تفاصيل الخبر

”قصر حنينة“ ايام عزه لم تنته بعد... سكنه ”داهش“ وكان الشاهد على أجمل الاحداث وأغربها!

11/01/2019
”قصر حنينة“ ايام عزه لم تنته بعد... سكنه ”داهش“ وكان الشاهد على أجمل الاحداث وأغربها!

”قصر حنينة“ ايام عزه لم تنته بعد... سكنه ”داهش“ وكان الشاهد على أجمل الاحداث وأغربها!

بقلم عبير انطون

تصميمها على الإنقاذ في الحجر والبشر يعود الى دفء تنعم به وتريد مشاركته ونشره. حينما تسمعها تتكلم عن قصور بيروت وبيوتها القديمة ومعالمها التراثية الجميلة تشعر وكأنها تدافع عن ملك يخصها في الصميم، يشكّل جزءا من جذورها وهويتها وحاضرها ومستقبلها. التراث ليس ترفا بالنسبة لها، ولا هو قيمة مضافة تأتي بعد اخرى. انه القيمة بذاتها، القيمة التي يفتش عنها ابن البلد او السائح اليه، ومن دونها لا نكهة لكل ما يراه. تمشي في الشوارع والازقة تفتش بالسراج عن جواهر بيروت المعمارية، تدخلها مع الترحيب او بالقوة، لتعيش فيها زمنا غير زمنها. يؤرقها ما تراه من هدم لهذه المعالم، فاذا بها، وبمناسبة ميلاد زوجها تعيش مايا ابراهيمشاه حلما حققته وتأمل ان يشكّل نموذجاً.

فما كان هذا الحلم وما هي حكايته؟ ما قصة <قصر حنينة> الذي دخلته بمشروعها <الأخوت>؟ كيف محت غبار السنوات السوداء عنه، وعند اية لحظات توقف الزمن فيه؟

في بيتها الانيق كما تفكيرها وطريقة استقبالها تخبر مايا القصة لـ<الافكار> ونسمع الحكاية:

- لست مهندسة ولا مرممة وخلفيتي الاكاديمية هي في الاقتصاد والتسويق، الا ان حماية التراث بالنسبة لي تشكل <هوسا>، واعتبر ان جيلنا جيل السبعينات هو الأكثر عذابا من كل الذين مروا بعمر هذا البلد، لان تاريخ لبنان يدمر امام اعيننا بعد أن شهدنا على وجود هذه التحف المعمارية التاريخية فيه ولا حول لنا ولا قوة تجاهها. بعد الحرب إضطلعت وزارة الثقافة بدور مهم في ملف الأبنية التراثية ولكنها لم تنجح فعلياً في حمايتها، ففي العام 1995 وفي أعقاب هدم العديد من المباني القديمة، أشرف وزير الثقافة حينها ميشال إده على مسح تقييمي كأساس لحماية المباني القديمة في محيط وسط بيروت. حاولت المديرية العامة للتنظيم المدني البناء على ذلك سنة 1997 باقتراح مجموعتين للحماية: أولاً المعالم أي المباني الفردية ذات الطابع المعماري المتميز، وثانياً مجموعات المباني التي تشكل نسيجاً عمرانياً متماسكاً، الا انه لم يتبع ذلك إجراءات ملموسة وعادت الفوضى. سوف تبكون لو تعرفون ما تبقى مما كان على لائحة التصنيف، والهدم أضحى شبه يومي للأسف. لا احد منا ينكر على المالكين حقوقهم المسلوبة في دولة فاشلة، ولهم الحق بالاستفادة مما يملكون، لكن يجب ايجاد طريقة لابقاء ممتلكاتهم بسحرها وتاريخها على ان يجري الاستثمار فيها والاستفادة منها في الوقت عينه... فهل يعقل ان نهد تراثنا ونمحو هويتنا فنصير شعبا من دون تاريخ ولا ذاكرة؟

تحت جنح الظلام!

