بعد مرور شهر على تسلم الرئيس الأميركي جو بايدن سلطاته الدستورية كرئيس للولايات المتحدة الأميركية، لا تزال الأوساط السياسية اللبنانية "محتارة" في ما سيكون عليه الموقف الأميركي من الوضع اللبناني، وهل ستكون الإدارة الأميركية الجديدة اكثر رأفة بلبنان مما كانت عليه إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، لاسيما وان لا معطيات جديدة تجيب عن هذه التساؤلات التي تبقى في باب التكهنات المفتوحة على مختلف الاحتمالات.
صحيح ان الرئيس بايدن لم يأت ولا مرة على ذكر لبنان في خطبه الكثيرة منذ دخوله البيت الأبيض اذ يحصر كلماته كلها في الشؤون الداخلية، الا ان الصحيح أيضاً ان بعض طاقمه الديبلوماسي لا يتردد في إيضاح مواقف اما مباشرة او عبر الاقنية، وكلها توحي بأن لا ملامح لتغيير بعد في السياسة الأميركية تجاه لبنان. وفي هذا السياق تقول مصادر دبلوماسية متابعة إن واشنطن تنظر الى لبنان في الوقت الراهن من زاوية التجاذب مع ايران ومن خلالها "أمن إسرائيل" وليس متوقعاً، حسب هذه المصادر، ان تعلن إدارة بايدن موقفاً اكثر تساهلاً مع النفوذ الإيراني على حدود إسرائيل الشمالية، في الجنوب اللبناني وكما في الجولان.
المصادر نفسها تعتبر ان الفترة لا تزال قصيرة بين تسلم بايدن السلطة، وهي فترة لا تبدو كافية لتحديد مواقف البيت الأبيض من قضية هي في مقياس الإدارة الأميركية، تفصيلية كالمسألة اللبنانية وان كان بايدن وعد شخصيات لبنانية خلال فترة الترشيح الرئاسي انه سيولي الملف اللبناني عناية خاصة لاسيما وانه سبق ان زاره كنائب لرئيس الولايات المتحدة الأميركية وعلى اطلاع ولو عام على ما عانى منه ماضياً وحاضراً. لكن، وفق المصادر، شهدت هذه الفترة تحضيرات مكثفة لتحديد النهج الجديد مع ايران، والابرز هو إعادة تسليم الملف لـ"روبرت مالي" الذي كان راعي المفاوضات من اجل الملف النووي العام 2015.
بين بايدن وترامب
يقول قادمون من واشنطن الى بيروت إن ثمة من استنتج ان مجرد العودة بالملف الى الرجل نفسه، أي مالي، يعني العودة الى النهج نفسه. لكن المطلعين في واشنطن يجزمون ان الموقف الأميركي المعلن في عهد ترامب سيبقى أساساً لاي مفاوضات بين الجانبين، أي وقف ايران لعمليات التخصيب. وبعد ذلك، يصبح التفاوض وارداً. ولكن وفق هؤلاء، لا يريد بايدن ان يكون أوباما آخر في التعاطي مع ايران. وان كان نائباً له خلال ابرام الاتفاق. وهو سيتمسك بشروط صارمة لضمان عدم امتلاك ايران صواريخ ذات رؤوس نووية، وكذلك منعها من بسط نفوذها غربا. فـ"بايدن"، خلافا لـ"اوباما" و"ترامب"، يأتي من تجربة طويلة وعميقة من العمل السياسي، بينها نحو 37 عاماً في ترؤس او عضوية لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ. وخلالها، ومن خلال موقعه في نيابة الرئاسة، شارك في اعداد مشاريع وأفكار عدة للحل في الشرق الأوسط. وهو متعمق خصوصاً في الملفين الإيراني والعراقي.
