لم تكن المعطيات التي عادت بها ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان السيدة <سيغريد كاغ> من زيارتها لطهران قبل أسبوعين، العامل الوحيد الذي جعل الأوساط السياسية اللبنانية تطوي صفحة الاستحقاق الرئاسي الى حين، وتفتح صفحة الاستقرار الأمني والاقتصادي، فالرسائل التي توالى وصولها الى بيروت خلال الأيام القليلة الماضية عكست انطباعاً تشاؤمياً خلاصته ان فصل الصيف سيمر على لبنان من دون رئيس جديد للجمهورية لأسباب مختلفة ليس أقلها سلبية توصل المجتمع الدولي الى قناعة خلاصتها الأولوية في لبنان هي الاستقرار الأمني الذي يتولاه الجيش اللبناني في الداخل وعلى الحدود مع سوريا، والاستقرار الاقتصادي والمالي الذي يتولاه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بالتعاون مع المسؤولين عن القطاع المالي في البلاد. وطالما استمر الاستقرار من دون اهتزاز، فإن التعاطي مع الاستحقاق الرئاسي سيبقى <بارداً> ولن يؤدي الى نتيجة عملية في المدى المنظور.
وفي الوقت الذي كانت فيه السفيرة <كاغ> تروي لمضيفيها اللبنانيين بعض ما دار بينها وبين المسؤولين الإيرانيين خلال زيارتها لهم وفيه ان لا نتائج ايجابية للطروحات الداعية الى تدخل طهران مع حزب الله للمساهمة في إنجاز الاستحقاق الرئاسي، كانت مصادر دبلوماسية فرنسية تتحدث عن <تحذير أوروبي> للقيادات اللبنانية عموماً، والقيادات المارونية خصوصاً بعدم إضافة فرصة الاتفاق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية لأن منطقة الشرق الأوسط مقبلة على تطورات تفرض أن يكون الموقف اللبناني حيالها موحداً من خلال سلطة مركزية قوية بوحدتها وبتفاعل كل مؤسساتها الدستوية التي تعاني حالياً من التعطيل الذي يكاد يكون متعمداً. وتستذكر المصادر نفسها ان <التحذير الأوروبي> لم يكن <بنت ساعته>، إذ سبق لمسؤولين أوروبيين أن رددوا <نصائح> مماثلة قبل سنة لم تلق آذاناً صاغية، بدليل ان الشغور الرئاسي استمر ودخل سنته الثانية في وقت لا تزال فيه مواقف القيادات السياسية اللبنانية تزداد حدة وتصلباً. وتعتقد المصادر نفسها ان بقاء الوضع الرئاسي على ما هو عليه يزيد الأمر تعقيداً لاسيما وان التجاذب الدولي الذي برزت تداعياته في دول عدة، مرشح أن يستمر ويتزايد، فيما صراع المحاور الاقليمية لاسيما المحور السعودي ــ الإيراني ينعكس سلباً على الساحة اللبنانية بشكل واضح لا لبس فيه.
مخاوف من طروحات تعديل النظام
وتشير المصادر الديبلوماسية الى ان الرسائل التي وجهت الى القيادات اللبنانية تركز على ضرورة المحافظة على الاستقرار الأمني بالتزامن مع <حماية> المؤسسة الدستورية <الصامدة> حتى الآن، وهي حكومة الرئيس تمام سلام، مع ضرورة إعادة الحياة الى مجلس النواب لأن أي حل سياسي يمكن التوصل إليه في المستقبل يحتاج الى <حاضنة> دستورية هي السلطة التشريعية التي <تقونن> أي اتفاق سياسي يمكن أن ينتج عن تفاهم اللبنانيين، سواء تحقق هذا التفاهم طوعاً أو قسراً (كما حصل في مرحلة ما قبل مؤتمر الدوحة العام 2008)، أو من خلال ما يتردد عن <مؤتمر تأسيسي> يجري الإعداد له من قبل ساعين الى استغلال الوضع المأزوم في البلاد من أجل رسم صيغة سياسية جديدة للحكم في لبنان. وفيما تسارع المصارد نفسها الى تأكيد <احترام> المجتمع الدولي لإرادة اللبنانيين في تطوير نظام بلدهم أو تعديله أو غيرها من المفردات، تؤكد في المقابل ان قدرة اللبنانيين ستكون <محدودة> في المشاركة في أي تطوير لنظام بلدهم، إذا استمر الوهن في مؤسستي مجلس النواب ومجلس الوزراء، والفراغ في مؤسسة رئاسة الجمهورية. لذلك ــ تضيف المصادر نفسها ــ سعت باريس والفاتيكان الى اطلاق دينامية جديدة تؤدي الى انجاز الاستحقاق الرئاسي، لكن ردود الفعل اللبنانية على التحرك الفرنسي ــ الفاتيكاني المشترك لم تكن على المستوى المطلوب، ما جعل المخاوف من إبقاء موضوع الانتخابات الرئاسية مجمداً تتحول الى حقيقة قائمة مرشحة للاستمرار وقتاً غير قصير.
