بقلم صبحي منذر ياغي
يحتفل العالم في الثالث من أيار/ مايو من كل عام باليوم العالمي لحرية الصحافة، ويحتفل لبنان في السادس من أيار/ مايو بعيد شهداء الصحافة الذين قدموا حياتهم دفاعاً عن الحقيقة، فيما تحمّل الآخرون غياهب المنفى وظلام السجون، فهل هناك ما هو أهمّ من حرية الصحافة وتعزيز الأقلام الحرة؟
فالاغتيالات والاعتقالات والمضايقات تعرّض لها الصحافيون في دوَل العالم كلها، وكان للبنان الحصة الاكبر في هذه المضايقات والاعتقالات والاغتيالات.
في اليوم العالمي لحرية الصحافة، تنظم الاحتفالات وتدعو المنظمات الدولية والجمعيات الأهلية ووسائل الإعلام الى تعزيز وضع الصحافة وحماية الصحافيين والتشديد على مبدأ عدم الإفلات من العقاب من اجل الارتقاء بالمجتمعات على أمل أن تجد هذه الصرخات آذاناً صاغية ويعاقب المجرمون أينما كانوا.
مشروع شهداء..
اختلفت الحقب وتنوعت المراحل في لبنان، فكان لكل حقبة شهداؤها من رجال الصحافة والإعلام ممن كانوا منذ بدء انخراطهم في مهنة المتاعب مشروع شهداء، ما دام الهاجس الدائم الذي كان يقلقهم هو حرية الوطن واستقلاله والحفاظ على سيادته وأرضه والدفاع عن مصالح شعبه وحقه في العيش الكريم، كأن على الصحافيين واجب تقديم أجسادهم قرابين على مذبح الوطن ومذبح الحرية، وكأن الوطن لا ينتصر ولا تكون له قيامة إلا اذا اختلط مداد الحرية بدم التضحية. فكانت قوافل من الشهداء الصحافيين منذ حكم جمال باشا السفاح، مروراً بكل الفترات والازمات التي مر بها لبنان وصولاً الى هذا الزمن الرديء الذي سقط فيه الصحافيون ضحية مواقفهم المطالبة بالحرية والسيادة والاستقلال.
ويعتبر كثيرون ان الصحافة اللبنانية، وما تتمتع به من حرية في التعبير في إطار نظام ديموقراطي برلماني يختلف عن طبيعة الأنظمة العربية التوتاليتارية والديكتاتورية، شكّلت عامل قلق وإزعاج لهذه الأنظمة في معظم الحقبات وخصوصاً في سوريا منذ حكم شكري القوتلي، مروراً بحسني الزعيم وأديب الشيشكلي ونظام الوحدة السورية - المصرية حتى حكم البعث..
علاقة مرة مع الأنظمة السورية
لم يتوانَ حكّام سوريا الذين توالوا على حكم سوريا عن إبداء انزعاجهم وقلقهم من الإعلام والصحافة في لبنان. فكم من مرة قام الرئيس السوري الاسبق حسني الزعيم بإرسال رئيس وزرائه محسن البرازي الى لبنان لمطالبة الرئيس بشارة الخوري ورئيس الوزراء رياض الصلح بضرورة لجم الصحافة في لبنان والتضييق على حريتها... ويؤكد النائب الدكتور فريد الخازن ان من أسباب إقفال الحدود السورية - اللبنانية عام 1973، في عهد الرئيس سليمان فرنجية الاستياء السوري من الصحافة اللبنانية الى جانب أسباب أخرى.
السراج واغتيال المتني
ومن الاعتداءات البارزة على الصحافة في لبنان عملية اغتيال الصحافي نسيب المتني صاحب جريدة <التلغراف> يوم 27 ايار/ مايو 1958. وكان الصحافي المتني من أشد المعارضين لحكم الرئيس كميل شمعون، وكانت عملية اغتياله بمنزلة الشرارة الاولى التي أطلقت ثورة 1958. واذا كان أركان المعارضة قد سارعوا الى اتهام المكتب الثاني في لبنان بالوقوف وراء عملية الاغتيال، فإن ثمة اصواتاً أخرى وجّهت أصابع الاتهام الى الاستخبارات السورية (أيام الوحدة السورية - المصرية) برئاسة العقيد عبد الحميد السراج.
وكان الصحافي السوري نهاد الغادري قد قال انه عندما قرر النظام الوحدوي عام 1958 القيام بثورة ضد الرئيس كميل شمعون، حصل اجتماع بين السفير المصري في بيروت اللواء عبد الحميد غالب، ورئيس الشعبة الثانية في الاقليم الشمالي (سوريا) عبد الحميد السراج، وتم البحث في قيام الثورة، فكان اقتراح اغتيال المفتي، فقام المسلمون ضد كميل شمعون. وكان اقتراح السراج اغتيال ماروني معارض لشمعون، فيتفرق الموارنة من حول شمعون، واذا لم تنجح الخطة يصار الى اغتيال المفتي. وبالفعل جيء بثلاثة رجال اغتالوا الصحافي الماروني نسيب المتني وهربوا الى سوريا واندلعت الثورة على الاثر.