في الموازاة، يعتقد القادمون ان بايدن سيقيم معادلة جديدة للعلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة العربية والشرق الأوسط عموماً، ولاسيما منهم المجموعة الخليجية. وهذا ما ظهر في الاتجاه السريع الى إطفاء النار في اليمن. ويبدو بايدن متجهاً الى تحديد مقارباته للملفات الشرق أوسطية. لكن ذلك لا يبدأ بالجزئيات او بالتفاصيل، بل بالملفات الأساسية. وبعد ذلك يصبح سهلاً تصور التعاطي في التفاصيل. ولذلك، لم تستعجل إدارة بايدن الدخول في الملف اللبناني مباشرة، وتبدو اليوم كأنها في موقع المتفرج، ولكنها في الواقع تدير اللعبة بـــ"الريموت كونترول" وتبحث عن الإمساك بخيوط اللعبة من أساسها أي من الملف الإيراني وهي تترك للوسطاء بدءاً بفرنسا ان يحاولوا الوصول الى حلول لعلهم ينجحون.
تفويض أميركي لباريس غير مفتوح
وفي هذا الاطار اللبناني، يبدو بايدن، في هذه المرحلة على الأقل، يعمل لبنانياً مع فرنسا كما فعل "ترامب" لجهة "توكيل" باريس بالملف اللبناني وعندما تصل "التسوية" الى خواتيمها تقول واشنطن كلمتها سلبية كانت ام إيجابية وفق المعطيات التي تتوافر لدى الإدارة الأميركية التي لا ينسى القدامى فيها كيف ان ترامب "فركش" الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مراراً الى حد انه قطع عليه الطريق في احدى المرات ولم يفتحها الا بعدما حصل على "ضمانات" من "ماكرون" بأن يبقى السعي للتسوية ضمن دائرة الشروط الأميركية لا الإيرانية في الوساطة. وفي معلومات مصادر ديبلوماسية عليمة ان "ماكرون" سوف يتحرك مع بايدن انطلاقاً من ان لا نفور أميركي تجاه حزب الله بالمطلق كحزب لبناني بل تجاه ما يمثله من نفوذ عسكري وامني لإيران فاذا تعهد الحزب بالتخلي عن هذه المهمة، يصبح سهلاً ان يتعاطى الاميركيون معه في لبنان. لكن هذه الفرضية ليست مضمونة، لكن "ماكرون" ، وفق المصادر الديبلوماسية نفسها، يحاول التحرك ضمن هذا المفهوم، أي اقناع "حزب الله" بفك ارتباطه القوي بايران وجعل قراره لبنانياً داخلياً. وهذا ما يسهل إنجاح المبادرة الفرنسية، بدءاً بتشكيل حكومة جديدة تحظى بالرضا عربياً ودولياً، ولو كان يتمثل فيها "الحزب" بشكل "ناعم" كما القوى الأخرى. ووفق المعلومات يحاول الفرنسيون اليوم استنفار الدعم العربي تحت هذا السقف. واذا يبدو متعذراً اقناع المملكة العربية السعودية بهذا النموذج من الحل بسبب عدم اطمئنانها الى نتائجه لأن ثمة من يعتبر ان واشنطن أيضا لن تقتنع به لأنها لا تثق بأن الحزب يمكن ان يفك ارتباطه بطهران ولو جزئياً كذلك الحال فإن الامارات العربية المتحدة وقطر وحتى مصر لن تغامر أيضاً باحراق المراكب مع الاميركيين من اجل دعم التسوية الفرنسية في لبنان.
وتتساءل المصادر الديبلوماسية، هل سينجح "ماكرون" في استمالة "بايدن" ليحصل على تغطية لمبادرته، في البلد الشرق اوسطي الوحيد الذي ما زال يحفظ مكاناً مميزاً لها ولمصالحها؟ ثمة من يخشى ان يصطدم "ماكرون" بـ"بايدن" كما اصطدم بـ"ترامب". فالرئيس الفرنسي "مستعجل" لانجاز تسوية في لبنان. لكن "بايدن" ما زال في الأيام الأولى من ولايته. ولذلك هو ليس مستعجلاً، وامامه وقت طويل للتفاوض مع ايران، والتشاور وعقد الصفقات مع الحلفاء في المجموعة العربية وإسرائيل.
في المقابل، ليس مضموناً ان طهران ستقدم تنازلات. وفي أي حال، هي لن تتنازل للفرنسيين لأنهم عاجزون عن تسديد الثمن لها. وفي ظل هذا "الكباش" قد يواصل لبنان انزلاقه نحو مزيد من الضياع لشهور إضافية.