 نعرف جميعا ان الكثيرين باتوا يدخلون هذه المعالم تحت جنح الظلام، تشرح مايا، يهدّون جزءا منها ويقولون ان عوامل الطبيعة فعلت فعلها تسهيلا لاستثمارات خاصة. فبفعل التطوير العقاري الذي يُشرّع له على حساب الأنظمة العامة والصالح المشترك، وفي ظل غياب رؤية تنموية شاملة للمدينة تحافظ على بيئتها العمرانية والطبيعية والاجتماعية، ان عدد هذه المواقع يتراجع، وما عاد يمكن الانتظار، والحل يجب أن يكون فوريا. التاريخ هو الأمر الوحيد الذي يعود بالسياح على لبنان، فقد تعلمنا من كل السنوات السابقة انهم، وبغير السهر والتسلية، يزوروننا للتعرف الى حضارتنا وتاريخنا. اين المواقع التراثية المذهلة التي عرفتها بيروت؟ اين طريق فخر الدين وغيرها الكثير؟ يبدو ان الجهات الرسمية غير متحمسة لإيجاد حل واصحاب هذه المعالم يائسون تجاهها نوعا ما. المبادرة الى <قصر حنينة> اتت من هذا المنطلق، من أهمية هذا القصر وحكايته بالذات.

فما هي حكاية <قصر حنينة> في شارع عبد القادر عند منطقة زقاق البلاط؟ (صُنف كمعلم وطني بموجب المرسوم رقم ٥٦ الصادر في ٩ حزيران ٢٠١٠، وقد نجحت الحملة الأهليّة للحفاظ على <دالية الروشة> و<جمعية أنقذوا تراث بيروت> في إدراجه مع <دالية الروشة> على قائمة المراقبة لعام ٢٠١٦ للصندوق العالمي للتراث والتي تتضمن ٥٠ موقعاً مهدداً في العالم تتمتع بأهمية ثقافية وأثرية كبرى على الصعيدين المحلّي والعالمي)، لماذا يعتبر كنزا تاريخيا؟ واي احداث شهدها وتصلح لان تكون فيلما وثائقيا بالطبع انما ايضا روائيا بامتياز للشخصيات والاحداث التي عصفت به؟

ميلاد بولادتين...

 

كنت افكر في مكان أثري احيي فيه عيد ميلاد زوجي كريستيان، تقول مايا، ووقع الاختيار على <قصر حنينة>. في الواقع، هو بيت كبير وليس قصرا بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، الا ان النقش بقلب الاسمنت الذي فيه وجمالية الزخرفات وفرادة موجوداته ترفعه طبعا الى هذا المصاف، وقد تم بناؤه ما بين 1860 و1870من قبل الامير الروسي <Constantine Podhorski> بعد ان كان حقلا من الصّبير. وهنا علامة استفهام كبيرة نحاول الاجابة عنها عبر ابحاث تمتد منذ سبعة أشهر حتى الآن لنعرف من خلالها كيف وصل هذا الأمير الى بلادنا، ما الذي أتى به الى زقاق البلاط تحديدا كواحد من أوائل الأحياء التي نشأت خارج جدران بيروت القديمة، وكانت حرب الجبل قائمة حينها. هناك احتمالات ثلاثة مختلفة، لا نملك يقين التأكيد على اي منها: اولا، ربما كانت فترة النهضة، وكان يطلق على بيروت اسم <المدينة الرائعة> <فيل بيتوريسك>، فلا نعرف ان كان اتى على متن الباخرة لانه شاهد صورا عنها في معرض في سان بطرسبرغ في روسيا، او لان هذه الفترة عرفت فورة من عرفوا بـ<الجواسيس -المثقفين>، فيما يرجح الاحتمال الثالث انه كان قنصلا لبلاده. قصدنا القنصلية الروسية فلم نجد عندهم الوثائق المطلوبة ووعدونا بالمزيد من البحث.

