تفاصيل الخبر

قُطَع غيار للجِمجمة

03/06/2020
قُطَع غيار للجِمجمة

قُطَع غيار للجِمجمة

بقلم كوزيت كرم الأندري

[caption id="attachment_78582" align="alignleft" width="231"] كوزيت كرم الأندري[/caption]

لا أريد أن أحلّل في السياسة والاقتصاد، ولا أن أغوص في مسألة أي ثمن ستدفع الولايات المتحدة الأميركية بعد حادثة "جورج فلويد"، وكيف سيتغيّر وجه العالم بعد وباء "كورونا".

كل ما أفكر فيه وأتمناه الآن، هو إيجاد لقاح مضاد للذاكرة قبل إيجاد لقاح للفيروس وآخر للعنصرية، وإلّا فما السبيل لنسيان كل تلك الصور المقيتة التي تُعشعش في الجمجمة، عبر الزمن، وتعكّر عليك مزاجك؟!

كيف ننسى نحيب الطفل الفلسطيني محمد الدرّة، الذي احتمى بأبيه وسط إطلاق وابل من النار في قطاع غزة، قبل أن يركد على ساقَي والده المرعوب بدوره؟ كيف! كيف ننسى مشهداً كهذا يخلع القلب؟

كيف ننسى صورة الطفل السوري الكردي آيلان، الذي قضى غرقا على شاطئ تركي خلال هروبه وأهله من جحيم الحرب في بلاده إلى اليونان، فصعقت صورته ممدّداً بمفرده على الشاطئ العالم؟ كيف نحرّر الذاكرة من قساوة هذا المشهد؟

كيف ننسى صورة الشاب التونسي طارق البوعزيزي، الذي أضرم النار في نفسه احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية لعربة كان يبيع عليها الخضار والفاكهة لكسب رزقه، وللتنديد بعدم قبول شكوى أراد تقديمها في حق شرطية صفعته أمام الملأ وقالت له "إرحل"؟!

وكيف ننسى صورة شبيهه اللبناني جورج زريق، ذلك الأب الذي أحرق نفسه يأساً وانكساراً... حتى الموت، بسبب عجزه أمام وضع معيشي مُهين؟؟

كيف؟ كيف ننسى صورة الشابة الفلسطينية إسراء غريب، التي تعرضت للتعذيب والضرب الذي أفضى إلى وفاتها على يد أقرب المقربين إليها، لنشرها صورة مع خطيبها قبل يوم من تاريخ زواجهما؟! وهل من الممكن نسيان هكذا عمل شنيع؟؟

سبعة أيام مرّت، أقفز خلالها فوق صورة لا أستطيع حتى لمحها لكثرة وحشيتها. صورة رجل عملاق، أب أميركي من أصل إفريقي ممدد تحت ركبة شرطي...

لا أريد الدخول في كليشيهات مفادها أن السود ليسوا كلهم مجرمين، والبيض ليسوا كلهم عنصريين، وإنما الجهل موجود في "كل الألوان".

ولن أذكّر بأن جزمة الشرطي الإسرائيلي ترزح بذلّها، يومياً، على أعناق الفلسطينيين.

ولن أتوقف عند كلام أحد "متنوّري" تحركنا الشعبي المحلي، حين قال: الأميركان خربوا الدني كرمال "عبد" أسود. مُلهم الثوار هذا، الذي يعدهم بمجتمع "متطوّر"، لا يزال يقبع في القرن الخامس عشر حيث ساد مصطلح العبودية.

كل ما أريده، الآن، هو إعادة برمجة الذاكرة لمحو صور تُثقلها بالبشاعة. وحين يأخذ الخالق أمانته ("انشاالله يسايرني وياخدا بكبسة زر من دون وجع وذلّ")، أتمنى أن أتقمّص في جسد إنسان يعيش في الأوروغواي، في زمن رئيس تقمصت فيه روح خوسيه موخيكا، أفقر رئيس دولة في العالم. هذا الرجل الوديع الذي رفض تسلّم راتب تقاعده، ورفض العيش في قصر رئاسي راضياً ببيته الريفي، بعدما اقترح على الحكومة استغلال جزء من القصر لإيواء المشردين. هذا "الشّبعان" الذي كان يتبرع بمعظم راتبه للجمعيات الخيرية ولا يحتفظ سوى بـ10 في المئة منه. هذا الشعبي البسيط الذي لم يمتلك سوى سيارة فولسفاغن من طراز 1987.

أود أن أتقمص في بلاد أخرى، ولربما في كوكب آخر، لا نلِد فيه للموت ولا نبني للخراب. والأهم الأهم، أن أتقمص في بلاد لا إنترنت فيها ولا وسائل تكاذب إجتماعي. في بلاد لا يذهلني فيها التطور العلمي ولا الصناعي ولا التكنولوجي. في بلاد لا تدهشني فيها، كما كتبت الرائعة غادة السمان، "سوى البساطة والفضاء الأزرق والأوكسيجين والناس الطيّبين والطعام المشوي على الفحم في الحقول وماء الينابيع خارج علب البلاستيك".

إلى أن تتحقق أمنيتي هذه، سيظل شكسبير على حق: "إني أنا وحدي، بنفسي، في الحياة المستوحشة".