وفي هذا السياق، تلقت المراجع الدولية المهتمة بلبنان <بكثير من القلق> الطروحات التي تتوالى على الساحة اللبنانية حول مستقبل النظام السياسي اللبناني، في وقت يفترض أن تكون الأولوية فيه لانتخاب رئيس جديد للجمهورية يرعى بوجوده وبما يمثل أي عملية اصلاحية تلتقي مع رغبة اللبنانيين في تطوير نظامهم من دون المساس بالثوابت التي وردت في وثيقة الوفاق الوطني التي أقرت في مؤتمر الطائف. صحيح ــ تضيف المصادر المعنية ــ ان أي نظام لا يتطور سيعاني من السقوط يوماً ما، إلا ان الصحيح أيضاً ان الوضع في لبنان يختلف عن غيره من الدول بفعل <الفسيفاء> الطوائفية التي يتألف منها والتي تحتاج الى <رعاية> خاصة تستند الى <التوافق> لمنع تغليب فئة على أخرى، أو جعل مكوّن من المكونات اللبنانية الأساسية على هامش ما يجري مع ما يعني ذلك من تداعيات على أكثر من خط.
الموفد البابوي نصح بـ<لبننة> الخيارات
وتوقفت المصادر نفسها عند <حصيلة> زيارة الموفد البابوي الكاردينال <دومينيك مامبرتي> لبيروت واللقاءات التي عقدها والتي لم يتمكن خلالها من الحصول على التزامات تفضي الى تلاقي اللبنانيين بسرعة على انتاج تسوية تؤمن انتخاب رئيس جديد للجمهورية يرعى فور تسلمه مهامه الدستورية، حواراً جدياً تطرح فيه الأفكار التي تؤدي الى اصلاحات دستورية تعزز الشراكة الوطنية بين مكونات المجتمع اللبناني كافة. وعلى رغم ان الكاردينال <مامبرتي> سمع وعوداً كثيرة لكنها لم تكن <متينة> يمكن التأسيس عليها، علماً أن الموفد البابوي <نصح> بضرورة الإفادة من كون لبنان ينعم باستقرار نسبي يمكن من خلاله الانصراف الى التفاهم على تسوية تبدأ بانتخاب الرئيس العتيد، لأن لا مصلحة للبنانيين عموماً، وللمسيحيين خصوصاً من استمرار الشغور في السدة الرئاسية، وبلغ الوضوح في كلام <مامبرتي> حداً لفت فيه الى أن انشغال المجتمع الدولي بالحروب الدائرة حول لبنان يجب اعتباره من العوامل الايجابية لتكون لكلمة اللبنانيين الأولوية في تحديد مصير الاستحقاقات الداخلية، عوضاً عن تلقي <الاملاءات> الخارجية كما حصل خلال الأعوام الماضية، لأن بقاء لبنان ــ حتى الآن ــ خارج النار الملتهبة في دول الجوار، يسهّل على اللبنانيين التوافق في ما بينهم <على البارد>، بدلاً من أن يكون أي توافق <على نار حامية> إذ يخشى أن يؤدي أي حل في أجواء أمنية مضطربة، الى حصول غبن أو تغليب لمصلحة فريق أو مجموعة أفرقاء، على مصلحة المجموعات اللبنانية الأخرى، من هنا كان توصيف الموفد البابوي لرئيس يحمل الهواجس المسيحية ويعمل على تبديدها، لكنه في الوقت نفسه يطمئن المسلمين انطلاقاً من شراكة حقيقية وكاملة يعززها بالحوار <المطمئن> الذي يحفظ المصلحة الوطنية...
ونفت المصادر نفسها ان يكون الموفد البابوي أوصى بـ<رئيس توافقي> أو أعطى مواصفات تنطبق على مرشح محدد، لأن الفاتيكـــــان يدرك أن لكل توصيف أكثر من قراءة لدى القيادات اللبنانية، لاسيما توصــــيف <الرئيس التوافقي> الذي ينظر إليه فريق ما على عكس ما يعتبره الفريق الآخر، فالخلاف بين القيادات ــ وفق الموفد البابوي ــ يبدأ من العناوين الكبرى حتى يصـــــــــــل الى أصغر التفاصيل!
إلا ان أكثر ما أقلق القيادات اللبنانية، <النصيحة> الأوروبية بعدم الرهان على النتائج التي ستؤول إليها المفاوضات الأميركية ــ الإيرانية حول الملف النووي الإيراني، لأن مفاعيل هذه المفاوضات ستأخذ وقتاً لتصبح نافذة، علماً أن الوضع في لبنان لم يعد يحتمل المزيد من <تضييع الوقت>. وفي هذا السياق لا تجزم مصادر ديبلوماسية أوروبية بأن النتائج المرتبة على الاتفاق حول الملف النووي ستكون مباشرة على الوضع اللبناني أقله في المدى المنظور، وبالتالي فإن الانتظار قد لا يكون مجدياً!