بقلم جورج بشير
ما حصل في منطقة الشرق الأوسط خلال الأسبوع الماضي على صعيد العلاقات الأميركية - الأوروبية والإيرانية بعد قيام إيران بالتعاون مع روسيا بإنشاء مفاعل نووي أصرّت على القول لسنوات بأنه لخدمة الأغراض الإنمائية وإنتاج وتصنيع الطاقة. ولم يأخذ الأميركيون والأوروبيون الكلام الإيراني على محمل الجدّ، كونهم ارتابوا بإمكانية لجوء النظام الايراني الى إنتاج سلاح دمار شامل، بعد الذي حصل على هذا الصعيد، لا شك بأنه أغلق مرحلة <مهمة> من تاريخ المنطقة والعلاقات المشار إليها، وفتح مرحلة تاريخية مهمة بدأ المراقبون السياسيون والديبلوماسيون والإعلاميون يرسمون معالمها منذ اليوم، مترقبين النتائج وحتى التداعيات.
<قبل الاتفاق الإيراني لن يكون كما بعد هذا الاتفاق...>، هذه عبارة وردت في أكثر من تصريح وتعليق على ألسنة سياسيين ومحللين لبنانيين وعرب وأجانب مثل الرئيس نبيه بري في وصف الاتفاق الذي دامت المشاورات والأخذ والردّ في شأن بنوده، لا بل في شأن كل كلمة وحرف ورقم في كلماته وحروفه طوال سنتين ونيّف... إنها حقيقة لا يمكن الهروب منها الى الوراء، أو اعتماد طريقة النعامة في إخفاء رأسها في الرمال. فاتفاق طهران وواشنطن مع المجتمع الدولي بقدر ما رفع حرارة الترحيب به فور إعلانه من عاصمة الدانوب في فيينا في بلدان وعواصم، فإنه قوبل بامتعاض ووجوم وقلق في بلدان أخرى، وكأنه كان أمراً مفاجئاً ولم يكن متوقعاً، أو كان بعض السياسيين والمنشغلين بالسياسة والإعلام هنا وهناك يعتبرون ان الدول الخمس زائداً واحداً وهي المعتبرة دولاً كبرى لها الدور والصوت الأعلى في قرارات المجتمع الدولي، موظفة عند أمثال هذا الطاقم من السياسيين والإعلاميين وفروخ السياسة والديبلوماسية هنا أو هناك تأتمر بأوامرها وتعمل وفقاً لمصالحها الصغيرة وأنانياتها، أو كأنها لا تعرف انها بالنتيجة حجر من حجارة <داما> تتحرّك وفقاً لما تقتضيه مصالح واستراتيجيات هذه الدول الكبرى التي لا تعرف سوى مصالحها ولا تعمل إلا وفقاً لما تقتضيه وتفرض هذه المصالح أياً كانت الأوصاف التي نطلقها عليها <هيمنة، استغلال، استعمار>.... فالقافلة تسير...
<راجعة من العرس بدون حمّص>
لا بدّ من الاعتراف بأن اسرائيل بدت عقب <توقيع> اتفاق فيينا مع ايران وكأنها <عائدة من العرس من دون حمّص> كما يقول المثل، فهي كانت تراهن في الأسـاس على الحصول على غطاء أميركي أو دولي ما يمكّنها من القيام بتسديد ضربة عسكرية الى المفاعل النووي الإيراني، لكي تبقى الدولة الشرق أوسطية الوحيدة التي تمتلك وتنتج السلاح النووي وتصدّره وتتاجر به مهددة دول وشعوب المنطقة. لكن الإدارة الأميركية برئاسة <باراك أوباما> حذرتها لا بل منعتها من تحقيق هذا الهدف كونه خطراً على السلام العالمي وعلى المنطقة ودولها وطرق ومنابع طاقاتها النفطية، لا بل ان من شأن مثل هذا العمل المتهوّر أن يهدّد بنشوب حرب عالمية بعد إطلاق الإنذار الايراني في وجه من يضرب المفاعل أو من يؤمن الغطاء لمثل هذه الضربة.
كان هدف اسرائيل المعلن من جراء تهديداتها لإيران، وحتى للإدارة الأميركية ضمان أمنها وسلامتها من إمكانية لجوء الايرانيين الى إنتاج سلاح الدمار الشامل الذي ينتج في اسرائيل... لكن للإسرائيليين كما بدا واضحاً في المرحلة ما قبل الاخيرة في مفاوضات فيينا هو دفع المفاوضين خصوصاً الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين بفعل ضغط العقوبات والتهديد وعدم التوقيع وحتى إفشال المفاوضات للحصول على تعهّد صريح من إيران بأن تعترف بإسرائيل دولة يهودية، وإلا لا اتفاق ولا من يحزنون لا في فيينا ولا في غيرها مع إيران... والمؤسف في هذا المجال أن <اللوبي> الصهيوني في أميركا ودول الغرب وحتى في دنيا العرب نجح وأيما نجاح في تصوير اسرائيل للعرب بأنها صديق، وتصوير ايران بأنها العدوّ المغتصب لدولة فلسطين وذلك في محاولة لتبرير الوصول الى تحقيق الهدف الأساس الرامي الى حصول اسرائيل وهذا <اللوبي> العالمي العامل لمصلحتها على الاعتراف العلني بدولة اسرائيل دولة ليهود العالم...
