هل يكفي الاتصال الذي أجراه الرئيس الفرنسي "ايمانويل ماكرون" بالرئيس اللبناني العماد ميشال عون قبل أسبوعين لتحريك الملف الحكومي من جديد وانتظار انطلاقة مبادرة فرنسية تخرج الملف الحكومي من حيث يقبع في غياهب النسيان؟ وهل يعني اتصال "ماكرون" ان المحركات الفرنسية سوف تدور من جديد من اجل حل الازمة الحكومية وايصال السفينة الوزارية الى رصيف الأمان؟ وما دخل الرحلات المتلاحقة للرئيس المكلف سعد الحريري الى مصر وتركيا ثم الامارات وفرنسا وهل من ربط بين هذه الرحلات السندبادية؟
قد يكون من المبكر الإجابة عن هذه الأسئلة ما يمكن ان تحمله من جديد على الصعيد الحكومي، لكن الواضح ان اتصال "ماكرون" بالرئيس عون يعني ان الملف اللبناني لا يزال من أولويات الرئيس الفرنسي بعدما بدا وكأن هذا الملف تراجع الى الوراء في حسابات الرئاسة الفرنسية التي كانت جعلته في مقدمة اهتماماتها لاسيما بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس) الماضي. صحيح ان الرئيس "ماكرون" اكد للرئيس عون في خلال الاتصال الهاتفي انه لن يترك لبنان وحيداً، لكن الصحيح أيضاً ان الحراك الداخلي لا يزال اسير المواقف إياها من بعبدا وبيت الوسط حيث لا تواصل بين الرئيسين عون والحريري منذ ذلك اللقاء الذي جمعهما في 23 كانون الأول ( ديسمبر) الماضي والاتصال الهاتفي اليتيم الذي هنأ فيه الرئيس المكلف رئيس الجمهورية بعيدي الميلاد ورأس السنة، ولعل ما حصل بعد اتهام الرئيس عون الرئيس الحريري بــ "الكذب" زاد من التباعد بين الرجلين إضافة الى تمسك كل منهما بمواقفه حيال تركيبة الحكومة العتيدة وما قيل ويقال عن "قطيعة" بين الرجلين يصعب ان تنتهي من دون تنازلات متبادلة.
عملياً، يبدو ان عودة "ماكرون" على الخط اللبناني وصفه متابعون في العاصمة الفرنسية بأنه "ضوء ضعيف في النفق اللبناني المعتم"، وأراده ماكرون بعد مرور نحو 40 يوماً على زيارته الثالثة المؤجلة الى بيروت والتي كانت مقررة في 22 و 23 كانون الأول (ديسمبر) الماضي بسبب اصابته بداء "كورونا"، الا ان "ماكرون" أحيا مبادرته بعد "النكسة" التي أصيبت بها نتيجة غرقه في الرمال اللبنانية المتحركة وضياعها بين الشروط والشروط المضادة وفي تعقيدات الازمة الإقليمية والدولية. ومن خلال التصريحات التي ادلى بها قبل أسبوعين نفض "ماكرون" الغبار عن مبادرته معلناً انها لا تزال "على قيد الحياة" و"على الطاولة" وإن كان خفض سقف المعايير التي وضعها سابقاً لتشكيل الحكومة العتيدة التي قال إنها من غير الضرورة ان تكون "مكتملة الاوصاف".
أسباب تحرك "ماكرون"
تقول المصادر الفرنسية إن إصرار الرئيس "ماكرون"على مبادرته يعود الى عاملين رئيسيين: الأول انه وعد اللبنانيين في زيارتيه الى بيروت، في 6 آب (أغسطس) والأول من أيلول (سبتمبر) الماضيين، بــ "عدم التخلي" عنهم، وهو عازم على ان يفي بوعده، والثاني التدهور الخطير الذي انزلق اليه الوضع اللبناني في كل مناحيه الصحية والاقتصادية والمالية والأمنية والاجتماعية، وانعدام حس المسؤولية لدى الطبقة السياسية اللبنانية التي ندد مجدداً بفسادها، بيد ان زيارة "ماكرون" المرتقبة تبدو حتى اليوم زيارة "مشروطة" اذ انه ربطها بــ "التحقق من أمور أساسية"، ولم يفصح الرئيس الفرنسي (او مصادره) عن طبيعة هذه "الأمور" هل تتمثل في تأكده من ان الطبقة السياسية اللبنانية التي حنثت بالتزاماتها إزاء استعدادها للسير في "خريطة الطريق الانقاذية" كما عرضها في اجتماع شهير ليل الأول من أيلول (سبتمبر) الماضي في قصر الصنوبر، ستكون هذه المرة اكثر تعاوناً، وستفضل المصلحة العامة وإنقاذ لبنان على مصالحها الشخصية او الفئوية، ام ان ماكرون حصل على "تطمينات" او "ضمانات" خارجية من الأطراف المؤثرة في الملف اللبناني؟.