اما غسان زكريا (عديل السراج) فذكر كيف أنشأ رئيس الاستخبارات السورية عبد الحميد السراج مكتباً خاصاً للشؤون اللبنانية، وأوكل أمره الى الضابط السوري برهان أدهم، وكيف كان لهذا المكتب دوره الاول في كثير من أعمال الاغتيال والقتل والتفجيرات في لبنان، عبر عملائه والمتعاونين معه.. كاغتيال الصحافي نسيب المتني 1958 ورئيس تحرير جريدة <الحياة> كامل مروة..
وتستمر الاغتيالات..
وتواصلت سلسلة اغتيالات الصحافيين في لبنان. ففي الخامس من أيار/ مايو 1966، اغتيل مؤسس وناشر جريدة <الحياة> كامل مروة في مكتبه برصاص مسدس كاتم للصوت. وأكد الصحافي غسان زكريا ان اغتيال مروة على أيدي إبراهيم قليلات وعدنان سلطاني كان بناء لأوامر صادرة من عبد الحميد السراج، وبإشراف السفير المصري في لبنان عبد الحميد غالب.
ولدى عائلة الشهيد مروة كما أكد الزميل مالك مروة خلال دردشة معه ملف مفصل عن الجهة التي خططت واغتالت كامل مروة والاسباب التي كانت وراء عملية اغتياله.
ويرى الكاتب باسم البكور ان مروة لم ينجذب الى الأفكار الثورية والاشتراكية التي سادت خلال الخمسينات والستينات من القرن المنصرم في عدد من الدول العربية، بل عارضها بشدة عبر افتتاحياته التي كان يتابعها صانعو القرار في الوطن العربي بانتظام.
وبعد عشرين عاماً من نضال صحافي على صفحات «الحياة»، اغتيل مروّة والقلم في يده، كاتباً افتتاحية السابع عشر من أيار/ مايو 1966 والتي لم تكتمل. فصدر عدد ذلك اليوم من «الحياة» وعلى صفحتها الأولى خبر وحيد وحزين :«اغتيال كامل مروّة في مكتبه>.
غسان تويني صديق السجن
الاعتداء على الصحافيين اللبنانيين تنوع في اشكاله، فمن الاغتيال والترهيب الى الخطف والسجن. ولأن جريدة <النهار> كانت منبراً للحريات والحصن المدافع عنها، فقد أدخل عميدها غسان تويني السجن مرات عدة بسبب مواقفه ومناصرته الحرية ودفاعه عن القضايا الوطنية. فأول ملاحقة له كانت في شباط/ فبراير 1948 بسبب نشره في <النهار> “صورة لضباط لبنانيين واسرائيليين في سيارة واحدة أثناء مفاوضات الهدنة. كذلك اعتقل تويني بعدما أقدمت السلطات اللبنانية على إعدام زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة في الثامن من تموز/ يوليو 1949، بسبب المقال الشهير الذي كتبه تويني دفاعاً عن سعادة بعنوان <سعادة المجرم الشهيد>، فاعتقل مع شقيقه وليد وقضى في السجن مدة شهرين كاملين. وتوالت التوقيفات لغسان تويني الذي وصف السجن بـ<الصديق> و<كأن ألفة نشأت بيننا>.. وفي 4 كانون الاول/ ديسمبر من العام 1973، أوقف غسان تويني من النيابة العسكرية بتهمة إفشاء أسرار الدولة وتهديد أمنها وعلاقاتها، بموجب المادة 288 من قانون العقوبات لنشره في <النهار> المقررات السرية لمؤتمر القمة العربية.
إرهاب بوجوه عدة
تعرّض عدد كبير من صحافيي لبنان لتوقيفات وأحكام قضائية، نتيجة مواقف وآراء تضمنتها مقالاتهم وصحفهم. وفي 4/7/1974، اختطف المدير المسؤول في جريدة <النهار> الصحافي ميشال ابو جودة على أيدي مجموعة فلسطينية تنتمي الى منظمة <الصاعقة>. واعتبر وليد عون (ابن شقيقة أبو جودة ومرافقه الدائم) ان خاله ميشال أبو جودة كان الضحية الاولى للنظام السوري، وكانت أول عملية خطف يشهدها لبنان. وكان مسلحون قد اعترضوا سيارة أبو جودة امام مدرسة <الكوليج بروتستانت> في منطقة قريطم، وعندما حاولوا نقله الى سيارتهم اعترضهم أبو جودة، فأطلقوا النار على يده الممسكة بباب السيارة ثم وضعوه في سيارتهم ولاذوا بالفرار. وبعد أيام على اختطافه، وبعد تدخلات من الزعيم كمال جنبلاط وياسر عرفات والرئيس سليمان فرنجيه وعدد من الشخصيات والرؤساء العرب، أطلق سراح أبو جودة ونقل الى مستشفى <أبو جودة> في منطقة جل الديب حيث عولج من آثار التعذيب.