طبعاً، إن الإدارة الأميركية ومعها سائر أعضاء مجموعة الدول الخمس زائداً واحداً حتى اسرائيل عليها ان ترضخ للإرادة الدولية والقرار الدولي، وبأنها كغيرها من الدول الأخرى تدور في الفلك الأميركي - الأوروبي - الدولي وليس العكس.
ولعلّ هذا ما دفع بـ<اللوبي> العالمي للصهيونية الأميركية - الدولية لفتح حرب لا هوادة فيها في وجه الإدارة الديموقراطية الحاكمة في واشنطن بالذات، وفي داخل الكونغرس لمحاولة ضرب الاتفاق الذي تجرأ الرئيس الأميركي <باراك أوباما> على توقيعه مع ايران في فيينا من دون الحصول على بركة وموافقة اسرائيل و<اللوبي> العامل من أجلها وفي سبيل مصالحها في دول العالم، ونقمة <بنيامين نتنياهو> وسائر أركان حكمه وحتى المعارضة الاسرائيلية على هذا الاتفاق الى درجة لطم الوجوه السياسية والإعلامية والديبلوماسية المناهضة لتوقيعه مع طهران.
من فيينا... الى نيويورك
أدركت إدارة الرئيس <أوباما> وسائر الإدارات الدولية الأخرى التي وقّعت مع ايران الاتفاق النووي مقابل رفع العقوبات المفروضة عليها وفتح قنوات الاتصال والعلاقات الاقتصادية والسياسية والأمنية معها ان الحرب المعلنة على اتفاق فيينا سواء من اسرائيل أو غيرها من الدول ستواجه سلباً في الكونغرس، وكذلك في برلمانات معظم البلدان الموقعة على هذا الاتفاق لجعل الأحزاب الحاكمة في هذه البلدان تدفع الثمن السياسي بدءاً بضرب الاتفاق داخل الكونغرس الأميركي. وربما لهذا السبب كان الإجراء الرامي الى إقرار هذا الاتفاق (اتفاق <فيينا مع ايران>) في مجلس الأمن الدولي، وتأمين الاجماع واعتباره محققاً للأمن والسلام العالمي، وذلك في محاولة لإحباط عملية ضرب الاتفاق في الكونغرس وسائر برلمانات العالم، بهدف الاقتصاص والثأر من الحكومات والأحزاب الحاكمة التي أذنت بتوقيعه...
يبقى السؤال المطروح في كل مكان بعد اتفاق فيينا: ماذا سيحقق الاتفاق المذكور لدول المنطقة وللبنان بالتحديد؟
الدول الموقّعة ومنها ايران بادرت بعد عيد الفطر المبارك الى القيام بحملة تطمين ديبلوماسية شملت الدول الممتعضة والقلقة والمعارضة للاتفاق بين المجتمع الدولي وايران عبر إيفاد وزراء وحتى رؤساء حكومات ومبعوثين بعضهم سارع الى زيارة واشنطن، ولندن وباريس، والبعض الآخر استقبل الموفدين الأميركيين والبريطانيين والإيرانيين في آن، وهذا مقدّمة لا تخفي سائر الاتفاقات التي عقدت أو ستعقد مستقبلاً مع ايران من جانب الدول الموقّعة للتبادل الاقتصادي والأمني والسياسي فيما يحصد الإيرانيون وأركان نظامهم والحلفاء ثمار هذا الاتفاق... لكن يبقى المهم أن يثبت الايرانيون لجيرانهم أولاً وللعالم أن هدفهم من المفاعل النووي هو كما وعدوا سلمي وليس لإنتاج السلاح النووي ليصبحوا لاعبين أساسيين في مصائر دول وشعوب المنطقة التي ينتمون إليها وفق ما أشار إليه علناً الرئيس الأميركي. فدور إيران في حل المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وخاصة في لبنان وفي فلسطين وفي الحرب على الإرهاب الذي يقض مضاجع دول المنطقة وسائر دول العالم بات أساسياً ومعترفاً به في المجتمع الدولي بعد التوقيع على الاتفاق النووي في عاصمة النمسا، هذا الاتفاق الذي دفع بمنطقة الشرق الأوسط لأن تبدأ مع دول العالم بقرار دولي في عيش مرحلة ما بعد الاتفاق التي ستكون حتماً مختلفة تماماً عن مرحلة ما قبل الاتفاق...