بقلم سعيد غريب
يمضي اللبنانيون أيامهم والساعات بحثاً عن شيء مفقود، لا يعرفون ما هو ولا يشعرون به إلا بباطنهم ولاوعيهم...
هذا الشيء مرتبط بقوة وجودهم في الأساس وسحر انتشارهم منذ عقود طويلة، ومسلوخ من وجدانهم بفعل العوز والضيقة الاقتصادية.. خضعوا حيناً واستسلموا أحياناً لمشيئة كبار المال وأموال الكبار.
تخدروا بـ<الأركيلة> التي اجتاحت الساحات وبشاشات كانت تؤنس الليالي وتنير دربهم وعقولهم وتزرع فيهم الحكمة والطيبة والمعرفة بإطلالات ليلى رستم ورياض شرارة ومحمد شامل وفؤاد أفرام البستاني وإيلي صليبي وعادل مالك ونجيب حنكش ومي منسى، الى شاشات تسمّم لياليهم وتثير توازنهم بإطلالات صنعتها <الكونبينات> و<الكليكات> والتركيبات والبنطلونات الضيقة والأخطاء اللغوية والأدبية، ورفعها الى فوق جهل الفلاسفة وفلاسفة الجهل.
استسلموا لقياديين جدد وفنانين جدد وباتت المقارنة في غياهب المجهول. خضعوا للهواتف النقالة وتحوّلت العقول الباحثة عن المعرفة الى رؤوس محشوة بسخافات <الفايسبوك> و<التويتر> و<الواتس آب> بحيث أصبحت الرؤوس كلها منحنية أمام هذه الزجاجة ولم يعد هناك من رؤوس مرفوعة.
استسلموا لقيادات الإرث وتطورت الثقافة من توريث الشقيق والابن مع الاستقلال الى توريث الأصهرة مع الطائف.
نعم، إنه انحدار خلفته الحرب والظرف. نعم كان الإنتاج هدّاراً وكانت المنافسة تنتج رجالاً وأدمغة، والنساء ينجبن رجالاً، وقبل اثداء تثبّت بالسيليكون، كانت الصدور تدر حليباً صافياً.
نعم كانت البلاد قادرة على إنتاج سياسيين ومفكرين وكبار، آباؤهم غير معروفين.
نعم، فبيار الجميل المؤسس لم يكن والده معروفاً لدى العامة، ولا الاخوان رحباني ورثا فنّهما عن والدهما...
أين قدرتكم على إنتاج جديد، أي جديد؟ أين الديموقراطية التي ندّعي انها انطلقت من أرضنا وشواطئنا، ونمارسها بالوعي والاطّلاع؟!...
أقنعوا أولادكم بأن الوضع كان مختلفاً قبل أربعين عاماً، كان منتجاً وصانعاً. أقنعوهم بأن لبنان لم يعد يشبهنا. أقنعوهم بأن الوقوف على أطلال أمجاد لبنان يتطلب أرجلاً ثابتة على أرض صلبة، وإلا سهلوا لهم السفر الى بلد يحترم الإنسان والديموقراطية، ويعشق الحرية لا الفوضى، الموسيقى لا الأناشيد الحماسية، اللقمة النظيفة لا المغشوشة، الشهادة المبنية على عَرَق لا على قسط، وجوه تفتّ حب رمان لا مراهم ألوان، على نقل عام لا سيارات ترهن الجيوب، على كتاب يكون هو الرفيق لا كلاب تقلق الأحياء هرباً من وفاء الأصدقاء، على إعلام نظيف لا مؤسسات تجارية ناطقة، على بساطة في المشي والرياضة، لا على تنمير بالمشي والرياضة، على سيدات يتكلمن الفرنسية في باريس والعربية في لبنان لا العكس، على أحياء تحكي تاريخها ومبانٍ تحترم تاريخها وساحات كتب تاريخها شهداء، لا على أحياء هدمها تجار البناء وساحات تغيرت معالمها وأسماؤها وفقاً لمحاصصة من هنا، ورياء من هناك وسمسرة من هنالك...
عـــلى أشجـــار معمـــّرة تحكي قصصاً وحكايات من أيام الملوك والأباطرة، وعلى متاحف تحفظ الذاكرة وتترك بصمات لا تمحى، لا على حطّابين وحملة فؤوس تمحو معالم الطبيعة وآليات تقتلع صخوراً ولوحات طبيعية وتردم حضارة دفنتها العوامل الطبيعية تحت الأرض.
على دولة فيها كل مقومات الدولة، لا على دويلات يحكمها القباضايات والزعران، على دولة الحق لا على دويلات قوانين وضعها كل نافذ وفقاً لقوانينه...
على دولة فيها إنتاج وضخ أفكار، لا رجال ونساء يمضون أوقاتهم على الطرقات هرباً من الضجر أو غرقاً في قضايا الخيانة والطلاق وتحديد نسب الأولاد...
علموا أولادكم أن أجدادكم كانوا هم أيضاً يسهرون ويتسامرون ويمرحون، وكانت قلوبهم يغمرها الفرح، قولوا لهم ان القناعة كانت كنزاً، وان محطات البنزين كانت تكفي أصحابها قبل ان تغزوها <السوبرماركت>، وان الغداء كان يجمع العائلة الى الطاولة، وان السهر لم يكن فاقعاً ومن دون حدود، وان الفتاة كانت لا تنام إذا ناداها حبيبها من تحت النافذة!
قولوا لهم ان هدية العريس كانت تفرح من يختارها ويهديها ويتلقاها، فيما رقم الحساب على بطاقة الزفاف أفقدها رونقاً ولذة ومحا ذاكرة الداعين والمدعوين وألغى عبارة (Plaisir d’offrir) أي فرحة العطاء.
قولوا لأولادكم إنكم قادرون على إنتاج شارل مالك آخر وميشال شيحا جديد. إنكم تستطيعون إيصال من تريدون ممن تعتبرونهم منقذي لبنان الجدد.
يمكنكم مع وقفة تأمل إيجاد أعظم من رياض الصلح والأخوين رحباني ونصري شمس الدين ووديع الصافي وزكي ناصيف ومايكل دبغي وأحمد كامل الصباح، علموهم اننا ما لم نطلق ثورة روحية تربوية اجتماعية فكرية ثقافية <لن نبقى هنا مهما العالم قالوا>...
صحيح ان العالم تغيّر، ولكن الصحيح أيضاً أن العالم يدمّر نفسه بصورة منهجية. وإذا كانت القيادات السياسية غير جديرة بقيادة البلد، فعلى الإعلام ان يتجاوز مقولة إنه مرآة المجتمع، ويتحول الى رأس حربة في إعادة بناء البلد.