تفاصيل الخبر

لهذه الأسباب لن تنتهي مشكلة فرنسا (وأوروبا) قريباً!

07/12/2018
لهذه الأسباب لن تنتهي مشكلة  فرنسا (وأوروبا) قريباً!

لهذه الأسباب لن تنتهي مشكلة فرنسا (وأوروبا) قريباً!

بقلم خالد عوض

إلى أين تتجه الأزمة الإجتماعية في فرنسا؟ من الواضح أن الحركة التي بدأها أصحاب السترات الصفراء لن تتراجع رغم التنازلات المتلاحقة التي قامت بها الحكومة الفرنسية وآخرها تجميد ضريبة المحروقات لستة شهور وإلغاء رفع تكلفة الكهرباء في أول الشتاء. القضية ليست رمانة ضريبية بل قلوب فرنسية ملآنة بالغضب واليأس مما آلت إليه الأمور في سابع أقوى اقتصاد في العالم، بعد أن سبقت الهند فرنسا هذا العام في ترتيب الناتج المحلي.

 

الفرق الطبقي المتنامي!

إذا سألت عن أصحاب معظم الشقق في العاصمة الفرنسية يتبين أنهم إما من الطبقة البورجوازية أو من الأجانب، أي أن الأغنياء فقط هم من يتملكون الشقق والعقارات الباريسية. فمع تراكم الضرائب على العقار أصبح لا يمكن لأي فرد من الطبقة الوسطى الفرنسية أن يتملك شقة في باريس، حتى أن الفرنسيين بدأوا منذ زمن، على عكس معظم شعوب العالم، بالهجرة من المدن والتوجه للسكن وإذا أمكن العمل في الأرياف حيث الإيجارات أرخص بكثير. هذا المؤشر يدل على المشكلة الحقيقية في فرنسا: أغنى ٢٠ بالمئة من الشعب يحصلون على خمسة أضعاف ما يحصل عليه الـ٢٠ بالمئة الأدنى دخلا، وواحد بالمئة من الفرنسيين أي حوالى ٦٥٠ ألف شخص يملكون أكثر من ٢٠ بالمئة من مجموع الثروات في فرنسا، يضاف إلى ذلك أن أكثر من نصف العاملين في فرنسا يحصلون على أقل من ١٧٠٠ يورو في الشهر (أقل من ألفي دولار)، وهو ما يجعل من شبه المستحيل أن يتمكن هؤلاء من تسديد نفقات الإيجار والنقل والغذاء وتأمين الحاجات العائلية. صحيح أن فرنسا من أسخى الدول في العالم في ما يخص التقديمات الإجتماعية حيث تنفق أكثر من ٧٠٠ مليار يورو أي حوالى ثلث ناتجها المحلي لتأمين الرعاية الصحية المجانية والتعليم والمساعدات للعائلات المحتاجة ومرتبات العاطلين عن العمل، ولكن كلفة الحياة نمت بشكل سريع مقابل توقف نمو مستوى الأجور منذ الأزمة المالية عام ٢٠٠٨ بل تراجعه في السنتين الأخيرتين. وفي ظل  مستوى الضرائب الذي هو الأعلى في أوروبا والضريبة على القيمة المضافة التي وصلت إلى عشرين بالمئة أصبح لا يمكن للفرنسيين أن يتعايشوا مع الواقع الاقتصادي الحالي.

اللانمو المتواصل!

