والتي سمحت أو مهدت لها نيل هذه الجائزة؟
أنجي رزق وكنوز جبيل
أسئلة عديدة للإجابة عنها، قابلت <الأفكار> خبيرة الآثار أنجي رزق، ونائب رئيس بلدية جبيل أيوب برق ونائب قضاء جبيل عباس الهاشم.
بداية مع خبيرة الآثار أنجي رزق التي أعلمتنا ان مدينة جبيل الأثرية تقع على مسافة 37 كلم شمال بيروت، حيث تحتل جزءاً من مرتفع صخري، يحده غرباً جرف ساحلي من الحجر الرملي، وشمالاً وجنوباً منخفضان يفضي كل منهما الى خليج طبيعي. ويشكّل هذا المرتفع منفذاً لمنطقة زراعية ضيّقة، تحدّها شرقاً سلسلة جبال لبنان التي أعطت جبيل فرصة تجارية مهمة تمثلت بتصدير خشب الأرز نحو الشواطئ البعيدة، وخصوصاً شواطئ مصر التي كانت تستهلك هذه السلعة بكميات هائلة، وقد اعتبر المصريون جبيل بوابة <بلاد الآلهة>.
كما رأت رزق ان حصول جبيل على هذه الجائزة مدعاة فخر ليس فقط لجبيل بل لكل لبنان، وجبيل تستحق هذه الجائزة على اعتبار انه قد مرّت على هذه المدينة اللبنانية التاريخية حضارات متنوّعة أخذت منها وأعطتها الكثير، مما جعل جبيل من أقدم المدن المأهولة في العالم، وهي كما نعرفها اليوم، تقوم على طبقات عدّة من البقايا والآثار التي تعود الى العصر الحجري.
وتتابع رزق: يرتبط تاريخ جبيل بشكلٍ وثيق ومُحكم بتاريخ المتوسط، ويعتقد المؤرخون أنّ مجموعة من الصيادين بنوا جبيل قبل ما لا يقل عن 7000 سنة، ثم تبعتهم مجموعات وشعوب أخرى اتخذوها موطناً لهم، وجلبوا معهم عاداتهم وأنماط عيشهم وصناعاتهم. وهكذا تحوّلت جبيل الى منطقة تزخر بالآثار القديمة، إذ يمكن اليوم رؤية بقايا أكواخ تعود الى العصر الحجري مع أرضياتها الكلسية المسحوقة، وبقايا أساسات منازل حجريّة وبقايا هياكل وحصون دفاعية فينيقية. كما كانت جبيل أيضاً مركزا ً تجارياً مهماً، وأصبحت في عهد الفينيقيين الكنعانيين حوالى 3000 قبل المسيح أول مدينة فينيقية مرتبطة تجارياً بالمملكة المصرية القديمة، وتعاظمت لاحقاً أهميتها التجارية في شرق المتوسط وراحت تصدّر زيت الزيتون وخشب الأرز والنبيذ وتستورد المرمر والذهب وورق البردى وغيرها من مصر.
وتستطرد رزق:
- المتتبع للأحداث التاريخية يعلم ان الحرف الحديث المأخوذ من كتابة اللفظة الفينيقية انطلق من شواطئ جبيل، وحمله بحارة وتجار فينيقيا عبر المتوسط الى العالم، وهذا ما تؤكدّه الكتابة المنقوشة على ناووس الملك أحيرام المعروض في المتحف الوطني في بيروت.
ــ ما هي الحضارات التي حكمت جبيل ومن أطلق عليها هذه التسمية؟
- بات شائعاً انه مع وصول الاسكندر الكبير، وقعت جبيل تحت الحكم الإغريقي، واعتمدت اللغة والثقافة الإغريقية، فكان الإغريق أول من أطلقوا على هذه المدينة اسم <بيبلوس> ومعناه بالإغريقية <الورق>، وذلك نظراً للأهمية التي اكتسبتها هذه المنطقة في مجال تجارة ورق البردى. وفي القرن الأول قبل الميلاد، أقام الرومان الهياكل والحمّامات وغيرها من المباني التي ما زالت أطلالها قائمة حتى اليوم، منها: مسرح روماني وأعمدة شارع معمّد قديم ونافورة رومانية...