بداية، تعد المصادر المشار اليها ان "ماكرون " يراهن بصدقيته وصدقية بلاده في لبنان والشرق الأوسط، بل في الداخل الفرنسي، حيث انصبت عليه الانتقادات، واخذ عليه انه وضع رجله في فخ، من غير ان يحسب حساب الرجعة. ويجدر التوقف عند ردة فعل وسائل الاعلام الفرنسي التي هللت لانخراطه في الملف اللبناني، لكنهـــا لم تتردد في توجيـــه انتقادات لاذعة لــ "مغامرته" اللبنانية. من هنا، ترجح هذه المصادر ان يكون "ماكرون" قد حصل على "ضوء اخضر" او وعود خارجية بتسهيل مهمته، قبل ان يغامر بتأكيد استمرار مبادرته وعزمه على الذهاب الى بيروت مجدداً. صحيح ان "ماكرون" بين في السنوات الأربع المنقضية من عهده انه يحب "الضربات" الدبلوماسية التي تصل أحياناً الى حد المغامرة، والدليل على ذلك رهانه على التقارب مع الرئيس الأميركي السابق "دونالد ترامب" او استمالة الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، او لعب دور حاسم في الملف النووي الإيراني. لكن ثمة امثلة أخرى كثيرة تبين ان رهاناته كانت متسرعة، او على الأقل لم تؤت ثمارها الموعودة.
"كارت بلانش" أميركية - فاتيكانية
وترى مصادر ديبلوماسية تتابع المسار الفرنسي حيال الملف اللبناني انه من الصعب ان يغامر "ماكرون" مرة ثالثة في لبنان لو لم يكن لديه من المعطيات التي تجعله على ثقة بأن "الثالثة ثابتة" لاسيما وان كلامه عن لبنان جاء مباشرة بعد الاتصال الهاتفي المطول مع الرئيس الأميركي الجديد "جو بايدن" والذي دام ساعة كاملة وباللغة الإنكليزية أي لا حاجة لمترجم يضيع نصف الوقت. وبدا ان "ماكرون" حصل من "بايدن" ما لم يحصل عليه من "ترامب" في ما خص المقاربة الفرنسية للوضع في لبنان، فضلاً عن اتصال سابق كان اجراه مع الرئيس الإيراني حسن روحاني كما نشطت باريس اتصالاتها بواشنطن، اذ حصل اتصال بين وزيري خارجية البلدين، كما ان "روبير مالي"، المولج حديثاً الى الملف الإيراني في البيت الأبيض، تشاور مع الخارجية الفرنسية، فيما وزيرة الدفاع "فلورانس بارلي" تتأهب للتوجه الى واشنطن. وتعول باريس، وفق ما اشارت اليه مصادر رئاسية الأسبوع الماضي، على "واقعية" أميركية جديدة في لبنان، ما يعني رغبة فرنسية بألا يبقى لبنان "جزئية" في سياسة "الضغوط القصوى" الأميركية على طهران، وربما التساهل في ملف حضور "حزب الله" في الحكومة العتيدة. والواقع ان واشنطن لم تكشف بعد عن تصوراتها "الجديدة" للملف اللبناني الذي ليس من أولى أولوياتها.
وفق المصادر الديبلوماسية فإن الاتصالات مع الفاتيكان لم تتوقف خلال الأسبوعين الماضيين في سبيل اكتمال المشهد امام الرئيس "ماكرون" الذي بات يحظى بدعم أميركي واوروبي وفاتيكاني في ما خص مبادرته في لبنان، وهو سوف يستثمر هذا الدعم لمحاولة الوصول الى نتائج إيجابية اذا تجاوب اللبنانيون مع مساعيه ولم يكابروا في تعاطيهم مع الملف الحكومي الذي لم يعد امامه عقبات كثيرة باستثناء تذليل عقبة وزارتي الداخلية والعدل والتي تتطلب مقاربة واقعية يتقبلها الرئيسان عون والحريري من خلال الطرح الذي قدمه الرئيس نبيه بري والمدير العام اللواء عباس إبراهيم وهو ان يجلس الرئيسان ويطرحان سلسلة أسماء للوزارتين ولا يخرجان من الاجتماع الا وقد اتفقا على هذين الاسمين مع ارجحية لخيار الرئيس عون لوزارة الداخلية، مقابل ارجحية لخيار الرئيس الحريري لوزارة العدل. وهذه "الحلحلة" الداخلية ستكون "غلاف" التفاهم الفرنسي الأميركي - الإيراني - الفاتيكاني الذي يقود الى الحل، لأن ماكرون لا يريد ان يبدو وكأنه فرض حلاً على اللبنانيين، بل انهم "تجاوبوا" مع مساعيه للوصول الى الحل، وإذ ذاك يأتي ماكرون الى بيروت مع ولادة الحكومة الجديدة و"يبارك" للبنانيين "انجازهم" ويطلق سلسلة مبادرات داعمة لهم اقتصادياً واجتماعياً ومالياً بالاتفاق مع المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
هل يتجاوب اللبنانيون؟
تقول المعلومات ان لا خيارات كثيرة امام القيادات اللبنانية المعنية خصوصاً بعدما تبلغت "غضباً" فاتيكانياً واسعاً من "انعدام" المسؤولية عند القياديين اللبنانيين السياسيين منهم والذين في موقع المسؤولية أيضاً، وكل الكلام الآتي من عاصمة الكثلكة لا ينبىء بأن الفاتيكان في وارد التساهل حيال "اللامبالاة" التي يظهرها القادة في لبنان حيال الملف الحكومي وغيره من الملفات. وهذا "الغضب" يضاف اليه "الاستياء" الفرنسي من "خفة " المسؤولين اللبنانيين ما يجعل الحمل ثقيلاً اذا ما استمر الوضع على ما هو عليه من ردود فعل لبنانية خصوصاً بعدما قال الرئيس بري الأسبوع الماضي ان العائق امام تشكيل الحكومة ليس من الخارج!.