وأردفت قائلة:

 - للقصر ميزة فظيعة، تزيد مايا بحماسة، فقد شيّد على قناطر قديمة جدا يقال انها تعود للقرن الرابع عشر، واحدة منها فقط تبرز للنظر في الجانب الأيمن ضمن غرفة عقد صغيرة اما المتبقّية فهي تحت الأرض. مع الدخول الى الردهة، يستقبلك درجان كبيران على الطراز الباروكي. في هذا البيت الكبير ما من دلائل تشير الى العمارة العثمانية، ان من حيث هندسته الخارجية ولا حتى في ديكور الداخل او من حيث تقسيم الغرف. هو مستوحى أكثر من <قصر الحمراء>، وعمارة العصور الوسطى في مصر المملوكية، حيث تنتشر فيه تركيبة وفيرة من أشكال وتفاصيل الفن المغاربي الجديد <نيو موريسك>. شيّده <بودوفسكي> وكانت له عشيقة وهي امرأة متزوجة، وسافرا معا الى نيفادا في الولايات المتحدة في أوج فترة البحث عن الذهب فيها، وفي أحد المقاهي هناك حيث كان يستريح الحبيبان دخل زوج السيدة وقتل الرجل.

وتزيد مايا:

- للأسف، لا صك ملكية يعود للمالك الاول، وقد قمنا بقراءات وأبحاث كثيرة حوله.اما أبرز من كتبوا عن <قصر حنينة> فهي المؤرخة <ماي دافي> التي تناولت تفاصيله الرائعة، وقد شكل محور اطروحة الدكتوراه للسيد <رالف بودنشتاين>، كما صورت فيه السينمائية جوسلين صعب فيلمها الروائي الجميل <حياة معلقة>!

 

<داهش> في القصر...!

- بعد وفاة الأمير الروسي لم يهتم الورثة بالقصر وتم بيعه في بداية القرن العشرين الى يوسف مزهر <بهر> في العام 1907 تحديدا، وتألفت العائلة من خمس بنات وصبي، واحدة منهن تزوجت من الدكتور جوزيف حنينة الذي اشترى حصص الباقين في العام 1932 واطلق عليه اسم <قصر حنينة>، وكان قبل ذلك استأجره دكتور <جوستان كمليت> المسؤول عن العيادة الطبية لدى اليسوعية حتى غادره مع اندلاع الحرب العالمية الاولى، ليصبح من بعد ذلك مقرا للسفارة الهولندية (1917 - 1919) ومـــن ثــــم مقـــــر القنصليـــــة الاميركيـــــة في العـــــام (1936).

وتكمل ابراهيمشاه:

 - عاد الدكتور حنينة وزوجته ماري ليعيشا في القصر وقد حولته ماري في ما بعد مطعما اطلقت عليه اسم <او بوتيه باليه> ليقفل بعد موتها في العام 1970. اما في الفترة الفاصلة فقد سكنه جورج حداد وزوجته الكاتبة والفنانة ماري شيحا اخت المفكر ميشال شيحا في الطابق الثالث، فيما استأجر الطابق الثاني <داهش> (سليم موسى إلياس العشّي المولود في بيت - لحم)، الدكتور في الابحاث النفسية.

وتتوقف مايا عن الكلام برهة كأنها تستعيد لحظات استثنائية:

 - تدخلين الى هذا المكان فتشعرين بأن الجدران تتكلم. لم تنته قصة هذا القصر بعد. امر غريب أحسسته لما دخلته للمرة الأولى. زرت كل قصور بيروت المهجورة والمقفلة، بعضها بسهولة واخرى عنوة، ولم اشعر باي منها ما شعرت به في <قصر حنينة>. أتوقع له ايام عزّ سيعرفها بعد. فيه قصص تاريخية تجعلني اغضب لفكرة كيف ان قصرا عاش كل تلك الوقائع يمكن ان يهمل... كل الذين دخلوا اليه شعروا ليلة احتفال الميلاد بنبض مختلف.

