بقلم علي الحسيني
في لمح البصر تبدلت أحوال وسط بيروت التجاري وتحديداً عند ساحة رياض الصلح، بعدما تحولت التظاهرات المدنية التي دعا اليها المجتمع المدني تحت ما يسمى جمعية <طلعت ريحتكم> للتعبير ضد الفساد المستشري في البلد الى صراعات دامية بين المتظاهرين والقوى الأمنية سقط خلالها أكثر من مئة جريح أحدهم إصابته خطرة للغاية ومعها بدأت الأمور تأخذ منحاً تصاعدياً ما زالت مفاعيله مستمرة.
تطور دراماتيكي وتحوّل مريب
يوم السبت الماضي توافد الآلاف بدءاً من الساعة السادسة مساء الى ساحة الاعتصام في وسط بيروت والذي دعت اليه جمعية <طلعت ريحتكم> للمطالبة بحل أزمة النفايات اضافة الى تنفيذ البنود العالقة داخل مجلسي النواب والوزراء من ضمنها دعوة المجلس النيابي الى الانعقاد لانتخاب رئيس للجمهورية خصوصاً في ظل الفلتان الحاصل في كافة مؤسسات الدولة، وقد ترافقت هذه التحركات مع تحذيرات من وجود مندسين بين الجموع حاولوا في بداية الأمر إزالة الأسلاك الشائكة المحيطة بمجلسي النواب والحكومة، فما كان من القوى الأمنية الا ان فتحت خراطيم المياه في اتجاه المتظاهرين، في محاولة منها لإبعادهم خصوصاً بعد اقترابهم من السرايا ما أدى الى حصول مواجهات بين المتظاهرين والقوى الأمنية وتراشق بالزجاجات والعصي، الى ان طلبت المجموعة من المتظاهرين الانتقال الى ساحة الشهداء تجنباً للاشتباك. لكن الأمور تطورت بشكل دراماتيكي وصلت الى حد استعمال قنابل <المولوتوف> من قبل بعض المندسين قابلها استعمال الرصاص الحي من جهة القوى الأمنية التي نفت في بياناتها استعمال السلاح ضد المتظاهرين حيث اكدت وجود عناصر مندسة بين المتظاهرين في ساحات التظاهر كافة.
من أنقذ البلد من الفتنة؟
كاد الشارع ان ينفلت وكادت الأمور ان تذهب معه في اتجاه ما هو أسوأ من التظاهرات وقطع الطرق والاعتداءات المتفرقة الصغيرة التي شهدتها غير منطقة. العقلاء وحدهم أنقذوا البلد من فتنة كانت معدة لتفجير الوضعين الامني والاجتماعي تحت غطاء المطالب الحقوقية التي عمدت الى تنفيذها بعض الجماعات المندسة خصوصاً لحظة إصابة المواطن محمد قصير بعيار ناري في رأسه والذي ما يزال حتى اليوم داخل غرفة العناية الفائقة في مستشفى الجامعة الاميركية وهو الأمر الذي استغله بعض المندسين حيث عمدوا الى تكسير عدد من واجهات المحال التجارية في وسط البلد وتحطيم اشارات المرور وسط هتافات <الشعب يريد إسقاط النظام>، فكان واضحاً ان التحرك بات خطيراً مع رفض مجموعات من الشبان الانسحاب من الشارع رغم دعوات <طلعت ريحتكم> المتكررة، فيما شب حريق على مدخل كنيسة مار جرجس في وسط بيروت مع اقتلاع أعمدة الإنارة من الشوارع وتفكيك حجارة الأرصفة لرمي القوى الأمنية بها وإحراق دراجة نارية لقوى الأمن الداخلي وخيمة لأهالي العسكريين المخطوفين.
اتهام حركة <أمل> و<طلعت ريحتكم> تتراجع
بعد تطور الاحداث وبعدما دخلت قضية الاعتصام على خط الصراع السياسي والمذهبي في وجه بعض الاشخاص التابعين للمجتمع المدني، جرى اتهام حركة <أمل> بالتسبب بالصدامات بهدف افشال التظاهرة، لكن حركة <أمل> ردّت في بيان بأن اتهام عناصرها عار عن الصحة واصفة ذلك بأنه محاولة مكشوفة لإثارة الفتنة. وهنا بدا واضحاً من خلال متابعة المشهد الحاصل ان هناك مجموعات استغلت التحرك السلمي الذي بدت صورته حضارية طوال يومين من خلال تركيز الناشطين في الحملة على المطالب المدنية السلمية وتوزيع الورود على القوى الأمنية، الا ان هذه الصورة اختلفت ليلاً مع اشتداد حرارة المشهد واحتدام المواجهات مما دفع بحملة <طلعت ريحتكم> الى فك اعتصامها في ساحة رياض الصلح والخروج من الشارع والدعوة الى التجمع من جديد بعد التراجع الى ساحة الشهداء.
