كل الأنظار شاخصة إلى أوروبا في الثلاثة أسابيع الأخيرة من هذه السنة. ليس فقط لأن إقتصاد الإتحاد الأوروبي يمر بمرحلة إقتصادية معقدة فحسب بل لأن سياسة التقشف التي فرضتها ألمانيا على الدول الأوروبية المتعثرة لم تحقق النمو الإقتصادي المرجو وأدخلت معظم هذه الدول في حلقة مفرغة من الديون أصبح من شبه المستحيل الخروج منها. المشهد الإقتصادي الأوروبي مثلث الأضلاع:
1 ــ الجميع ينتظر اجراءات البنك المركزي الأوروبي في التحفيز الكمي (Quantitative Easing) أي ضخ العملة الأوروبية في السوق عن طريق شراء السندات وطبع المزيد من اليورو. مجموع سندات الدين الحكومية الأوروبية أي كل ديون الإتحاد الأوروبي تناهز ٩ آلاف مليار يورو. وحجم برنامج البنك المركزي الأوروبي يمكن أن يصل إلى ٥٠٠ مليار يورو فقط. ألمانيا تعارض التمادي في هذا البرنامج أكثر من ذلك لأنه ولو أدى إلى زيادة النمو سيؤدي أيضاً إلى زيادة الديون تماماً كما حصل مع الولايات المتحدة التي طبقته في عام ٢٠٠٨ وبريطانيا التي اعتمدته في ٢٠٠٩. بينما مؤيدو البرنامج يقولون ان المطلوب هو ٢٠٠٠ مليار يورو حتى تتحقق النتائج الإقتصادية المرجوة أي النمو وتراجع مستوى البطالة. مجرد البدء في البرنامج يعني تهاوي الفوائد على اليورو إلى الصفر لا بل إلى السلب إذ ان مردود السندات سيهبط. كما أن العملة الأوروبية ستنخفض أكثر وأكثر خاصة إذا تبين أن حجم البرنامج أكثر من ٥٠٠ مليار يورو.
2 ــ الحدث الثاني هو أوكرانيا. ليس فقط بسبب الأحداث فيها وعدم الاتفاق مع روسيا على أي تفاهم عملي حتى اليوم بل لأن الحكومة الأوكرانية بحاجة ماسة الى ١٥ مليار يورو حتى تفي بالتزاماتها الداخلية مع العلم أن <اهداءها> هذا المبلغ من الإتحاد الأوروبي سيكون له مفعول قصير المدى في ظل حالة عدم الاستقرار والانكماش الإقتصادي التي تمر بها البلاد. السؤال هو: هل يرمي الإتحاد الأوروبي ١٥ مليار يورو في أوكرانيا لشراء الوقت، فيدخل في حرب الاستنزاف المالي والاقتصادي في أوكرانيا التي استعد لها <فلاديمير بوتين>؟
3 ــ المشهد الثالث والذي أصبح الأهم هو في اليونان. رئيس الوزراء <أنطونيو سماراس> دعا إلى إنتخابات رئاسية مبكرة هذا الشهر مغامراً بذلك بحكومته. وهو إذا لم يستطع تأمين ١٨٠ مقعداً في البرلمان خلال الدورة الثالثة في ٢٩ كانون الأول (ديسمبر) الحالي فإن البلاد ستدخل في انتخابات عامة يمكن أن ينفذ منها إلى السلطة الحزب اليساري ذو الشعبية المتنامية <سيريزا> الذي يعارض معظم الاتفاقات المالية التي عقدتها اليونان مع الإتحاد الأوروبي وحصلت من خلالها على ٢٤٥ مليار يورو من الديون مقابل الالتزام بسياسة تقشف قاسية. حجم الدين العام في اليونان وصل إلى ١٧٤ بالمئة من حجم الناتج المحلي وفي حالة فشل <سماراس> في العودة إلى السلطة ستكون اليونان في حاجة إلى مزيد من الدعم المالي الأوروبي. حالة اليونان وما سيحصل فيها هذا الشهر ستنعكس على دول أوروبية أخرى كالبرتغال وإيطاليا وحتى إسبانيا حيث يتذمر الجميع من الاجراءات التقشفية التي فرضها عليهم الإتحاد الأوروبي مقابل مدّهم بالديون.
تعليل انخفاض أسعار النفط لا حدود له هذه الأيام سياسياً وإقتصادياً وفي خارطة الطاقة العالمية. ولكن من المؤكد أنه لو كان بقي في مستوى ١٠٠ دولار للبرميل في هذه المرحلة المالية الأوروبية الحرجة، لكان يمكن أن يعقد الأمور إجتماعياً وربما أمنياً في الداخل الأوروبي أكثر بكثير مما هي معقدة اليوم.
ماذا يعني الاهتزاز المالي الأوروبي الحاصل؟
إذا تعثرت أوكرانيا ودخلت اليونان في <حيص بيص> سياسي وكان حجم برنامج التحفيز الكمي أقل من المنتظر فيمكن أن نشهد هزة كبيرة في العملة الأوروبية لا حدود لها، والكلام عن دولار يساوي يورو لن يصبح تنظيراً.
في لبنان، يعني ذلك الأمر مزيداً من القوة للدولار أي لليرة وتراجعاً ملموساً (مفروضاً) في حجم فاتورة الاستيراد. صحيح أنه يمكن أن يعني أيضاً تراجعاً في برامج الدعم التي يقدمها الإتحاد الأوروبي، ولكن عندما نرى كم القروض الميسرة والمنح الموجودة في جوارير المجالس من دون أي تحريك على مدى سنوات يتبين أن هذا الأمر لن يكون له أي تأثير فعلي.
ما سيحصل في أوروبا في الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة سيكون بوصلة للاقتصاد العالمي على مدى سنوات لأنه سيشكل إما نهاية حقيقية للأزمة الاقتصادية العالمية أو إعلان العودة إليها بقوة من الباب الأوروبي.