ونعود الى قصة <داهش> في القصر، وهنا يروى بحسب ما نشرته مجلة <الافكار> (قسم التحقيقات في 24 كانون الاول/ ديسمبر من العام 2014) ان <داهش> اخبر قصة اضطهاده من قبل الرئيس بشارة الخوري حينها الى الصحافي داوود الصايغ في حزيران/ يونيو 1964 ونشرها في مجلة <الاسبوع العربي> كما يأتي: <تضايقت ماجدة (ابنة ماري حداد) كثيراً من محاولات الشيخ بشارة لمحاربتي، وعندما شاهدت أن والديها وصهرها قد أُدخلوا السجن بسبب اعتناقهم <الداهشية>، قررت الانتقام من الرئيس بشارة الخوري وفكرت في اغتياله. فأرسلتُ أقول لها، إنها إن فعلت ذلك فلن تكون <داهشية>، وإن الشيخ بشارة سيخرج من الحكم بصورة مذلة، غير أنّ توتّر أعصابها ومنعي لها حملاها على الانتحار وبالمسدس نفسه الذي كانت ستقتل به الشيخ بشارة>.

 وبالمناسبة، هناك عائلة كبيرة من اتباعه افتتحت في <فيفث افنيو> في نيويورك <متحف داهش للفلسفة والفنون> تعرض فيه كل مجموعته الشرقية ورسومات ماري حداد.

 وتستمر فصول القصر حتى نصل الى العام 1975. ومع اندلاع الحرب اللبنانية المشؤومة بدأ العد العكسي لأيام العز التي شهد عليها. تركته عائلة حنينة وسافرت، فقبع فيه لاجئون من الجنوب هربوا من نيران الحرب واستقروا فيه فأصبح اشبه بمخيم للاجئين. اقتسموه ما بين العائلات الثماني. وكان لدمار الحرب والصاروخ الذي ضرب احد جدرانه في العام 1981 فعله السيئ، فضلا عن عيش العائلات فيه وحاجتهم الى النار للتدفئة، ما جعل الدخان الأسود يخفي نقوشه المذهلة. ابوابه الخشبية المئوية الرائعة رُميت في الحديقة لترتفع بدلا عنها جدران الباطون لتحمي خصوصية العائلات التي <استوطنته>، ما جعله <بيتا بمنازل كثيرة>. بقيت هذه العائلات فيه مدة 15 عاما، أواها وحماهــــا من شـــــرور الحـــــرب والطبيعـــــة. تزوج فيه من تزوج وانجب من أنجب، الى ان اشتراه شخص من عائلة قبيسي باعه بدوره الى السيد سعد الدين الوزان وهو مالكه الحالي تشترك معه في الملكيــــة عائــــلة معربس وهم ورثة عائلة مزهر الكريمة.

قفازات عمال الحديد وأعواد القطن...!

 - استغرب السيد الوزان من المشروع <المجنون> في تأهيل القصر واحياء عيد الميلاد لزوجي فيه، الا انه كان داعما جدا. بثقة كبيرة، وكنت برفقة السيد معربس قال لي: <افعلي ما تشائين>! وكانت ايجابية المالكين تجاه ما أضمره الحافز الاكبر.

وأكملت قائلة:

 - تقض مضجعي قلة الاحترام لتاريخنا. انه واجب الذاكرة. واجب بالمعنى الحقيقي للكلمة وهذا ليس خيارا. اسمعهم يقولون: البشر قبل الحجر، برأيي على الاثنين ان يترافقا جنبا الى جنب. الطبيعة بقوانينها تعيد انتاج ما ذبل او مات، والاقتصاد يعود مزدهرا من جديد، اما التراث الشاهد على الحضارة والهوية والتاريخ فلا يعود إن طُمس.