سليم اللوزي.. شهيداً
في شباط/ فبراير من العام 1980، عاد الصحافي سليم اللوزي (صاحب مجلة <الحوادث>) الى لبنان للمشاركة في مأتم والدته، وفي 4 آذار/ مارس عام 1980 وبينما كان متوجهاً الى المطار مع زوجته أمية وسائقه، اختطفه حاجز طيار في منطقة الاوزاعي.
وروت أمية اللوزي مأساتها الحزينة ووقائع لحظات الخطف، فقالت: <اتجهنا إلى المطار في سيارتنا وجلست بجانب سليم في المقعد الخلفي، وكانت تصحبنا سيارة مدير الإعلانات في شركة <بيجو>. وعلى جانبي الطريق إلى مطار بيروت كانت تنتشر قوات الردع. وعند الحاجز الرئيسي أوقفتنا مجموعة مؤلفة من ضابط وثلاثة جنود وصوّبوا أسلحتهم نحونا وطلب الضابط جوازات السفر، فقال سليم: أعتقد انني المطلوب! أمرنا الضابط (السوري) بالنزول من السيارة وأمر شقيقتي <أم وليد> المرافقة بالعودة في سيارة مدير الإعلانات... وبقيت مع سليم في عرض الطريق، حتى جاءت سيارة أخرى وداخلها شخصان مسلحان وسائق، وأخذوني معهم وأعطاني الضابط جوازات السفر، بينما أخذوا سليم في سيارته بمفرده، بعدما أنزلوا السائق والحارس الخاص، ولاحظت ان السيارة الأخرى مزودة بجهاز لاسلكي ويبدو انها من سيارات المخابرات. وانطلقت السيارة التي تحمل سليم وسيارتنا تتبعها وفيها المسلحون واتجهنا إلى طريق خلدة والدامور ولم تغب عني سيارة سليم <المرسيدس>، وأيقنت انها عملية اختطاف من جانب المخابرات قبل وصولنا إلى مطار بيروت.
وعندما وصلنا إلى الدامور طلب الحارس إيقاف السيارة لشراء علبة سجائر، ولم أتصور انها خدعة للتعطيل.. وعندما عاد بعد فترة كانت سيارة سليم قد اختفت تماماً عن أنظارنا ولم أعرف اتجاهها! واتجهنا إلى طريق عرمون وكانت حقيبة أوراق سليم ما زالت معي، وتوقفنا عند الوادي وأنزلوني في منطقة منعزلة مليئة بالصخور والبرك الراكدة، وخطفوا الحقيبة وفتشوا أوراقها وسألوني: <أين الملف؟> وجردوني من مصوغاتي وحقيبة يدي وكنت أرتدي جاكيت من الفراء ووضعوا رباطاً على عيني وفي يدي، وبقيت هناك ست ساعات حتى المساء، وتخلصت من قيودي ومشيت بلا حذاء وسط الأحراش حتى وصلت الى طريق عرمون، وكنت قد أخفيت الملف تحت الجاكيت وأوقفت سيارة تاكسي متجهة من الجبل إلى بيروت وجلست بين الركاب وسمعت في الراديو: ان الصحافي سليم اللوزي ما زال مخطوفاً!>.
وبعد أيام، عثر أحد رعاة الماعز على جثة ملقاة في أحراج عرمون، فسارع الى إبلاغ مخفر الدرك في عرمون ليتبين أن الجثة عائدة للصحافي سليم اللوزي، وقد أذيبت يده اليمنى بمادة <الأسيد>، كرسالة تهديد لكل الصحافيين الاحرار. واتهم الفلسطيني محمد حسن اليتيم (أبو القاهر) بجريمة قتل اللوزي، وأصدرت محكمة جنايات جبل لبنان حكمها عليه في العام 1985.
وكان الشهيد اللوزي قد ختم في احدى المرات أحد مقالاته بقوله: <وغداً إذا ما اغتالتني المخابرات العسكرية (السورية) أكون قد استحققت هذا المصير لأنني أحب بلدي وأخلص لمهنتي>.
