تفاصيل الخبر

كــــان الفـــــارس الوحيــــد فــي زمـــــنٍ ذَهَبَ فـيـــــه الفرســـــان فـــــي إجــــــازة!

17/05/2019
كــــان الفـــــارس الوحيــــد فــي زمـــــنٍ ذَهَبَ فـيـــــه الفرســـــان فـــــي إجــــــازة!

كــــان الفـــــارس الوحيــــد فــي زمـــــنٍ ذَهَبَ فـيـــــه الفرســـــان فـــــي إجــــــازة!

 

بقلم المحامي عبد الحميد الأحدب

لا البطريرك صفير مات، ولا الإمام الأوزاعي مات، ولا ابن عربي مات، كل هذه القامات الروحية الخلقية تبقى حية في قلوب الناس وتبقى قدوة ضد جحيم الشر الذي يجتاح لبنان هذه الأيام.

البطريرك صفير كان سفيراً وقائداً لجيش الفضيلة، حين خرج المسيحيون عن دينهم خلال الحرب الأهلية الإسلامية ــ المسيحية ــ الفلسطينية، وهي الحرب التي قضت على آخر امل في فلسطين حين مرت بجونية وعيون السيمان ولكنها خلّفت كفراً بالمسيحية والإسلام، ما زال مستمراً وهو يزيد والشياطين يزداد عددها كل يوم والكفر بلبنان وبالأديان وبالأخلاق يتزايد ويكثر تحت شعارات التغيير والإصلاح!

لن يتركنا البطريرك صفير، لأنه يوم يتركنا، يومئذٍ يموت معنى لبنان، ولكن البطريرك لديه جيش كامل من الملائكة الذين يزرعون الحب والاستقامة وإن كانوا مهمشين هذه الأيام! فقبل الحرب الأهلية اللبنانية ــ الفلسطينية كان يحكم لبنان ليس الملائكة ولكنهم رجال أفاضل مستقيمون مثل: حميد فرنجية وريمون اده وعادل عسيران ورياض الصلح وكميل شمعون وفؤاد شهاب وصائب سلام، (وهيئة من كبار الإداريين مثل الياس سركيس، شفيق محرم وجنادري الخ...). اما اليوم فالحكم بيد طبقة أخرى من نوعية أخرى فكرياً وأخلاقياً وثقافياً... وكل يوم يأتون بدليل على شيطنتهم وتعسفهم وفي كل كلمة يلفظونها سم عزاف!

المسلمون كان لديهم إمام حمل الرايات التي حملها البطريرك صفير، هو ابن عربي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في شرح الحب في الإسلام، وان الله في الإسلام هو المحبة! وبقيت اشعاره خالدة وغنّاها العالم العربي في كل زمان ومكان، غنّتها ام كلثوم فكانت طرباً وخشوعاً، ولكن السياسة ومدرسة معاوية التي غلبت السياسة على الإسلام قتلت ابن عربي!

والمسلمون كان لديهم الإمام الأوزاعي الذي وقف في وجه العباسيين يحمي المسيحيين وينشر المحبة والحرية والتقوى، ولكن الإسلام حين تحول الى سياسة، تجاوز الأوزاعي وابن عربي وابن رشد وكل الأئمة الذين لو غلب تيارهم على السياسة لما أصبح العالم الإسلامي داعشياً كما صار اليوم بل كان دين الحب والحرية، ولكان قد عاد الى أصله.

البطريرك صفير كما ابن عربي كما الأوزاعي... كما كل الذين رفعوا راية الاستقامة والحرية والفضيلة والتقوى والمحبة، كل هؤلاء كانوا تراث الحضارات التي لا تعيش بدونهم او بدون ذكراهم! البطريرك صفير عاش وحمل راية المحبة والوئام والتسامح في أصعب الظروف خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي كان الفلسطينيون سببها. وكلما اشتعلت نار الفتنة والحقد والكراهية كنا نجد البطريرك صفير هو الذي يطفئها بنور الإيمان والمحبة والتسامح!

وتصدى البطريرك صفير لخناجر الكره والمذابح بصليب المحبة والغفران والتسامح، وكان ينجح، وكان اقوى من الميليشيات والعصابات، لأن نور الإيمان والتسامح والمحبة اقوى من لهب الحقد والكراهية. ونجح البطريرك صفير وكان صموده ضد التعصب والمتعصبين والمتاجرين بالأوطان والأديان، كان صموده هو الذي يصفعهم ويسقط أي شرعية عنهم.