 وتشرح مضيفة:

 - كان العنوان العريض: <قصر حنينة ذي ريفايفل>، اتفقنا أن نعيد النبض اليه لو مهما كلف الامر. تحدثت في الأمر مع زوجي حول المجهود والترميم طالبة دعمه المادي، ولم يتردد للحظة اذ اعتبرها هدية يقدمها لبيروت، فهو يعرف انني ومنذ اكثر من عشرين سنة احاول في هذا الاتجاه ولا اجد سبيلا لذلك... ربما باحيائه تفتح ابوابه للناس وللتلامذة بشكل خاص حتى يعرفوا قيمته ويتمسكوا بكل مبنى او موقع يحكي قصصا عن حقبات من مدينتهم الرائعة.

واستطردت قائلة:

- لبست قفازات عمال الحديد وجزمة الصيد، وبدأت. كنت سيدة لوحدي مع مجموعة من العمال. بنينا بعض الجدران من جديد وطلينا أخرى، وفي الأسقف نظفنا النقوش، وفي الصالة الاساسية المفتوحة على الشمال بقناطر ثلاث مسحنا بعيدان القطن وطوال شهرين الغبار المتراكم على السقف المذهل المزين بالرسوم الهندسية الملونة والمحفورة في المرايا لتعطي الانطباع بانها نجوم تلمع في السماء، فيما دعمنا سقف الغرفة المجاورة بما يفوق الألف والاربعمئة مسمار... اعدنا الابواب من الخشب القطراني المرمية طيلة اربعين عاما في الحديقة الى مكانها، وكذلك الاقفال والمفاتيح والبرادي واطارات الشبابيك واحجار النافورة التي تتوسط واحدا من الصالونات، حتى الأرض الرخامية نظفناها باليد حتى لا نعبث بها، اما الاحجار (الحجر الرملي) التي كانت تشكل القناطر فرصفناها بشكل يسهل اعادة وضعها من قبل الخبراء، ولناحية <الزجاجيات الملونة> (فيترو) وهي مكسرة فقد اعدناها مطبوعة على شكل صور كبيرة ولصقناها حتى يخيل للناس أنها الاصلية فيتصورون معها المكان قبلا. لم نجعله قصرا نظيفا يلمع بل حافظنا على روحيته، على سحره الشبحي الاسطوري، حتى أننا تركنا الكتابات التي خطّها اللاجئون على الحيطان من بينها مثلا: <منزل ابو خالد>.

الليلة المنتظرة...!

وفي الثالث والعشرين من كانون الاول/ يناير عيد ميلاد كريستيان، وبعد سبعة أشهر من المجهود المضني والابحاث المعمقة، كانت ليلة الاحتفال السحرية التي دعونا اليها ايضا بعضاً من ورثة القصر وبينهم من تقدم في العمر وتأثر جدا. ووسط استقبالي لمئتي مدعو سمعت اصوات بكاء. هرعت لأرى ما الذي يجري، فاذا باللاجئين الجنوبيين من قرب الشريط الحدودي الذين جعلوا من القصر مأواهم في الحرب حضروا ليروا ما حل به ليلة الحفلة. راحوا يجولون في ارجائه، يتذكرون ويروون حكاياتهم معه. هنا ولد بعضهم وهنا تزوج... وكم فرحت بأنني لم امح الاسماء التي تركوها على الجدران. لمست الى اية درجة كان ذلك ضروريا، وقفز الى بالي الجيل الجديد وضرورة ان يتعرف الى الزمن الجميل ايام بيروت وعزها، ويدرك في جانب آخر اهوال الحرب ومآسيها، فلا يتعلم شعب او فرد الا من اخطائه الماضية... محوها بشحطة قلم والمضي قدما والاتفاق بين المتخاصمين لا ينهيها.