وتتابع رزق قائلة:
- حكم جبيل ايضاً البيزنطيون والعرب، ولكن المواقع الأثرية التي خلّفوها قليلة قياساً بمخلفات من سبقوهم، ثم وصل الصليبيون في العام 1104 واستعملوا حجارة وأعمدة الهياكل القديمة في بناء قصر خاص بهم وخندق مائي، وقد رمّم المماليك والعثمانيون على التوالي هذا القصر الذي يطلّ اليوم على بقايا مدينة جبيل والبحر. واستناداً الى ما سبق، يمكن اعتبار موقع جبيل متحفاً للحضارات فريداً من نوعه، إذ يختصر في جنباته وشواهده الأثرية نحو 8 آلاف عام من التاريخ، فجبيل من أقدم المدن في العالم، وهي واحدة من المواقع الأثرية القليلة جداً التي تتمثل فيها الحقبات التاريخية المختلفة، منذ ما قبل التاريخ وحتى اليوم، ولا شك ان ذلك قد ساهم في إعطاء جبيل هذه الجائزة.
ــ ماذا عن تاريخ التنقيبات الأثرية في مدينة جبيل؟
- للأسف، دفنت معالم جبيل تحت التراب لقرون طويلة قبل أن يقوم العلماء في القرن التاسع عشر والقرن العشرين بالتنقيب عنها، وهكذا أزيلت الطبقات والأحجار التي خنقتها، لتولد جبيل مرةً أخرى من رحم الأرض والتاريخ وتهب نفسها للسياح ليقوموا بتنقيباتهم الخاصة ويكشفوا النقاب عن الحضارات القديمة التي مرت بها. فلا بد من الاشارة الى انه وبالرغـم من أن عـدداً من الرحالة قد أتوا على ذكر مدينة جبيل منذ القرن الثاني عشر ميلادي، لم يفضِ الموقع بأسرار كنوزه إلا عند مجيء الباحث <أرنست رينان> الذي قام سنة 1860 باستكشاف بلاد فيـنيقيا خلال حمـلة <نابوليون الثـالث>، وعثر على آثار قديمة دفعت به الى القيام بحفريتين أتاحـتـا التـعـرّف الى الموقـع بدقـة أكثـر. وبين سنة 1921 وسنة 1924، قام الباحث المتخصص في الآثار الفرعونية <بيار مونتيه> (1885 - 1996) بحفريات أثرية في الجزء الشمالي الغربي للموقع وتمكّن من العثور على المقبرة الملكية التي احتوت على آثار ثمينة تشهد على غنى ملوك جبيل، وكان من بين هذه الآثار <ناووس أحيرام> وقد شكّلت الكتابة التي يحملها حلقة مهمة في تاريخ الأبجدية.
وتستطرد رزق قائلة:
- بين سنة 1926 وسنة 1973، قاد الأثري <موريس دونان> 42 حملة تنقيبات أجريت أولها أيام الانتداب الفرنسي، أما الباقية منها، فكانت لحساب المديرية العامة للآثار في لبنان التي استملكت الموقع. وعلى الرغـم من أن <دونـان> كان قد أنجز أعمـال الحفريات في موقع جبيل الأثري، فإن دراسة آلاف القطع والعناصر الهندسية تأخرت لأسباب عدة، من بينها أحداث لبـنان ووفاة <دونان>، وما أنجز حتى الـيوم لا يغطي سوى الحقبات الأولى من تاريـخ الموقـع، بينما ينتـظر القسم الأكـبر تحاليـل الباحثـين ودراساتهم.