.. ورياض طه
ويوم 23 تموز/ يوليو 1980، وبعد أربعة اشهر تقريباً على اغتيال سليم اللوزي، عادت أيدي الشر والإجرام لتنال من نقيب الصحافة اللبنانية رياض طه،عندما اعترض سيارته مسلحون يستقلّون ثلاث سيارات في منطقة الروشة في بيروت، وأطلقوا النار عليه وفرّوا الى جهة مجهولة. وأدت العملية الى مقتل طه مع مرافقه سهيل خضر الساحلي، واتهم كل من خليل عباس الموسوي وعبد الإله محمد الموسوي في هذه الجريمة. وأرجئت المحاكمة في هذه القضية الى أجل غير مسمّى رهن أمرين: استسلام المحكوم عليهما، أو القبض عليهما لمحاكمتهما وجاهياً قبل سقوط العقوبة بمرور الزمن.
واعتبر جهاد طه (نجل رياض طه): <.. ان اغتيال رياض طه في وضح النهار رمياً بالرصاص كان المطلوب منه القضاء على الرجال الشرفاء الذين يريدون وحدة الوطن واستقراره>.
وفي 9 تموز/ يوليو 1985، سقط سمير عاصم سلام رئيس تحرير مجلة <الفهرس> مع زوجته وولديه قتلاً في منزلهم في رأس بيروت.
وخلال الحوادث اللبنانية، تعرّض عدد من الصحافيين اللبنانيين للخطف ومحاولات الاغتيال، كمحاولة اغتيال صاحب جريدة <السفير> الزميل طلال سلمان وصاحب مجلة <الشراع> الزميل حسن صبرا. وتعرّض صحافيون أجانب في لبنان للخطف كمراسل صحيفة <شتيرن> الالمانية <كارل روبير ليفر>، عند منطقة المنارة في بيروت. وفي نهاية الثمانينات، اختطف الصحافي البريطاني <جون مكارثي> الذي عاد الى لبنان ليشارك في إنتاج افلام وثائقية حول مواضيع منوعة بالتعاون مع الزميلة تيما خليل وعدد من الإعلاميين، وهو أكد خلال حديث معه ان لبنان يظلّ بلد الحريات وبلد الديموقراطية، وان الحوادث الدراماتيكية التي يتعرّض لها ما هي إلا محاولات لضرب هذه الحرية المشعة من لبنان نحو الدول المحيطة به. وتعرض الصحافي البريطاني <جون مكارثي> للخطف على ايدي عناصر تنظيم أصولي في الثمانينات وعاد الى لبنان عام 1996 لإعداد فيلم عن الشيعة في لبنان، مؤكداً خلال دردشة معه: <.. رغم كل ما تعرضت له، فإنني أدرك ان لبنان يظل بلد الحريات ويظل بلد الكلمة والفكر وأنا أحب لبنان وأحب شعبه..>!
بعد <ثورة الأرز>
وخلال فترة الوصاية، عانى عدد من الصحافيين من الضغوط والاعتداءات التي طالتهم بسبب وقوفهم الى جانب حقوق الانسان والدفاع عن الحريات وسيادة البلد، والدعوة الى رفع الهيمنة والوصاية عنه. وبعد خروج القوات السورية من لبنان يوم 26 نيسان/ أبريل 2005، تنفس الجميع الصعداء وبدأوا يشعرون بنسائم الحرية. إلا ان اغتيال الصحافي في جريدة <النهار> الزميل سمير قصير صباح يوم الخميس 2 حزيران/ يونيو 2005 بتفجير عبوة ناسفة زرعت تحت أسفل سيارته أحدث صدمة وردة فعل لدى الاوساط المحلية والعالمية، واعتبر اغتياله بمنزلة انتقام من أبرز محرّكي ثورة الرابع عشر من آذار. وعادت أيدي الشر من جديد لتحاول اغتيال الإعلامية الزميلة مي شدياق عصر يوم الاحد في 25 أيلول/ سبتمبر 2005.
جبران تويني: شهيد القسم
ومرّ وقت طويل على محاولة اغتيال الزميلة مي شدياق، حتى اعتقد بعضهم ان مسلسل الاغتيالات قد توقف، الى ان عاد النائب الشهيد جبران تويني الى لبنان ليكون قريباً من شعبه وأهله في معركتهم من اجل الحريات والسيادة والديموقراطية، إلا ان الجبناء الذين خافوا وارتعدوا من مواقف الشهيد ومن كتاباته وثورته كانوا يتربصون به ويراقبون تحركاته. ثم كان يوم 12 كانون الاول/ ديسمبر المشؤوم عندما فجّر الجناة سيارة مفخخة في منطقة المكلس الصناعية لحظة مرور الشهيد بسيارته مع مرافقيه اندريه مراد ونقولا فلوطي، ما أدى الى استشهاده مع مرافقيه.