وأضافت:

- أكثر ما لفتني تضيف مايا، ان المكان كله من حول القصر من محلات ودكاكين انتفع على مدى سبعة اشهر من حركتنا. يوم انتهينا، وبعد ان أقمنا الحفلة سألونا بحسرة: <خلص رايحين؟ ماذا نفعل الآن؟>، وكان سؤالهم جرس انذار كبير. ومن هنا ازدادت القناعة بضرورة احياء مثل هذه القصور والبيوت التاريخية لانعاش الحي بكامله من حولها. لسنا اكثر ذكاء من الاوروبيين. ما يفعلونه انهم يختارون في كل ضيعة او مدينة قصرا او معلما تاريخيا يحيي المنطقة كلها من حوله، اكان من سياح الخارج او الداخل. لماذا يُحتفل بكل اعراسنا الكبيرة في الموقع ذاته، وما أدراكم ما هي مواصفاته؟ تعالوا وعيشوا في هذا القصر افراحكم ومناسباتكم وأرجعوا أيام العز التي عرفها.

عونة الاصدقاء...!

تصر مايا اعطاء كل ذي حق حقه، ففي المشروع لم تكن لوحدها وتجسدت معها عبارة <عونة اخوان>، التي ذكرها الفنان زكي ناصيف في أغنية <راجع يتعمر لبنان...>!

 هم اصدقاء العمر، تقول عنهم وتشرح:

- كميل طرزي، حفيد ديمتري طرزي مؤسس  <لا ميزون طرزي> وهم يشتغلون في النحت والنقش في الخشب والنحاس في القصور والبيوت الفاخرة من بيروت الى دمشق وحلب والاردن وصولا الى المغرب حتى، جده ديمتري كان من صمم اثاث <قصر حنينة> اثناء بنائه، وقد مدوا الحفلة بقطع أثاث مطابقة لما التقطه من صور لداخل القصر <تانكريد دوما> في العام 1885، بما في ذلك اثنتان اصليتان كانتا فعلا فيه واعيدتا الى مكانهما، ما أضفى على الضيوف الشعور بأنهم في العام 1880، خاصة مع الستائر الحمراء الفاخرة التي تعيد اجواء ليالي الشرق الساحرة، وكانت لكميل بصمته في الابحاث والتواريخ والأمور التقنية. كذلك تعاونا مع غابي ضاهر، وهو من اكبر جامعي الفنون الشرقية ومؤسس المجموعات الخاصة لاسماء معروفة، والذي القّبه بـ«ذاكرة لبنان الحية> اذا انه يعرف في كل شارع اي لوحات يمتلكها اي بيت. وطبعا الصديقة لينا عز الدين التي تملك شركة اعلانات خاصة بها وتعدّ حاليا كتابا عن تاريخ اسماء شوارع بيروت، ولقد وقفت لينا في <قصر حنينة> وتطلعت الى المناظر التي يطل عليها، وطبعت من خلال صور أخذت من تلك الحقبة ما كانت عليه منطقة المصيطبة من جهة ومنطقة المدوّر من الجهة الأخرى، فوضعناها داخل القناطر والشبابيك وأدرنا الستائر بطريقة جعلت

المدعوين لما يدخلون القصر يركبون قطار الزمن العائد بهم الى العام 1860. كان الامر أشبه بحلم من احلام الف ليلة وليلة.

السؤال الآن: ماذا بعد؟ نسأل مايا فتجيب:

- ستكون لنا جلسة مع المالكين علّ ابواب القصر تفتح للمناسبات الكبيرة. وابرز ما يهمني الاشارة اليه انه ليس لي شخصياً اي هدف تجاري او استثماري على الاطلاق من جراء ما قمت به، فكل همي الاضاءة على كنوزنا الخابية، والتي من خلالها ادعو الشركات الكبرى من مصارف او شركات تأمين او غيرها الى احياء حفلاتها في امكنة مماثلة فتعيدها الى الحياة وتنعش ما حولها وبهذا الشكل ننقذها من الهدم او النسيان ونستفيد من وجودها. قمت بشبه احصاء حول القصور او الفلل او البيوت التاريخية في بيروت، ما بين الاشرفية وزقاق البلاط والرميل والجعيتاوي وغيرها، فوجدت ان عددها يقارب المئة والعشرين مبنية في غالبيتها بشكل مغلق على نفسها او كما يقال بالفرنسية <وي كلو>. هنا خلفي في الاشرفية قصر زهري اللون (غير <البيت الزهر> في راس بيروت والذي لطالما قلت لوالدي ونحن جيرانه بأنني سأسكن فيه يوما) وهو رائع ولا يعرف عنه شيئا، انها كنوز مخبأة، وهو ليس يتيما، فكل ما حول القصر من نباتات وبشر وحجر يشكل جزءا من صورته الكاملة. هدفي ان نحييها قصرا قصرا وشارعا شارعا ونحافظ عليها. القانون الذي وضعه وزير الثقافة السابق طارق متري ممتاز، واذا احتاج الى بعض التطوير فليكن، ولكن لماذا يقبعونه في الجوارير؟