في الحرب اللبنانية اعتمدت الإدارة الأميركية البطريرك صفير كمحاور مسيحي رئيسي بعد فراغ الرئاسة اللبنانية، فأصبحت المبادرات الأميركية تمر حكماً بالصرح البطريركي الماروني قبل عرضها على سائر القوى المسيحية السياسية والعسكرية. وتلخصت سياسة البطريرك صفير وفكره واتجاهه في ما قاله للنواب المسيحيين الذين اجتمعوا في بكركي، اذ روى لهم قصة السنديانة والقصبة Le chêne et le Roseau للكاتب الفرنسي <لافونتين>، ومغزاها ان انحناء السنديانة ينقذها من شر الاقتلاع عند هبوب العواصف، فهي تنحني وتنجو اما القصبة فتثبت وتُقتلع.

وجابه البطريرك الأعاصير والرياح بدعوته الى المرونة، وصمد وصدّ كل الانتقادات التي انصبّت عليه.

وكان يستعين بالفاتيكان كلما هبت عليه رياح الميليشيات الحارقة، وهو قال لكل الميليشيات المسيحية حين ابلغ انه معرض للاغتيال وقتذاك: <موقف بكركي هو موقف الفاتيكان، اننا ضد التقسيم ومع انتخاب رئيس للجمهورية وإعادة مؤسسات الدولة>، ثم التفت الى سمير جعجع ليقول له: <انت تتحمل مسؤولية كل ما يمكن ان يحدث في التظاهرة المتوجهة غداً الى بكركي>.

كان شجاعاً في قناعاته وافكاره ولم يخف الموت يوماً.

لم يعرف تاريخ الموارنة ورجال الدين فيهم من كان في جرأته وتواضعه.

لم يكن متعباً <بلبنانيته> ولكنه كان يرفض ان تكون <اللبننة> لعنة وعقاباً، كان يمشي على ورق خريطة لبنان ويجد اننا على الخريطة كلنا اغراب.

وكان من الأصوات القليلة التي تهز العالم من موقعها، كان لا يخفي نظرته واستنكاره ورفضه الى خريطة لبنان أيام الحرب، فكلها حواجز ومخافر وكلاب، والشعب الطيب البسيط اما نعجة مذبوحة واما حاكم قصاب.

كان البطريرك صفير الفارس الوحيد في زمن ذهب فيه الفرسان كلهم في إجازة! كان جبران خليل جبران في كل كلماته ومواقفه، ولم يَخَف يوماً من الذئاب!

رفض دائماً ان يكون لبنان أداة حربية او جَيْباً للأثرياء، كان قريباً من قلوب الناس، وكان يرى لبنان مسرحاً بشرياً كبيراً يضحك فيه الناس ويبكون ويضجرون ويتشاجرون ويعشقون ويكرهون ويصلون، ولكنه لم يقبل منهم يوماً التعصب والحقد والكراهية في لبنانه.

البطريرك صفير كان حدثاً عصرياً خارج سلطة الموت ولم يكن حدثاً عادياً كسائر البطاركة ــ على كل عظمة هؤلاء ــ كل هؤلاء البطاركة الذين يموتون كسائر البشر! لهذا سيبقى حياً في ذكراه من اجل ان يبقى لبنان، ذلك ان مدرسته ومفاهيمه ستبقى حية وتغلي في القلوب والعقول!

وقد بلغت عدائية عبد الحليم خدّام حداً كبيراً وصلت إلى درجة التهديد <بتكليف أحد أبناء الطائفة المارونية بالرد عليه>، كما نقل النائب السابق بطرس حرب في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) 1993 إثر عودته من دمشق حيث أبدى نائب الرئيس السوري استياء كبيراً من مواقف البطريرك صفير واعتبر أن <عليه أن يلزم ديره وألا يتكلم في السياسة، <ما شأنه في السياسة أصلاً؟> (السادس والسبعون مار نصر الله بطرس صفير ــ الجزء الثاني).

أين أنت يا عبد الحليم خدام الذي فتحت بوجهك أبواب الجحيم؟

وأين البطريرك القديس صفير الذي فتحت بوجهه أبواب الجنّة؟