بلدية جبيل وأخبار الغد
وللإطلاع على المقومات الحالية التي مهدت لعملية اختيار جبيل لنيل هذه الجائزة وكيفية ترشيحها، التقينا أيوب برق نائب رئيس البلدية الذي أعلمنا ان البلدية قدمت ملفاً كبيراً لجامعة الدول العربية ومجلس وزراء السياحة العرب يتضمن معلومات عن المدينة وآثارها، وأماكنها السياحية وعدد سواحها وقيمتها التاريخية، ناهيك عن النشاطات الثقافية والسياحية والفنية التي تقام على أرض هذه المدينة، كما تم تضمين الملف معلومات عن البنية التحتية، وعن إنجازات البلدية ومشاريعها الحالية والمستقبلية للمحافظة على المدينة بشكل عام وعلى آثارها وأماكنها السياحية بشكل خاص، لاسيما تلك المشاريع المتعلقة بقانون البناء وكيفية الحفر والحفاظ على الآثار. فضمن منطقة جبيل لا يمكن إعطاء رخصة للبناء على اي عقار كان، قبل خضوع العقار للكشف من قبل مديرية الآثار التي تتولى بدورها عملية إجراء تجارب تسمح لها بتحديد مواقع الآثار في حال وجدت في هذا العقار، وعلى أساس نتيجة الكشف يمكن إعطاء الرخصة مع ذكر بند المحافظة على الآثار الموجودة، كما انه قد نضطر لعدم إعطاء رخصة البناء وذلك حسب اهمية الآثار الموجودة داخل نطاق العقار.
ــ يقال ان وزير السياحة هو من رشح جبيل لنيل هذه الجائزة. فما صحة ذلك؟
- ان ترشيح جبيل لنيل الجائزة حصل بناء على طلب وتزكية خاصة بالفعل من قبل وزير السياحة ميشال فرعون الذي تمنى ان يتم فقط ارسال ملف مدينة جبيل دون سواها، وحصلنا على جائزة المدينة السياحة العربية لعام 2016، كما حصلت مدينة <أبها> السعودية على اللقب نفسه للعام 2017.
ــ هل عدد سكان جبيل يفوق فعلاً الـ30000 مواطن وعدد عائلاتها يتجاوز الـ 5000 عائلة؟
- بالفعل ان العدد الفعلي لسكان جبيل هو 35 ألفاً، اما عائلات جبيل فيقارب عددها 7 آلاف عائلة وأهمها من حيث العدد عائلة صليبا، زغيب، صفير، الخوري...
ــ ماذا عن مهرجانات جبيل لهذا العام؟
- إضافة الى المهرجانات المقامة من قبل لجنة مهرجانات بيبلوس الدولية من 13 تموز/ يوليو ولغاية 18 آب/ أغسطس، ستقيم بلدية جبيل عدة نشاطات منها: <ماراتون بيبلوس للسيدات> وذلك بالتعاون مع جمعية <ماراتون بيروت>، وذلك في 7 حزيران/ يونيو، علماً ان هذا <الماراتون> يتضمن سباقاً للسيدات على مسافة 15كلم، وسباقاً للجميع على مسافة 5 كلم وسباقاً للصغار على مسافة كلم واحد، وبتاريخ 11/12/13 حزيران/ يونيو، سيقام مهرجان النبيذ على ميناء جبيل وذلك بمشاركة جميع منتجي النبيذ الابيض والوردي في لبنان، كما سنقيم في أواخر شهر حزيران/ يونيو معرضاً للحرفيين والمصورين والرسامين.
عباس الهاشم وأصالة جبيل
ولكن ما وقع حيازة جبيل هذه الجائزة على سياسيي المنطقة؟
عباس الهاشم اعتبر ان حيازة جبيل هذه الجائزة هي مدعاة فخر وسعادة واعتزاز لكل مواطن جبيلي، على اعتبار انها بمنزلة تقدير لهذه المدينة، وهي تعيد الناس الى الأصالة، كما انها تساهم بإعادة فهم التاريخ بزيارته الميدانية والفيزيائية.
ويتابع الهاشم: هذه الجائزة تسلط الضوء على الحضارة التي أطلقتها جبيل تجاه كل دول العالم، والتي بدأت بالحرف ووصلت الى القيم والاخلاق التجارية، وهذه مكافأة للمدينة التي اعتبرت وما زالت حتى اليوم نموذجاً للوحدة الوطنية فهي تؤكد يوماً بعد يوم على الشراكة الجدية والحقيقية، كما تركز ايضاً على نمط العيش الواحد.
ــ لمن يعود الفضل لحيازة جبيل هذه الجائزة؟
- ان حيازة جبيل الجائزة هي نتيجة حتمية لعمل تراكمي لكل رؤساء بلديات جبيل وصولاً الى الرئيس الحالي الأستاذ زياد الحواط.