لماذا تطورت الشعارات؟
كما فوجئ الجميع بحجم الاضرار التي نتجت عن التظاهرات بشكل سريع، كذلك حصل بالنسبة الى شعارات حملة <طلعت ريحتكم> التي تطورت من المطالبة بحل أزمة النفايات ورفض الصفقات حولها واستقالة وزير البيئة محمد المشنوق الى الاصرار على استقالة رئيس الحكومة تمام سلام والابقاء على الاعتصام في ساحة رياض الصلح وإسقاط النظام ورفض عرض من سلام بالتفاوض معهم بعدما توجه اليهم بالقول <لأن الاحتيال يحصل علي وعليكم> لكنهم لم يتجاوبوا معه .
جنبلاط يصعّد مع المشنوق ثم ينسحب من الارض
وفي وقت متقدم من ليل الاحد وبينما كانت الاحداث تتخذ شكلاً تصاعدياً خرج رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط بتصريح هجومي ضد وزير الداخلية المشنوق حيث قال: <كفانا كذب وزير الداخلية نهاد المشنوق وعليه أن يرحل فمن المعيب استخدام الرصاص المطاط او الخراطيم او العنف ضد الجيل الذي يريد التخلص من الطبقة السياسية>. ولفت الى ان كلام المشنوق غير مقنع، ومن حق المتظاهرين التعبير <وأرفض التعرض لهم>.
بدوره رد المشنوق على تصريحات جنبلاط بالقول <أوافق جنبلاط على ما قاله بشأن حرمة استعمال العنف في وجه المتظاهرين، لكنني لا أوافق على مغالاة جنبلاط باتهامي بالكذب، وأطلب منه مراجعة نفسه قبل إطلاق عناوين عشوائية دون مسؤولية او تدقيق، خصوصاً أنه ليس معروفاً عني الكذب او التهرب من تحمل اي مسؤولية على عكس غيري من السياسيين او المسؤولين.
بعده بأقل من ساعة تحدث جنبلاط قائلاً <كنا في موضوع حساس وهو النفايات وهي تعالج بطرق موضوعية وسنرى ماذا سيجري يوم الاثنين في المناقصات. اما إسقاط الحكومة واعتبار المجلس النيابي غير شرعي فهذا أمر مرفوض. هنا وُرط المتظاهرون من قبل قوى سياسية بشيء آخر ولذلك أعطيت الأوامر للحزب ولمنظمة الشباب التقدمي بالانسحاب من التظاهرة>.
بزي: باقون في ساحات الاعتصام
الناشط المدني في حملة <طلعت ريحتكم> عماد بزي أكد لـ<الافكار> أنه ليست للحملة اي علاقة بما جرى في ساحة رياض الصلح، واتهم بعض الاحزاب بإرسال عناصرها لتوتير الوضع و<التشويش> مؤكداً <اننا سنبقى في ساحة الشهداء حتى الإفراج عن جميع المتظاهرين المعتقلين وتراجع القوى الأمنية الى اماكن تمركزها وحل مسألة النفايات، مع خيارنا على إبقاء تظاهراتنا سلمية من دون ان ننسى ان عدد الإصابات في صفوف المتظاهرين كبير جداً>. وقال: <الحكومة نقلت النفايات من بيروت لترميها في نهر بيروت وفرن الشباك وتبعدها عن عيون الناس ليردعوهم عن النزول الى الشارع، ولذلك أدعو الجميع للنزول الى الشارع ومن المعيب العنف الذي استُخدم ضد النساء والاطفال>.
وتابع: <الحراك لم ولن يتوقف ولكننا أعلنا تأجيل التجمع الى موعد اخر لاعادة تقييم وترتيب المطالب والاستماع للناس وما تقول ونحن نعد بعقد مؤتمرات صحفية لتقديم التفاصيل ونناشد كل من اصيب برصاص عادي او مطاطي او بفعل عنف القوى الأمنية خلال التظاهرات التوجه لوزارة الداخلية لتسجيل شكوى بحق من أعطى الأمر بإطلاق النار>.
شمص: حزبيون مندسون كانوا بيننا
بدوره اكد الناشط في المجتمع المدني حسن شمص والداعي الى التظاهرات عبر <الافكار> اننا أردنا من خلال احتجاجاتنا تحركات سلمية نطلق فيها ربيعاً من المطالب الحياتية والمعيشية، ولكن أعمال الشغب التي جرت الأحد لا علاقة لنا بها فهناك اطراف سياسية عمدت الى دس بعض الشباب لتشويه صورة التحرك>، مشدداً على <ان التحرك لم يكن على الإطلاق ينوي أخذ البلد إلى أحداث أمنية مجهولة تدخله في ما يحاول التجمع محاربته>.