النمو الاقتصادي في فرنسا بالكاد يصل الى ٢ بالمئة ويتراوح بين ١,٥ و١,٨ بالمئة حاليا. هذا المستوى المتواضع لا يزيد من فرص العمل بل يقللها لأن المتعارف عليه أن فرص العمل الجديدة تأتي عندما يتجاوز النمو ٣ بالمئة، والدليل أن مستوى البطالة في فرنسا لا زال أعلى من ٩ بالمئة مقابل ٣,٤ بالمئة في ألمانيا وأقل من ٤ بالمئة في بريطانيا، رغم أن ساعات العمل في فرنسا (٣٥ ساعة في الأسبوع) أقل من البلدين وهذا من المفترض أن يزيد من الطلب على العمال. أحد الأسباب ربما هو كسل الفرنسيين مقارنة بنظرائهم الألمان فالكثيرون منهم يفضلون الحصول على مرتب البطالة بدل العمل الفعلي، بالإضافة إلى ذلك فإن مستوى الضرائب المرتفع وصعوبة وكلفة صرف العمال تجعل التوظيف <آخر الدواء> عند الشركات الفرنسية. ولكن التدقيق أكثر في معدلات النمو يبين أنه ليس متوزعا على كل القطاعات بل محصور في مراكز اقتصادية محددة. قطاع السياحة مثلا هو من أهم القطاعات الاقتصادية لأن فرنسا هي أكثر بلد مقصود سياحيا في العالم، ولكن المطاعم والفنادق الفرنسية تعاني منذ أكثر من سنتين بسبب الضرائب وصعوبة التوظيف وتراجع معدل إنفاق السياح بشكل عام إلى جانب تراجع السياحة الداخلية التي تشكل ٧٠ بالمئة من المداخيل السياحية بسبب إضطرار الفرنسيين إلى التخفيف من مصاريفهم.

 

<إيمانويل ماكرون>... الغائب الكبير عن وجع الناس!

لن يكون عيد ميلاد الرئيس الفرنسي الواحد والأربعين بعد عشرة أيام وبالتحديد يوم ٢١ كانون الأول (ديسمبر) المقبل مناسبة إحتفالية، فالرجل مطالب بالاستقالة من منصبه لأن الفرنسيين باتوا مقتنعين أنه يمثل <النخبة> وليس له أي تواصل حقيقي مع ما يشعر به عامة الناس. في سلم اولوياته مسألة التغيير المناخي وتخفيف التلوث وهذا ما يفسر حماسته الأخيرة للضريبة على المحروقات والتي أدت إلى حركة السترات الصفراء، ولكن مطالب هذا التوجه الثوري الذي لا يزال يحظى بدعم أكثرية الفرنسيين تجاوزت إلغاء ضريبة المحروقات وأصبحت تنادي بالتغيير الحقيقي على مستوى رأس الهرم. <ماكرون> لقب بـ<نابوليون> منذ أكثر من سنة  لأنه يتشبث بأفكاره ولا يستمع جيدا إلى آراء غيره، ولهذا السبب تخلى عنه أكثر المقربين منه وآخرهم وزير الداخلية السابق <جيرار كولومب> الذي استقال منذ شهرين. الرجل يحلم بفرنسا المستقبل ويرسم معالم صورتها المثالية من دون أن ينتبه إلى أن مشاكلها اليوم لن تحل بالتخطيط البعيد المدى، وبعد أن كان <ماكرون> يتحدث منذ سنتين أنه سيقود ثورة إذا جاء رئيسا، أصبحت هناك ثورة حقيقية اليوم تطالب برحيله.

يبدو أن حركة السترات الصفراء لن تنتهي قريبا في فرنسا، ومن المرجح أن تطيح - على الأقل - بحكومة رئيس الوزراء <ادوار فيليب>. المسألة تداخلت فيها أمور عديدة ولن تكتفي بموضوع الضرائب. المشكلة أنها من النوع المعدي لأنها بدأت تحرك الناس في بلجيكا وإيطاليا حيث المشاكل نفسها بل ربما أسوأ... هناك من يشبه ما يحصل في <جادة الشانزليزيه> بالطاعون الإجتماعي الذي لن يتوقف عند حدود فرنسا، ومع الطاعون لا تنفع الجراحات بل الخطوة الأولى هي بمنع تفشيه عن طريق معالجة سريعة لأسبابه الحقيقية... لا يبدو أبدا حتى اليوم أن <ماكرون> يتصرف كذلك!