 ويمكن الاشارة هنا الى بيت السيدة فيروز في منطقة زقاق البلاط عينها التي وعدت البلدية بتحويله الى متحف يحمل اسمها.

ولما نسألها ان تختار واحدا للعمل عليه بعد <حنينة>، تجيبنا مايا بانه قصر تقي الدين الصلح الجوهرة الرائعة في منطقة القنطاري، والذي تختصره بكلمة <مذهل> من دون ان تغفل انه حلم صعب التحقيق!

<بيت البركة>!

 

الى الحفاظ على بيروت وتراثها، تحمل مايا هما آخر تعمل عليه حاليا بشغف لا يقل عن ترميمها للذاكرة. فنفخ الروح فيها، تنفخها ايضا في اجساد وأرواح انهكها العمر والحظ العاثر لكبار السن الذين يفنون حياتهم في بلد لم يقر ضمان الشيخوخة بعد، حتى تبقى لكل انسان كرامته. عن <بيت البركة> اسم الجمعية التي أسستها العام 2017 تقول مايا:

 - هي الآن طابق تخزن فيه الاطعمة وتوزع يوميا على 289 عائلة لبنانية بلغ اعضاؤها سن التقاعد وما عاد راتبهم يكفيهم للمسكن او المأكل. العدد كبير وهم من عائلات معروفة عاكسها القدر، والعديدون منهم، ومع بلوغهم سن التقاعد في عملهم، اضطرهم اصحاب الملك الى ترك بيوتهم ليؤجروا مكانهم من هم أكثر اقتدارا ماديا، على الاخص مع موجة النازحين التي أغرقت البلد. الطبقة الوسطى من اللبنانيين ضربت. هؤلاء باتوا او يسكنون او يأكلون. وعبر فريق من المتطوعين و<الاخت ريتا> احدى الراهبات الرائعات التي لا تميز انسانا عن آخر، بدأنا نتعرف على اوضاعهم الصعبة ونساعدهم في بيروت وفي نطاق برج حمود وكرم الزيتون والجعيتاوي والرميل والدورة... وغيرها. نعمل حاليا على ايجاد المكان المناسب لـ<بيت البركة> الدائم، على ان يضم متجرا كبيرا يتم الشراء فيه عبر قسائم نقدمها الى من يحتاجها فيختار بحسب رغبته ما يريــــده لاسبــــوع بكامله من مواد غذائية أولية ومواد تنظيف، مع طابق للادوية وآخر لاطباء في اختصاصات مختلفة، فضلا عن تأهيل طابقين لايواء الحــــالات الطارئــــة. أملنا ان نساعد كل متقاعد محتاج على مدى لبنان، عمل بشرف وسلبت منــــه الدولــــة شرف التمتــــع بحيــــاة كريمــــة يستحقهـــا في نهاية حياتـــه... والكثـــيرون منهـــم تأبى عليهم كرامتهم اية مساعدة، فنضطر ان نترك لهم ما يحتاجون امام المدخل. باختصار رؤيتنا ان نكون من الراعين والحامين لكرامة المواطن اللبناني المسن وان نضمن خصوصيته وكامل احترامه!