وأضاف شمص أن حملة <طلعت ريحتكم> انسحبت من الاعتصام مع بدء اعمال الشغب كونها لا تمثل طموحاتها واهدافها، لكن هذا لا يعني انها أوقفت نشاطها و<سوف ننظم اعتصامات جديدة مع العلم اننا كنا حاولنا اكثر من مرة منع بقية المتظاهرين من سحب السياج ورمي القوى الأمنية بالحجارة ومنع تكسير وتحطيم الممتلكات العامة والخاصة، لكن اعود واؤكد ان هناك عناصر حزبية مندسة كانت بيننا واستغلت تحركنا لسببين: السبب الاول لضرب تحركنا ووصفه بالخارج عن القانون وإرادة الناس، والسبب الثاني لإظهارنا وكأننا جماعة تشبيح لها مطالب خاصة لا تمت بصلة الى مصلحة المواطن>.
مصادر في الصليب الاحمر كانت اكدت لـ<الافكار> ارتفاع عدد الإصابات في صفوف المتظاهرين والقوى الأمنية جراء أعمال العنف الى أكثر من 400 جريح وان معظم الحالات كانت نتيجة حالة اختناق بفعل القنابل المسيلة للدموع والاحجار التي كان المتظاهرون يرمونها باتجاه القوى الأمنية.
المشنوق بعد قطع زيارته: هناك جهاز آخر أطلق النار
في ظل استفحال الوضع مع خوف من تفاقم الوضع وخروجه عن السيطرة قطع وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق مساء السبت زيارته للخارج عائداً إلى بيروت حيث أوضح فور وصوله انه فور تبلغه بهذه الأحداث اعطى أوامره فوراً بوقف إطلاق النار سواء في الهواء او بالرصاص المطاطي مع إشارته الى أن هناك قوى عسكرية أخرى استمرت بإطلاق النار متوقعاً منها ان تعلن مسؤوليتها عن ذلك منعاً لتحميل قوى الأمن الداخلي وحدها مسؤولية ما حدث. وبينما أكد المشنوق لاحقاً إطلاق سراح كل من تم توقيفه خلال التظاهرة متعهداً في الوقت عينه بمحاسبة كل من أطلق النار الحي او المطاطي في مواجهة المتظاهرين، تم الإعلان في الليلة نفسها ان مفوض الحكومة المعاون لدى المحكمة العسكرية القاضي داني زعني فتح تحقيقاً بأحداث ساحة رياض الصلح.
بيان قوى الأمن الداخلي
ازاء هذا الوضع الخطير اوضحت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي (شعبة العلاقات) في بيان تأكيدها على حرية التعبير والتظاهر الحضاري وتكفّلها بحماية المتظاهرين واحترام اي تحرك سلمي وديموقراطي وانها أبداً لم ولن تكون في موقع الخصم، إلا أنها تقوم بممارسة واجباتها وفقاً للقانون في حفظ الأمن والنظام.
وأوضح البيان: عند الساعة السابعة من تاريخ 22/8/2015 بدأ بعض المتظاهرين الموجودين في ساحة رياض الصلح بالاعتداء على عناصر قوى الأمن الداخلي المكلفين حمايتهم وحماية المنطقة الأمنية في محيط السرايا الحكومية ومجلس النواب من خلال دفع هذه العناصر ورمي الحجارة والنفايات والمفرقعات عليهم، ومحاولتهم إزالة الشريط الشائك لهذه المنطقة. إزاء هذا الواقع ولمنع الاحتكاك والتصادم مع المتظاهرين وخرق السياج الأمني للدخول إلى المقرات الرسمية واستباقاً لما قد ينتج عن ذلك من سقوط ضحايا قامت عناصر مكافحة الشغب باستعمال المياه لابعادهم عن المنطقة الأمنية. وبعد تطور الوضع قامت باستخدام القنابل المسيلة للدموع واستعمال عتاد حفظ الأمن والنظام المزودة بها لتفريقهم.
وزير البيئة يعلن فض العروض
وفي محاولة منها لامتصاص غضب الشارع الذي كاد ان يتحول الى مأزق وطن من خلال إصرار المتظاهرين على المواجهة في الشارع وتحضير انفسهم لجولات إضافية من العنف، أعلنت الحكومة عبر وزير البيئة محمد المشنوق ظهر الاثنين الماضي من مجلس الإنماء والإعمار فض عروض المناقصات لإدارة النفايات المنزلية حيث أشار خلال مؤتمر صحفي الى ان الشركات الفائزة سيتم الاشراف على أعمالها في المناطق بالتعاون مع البلديات وهيئات المجتمع المدني، معلناً أسماء الشركات الفائزة وهي: شركة <جهاد العرب>: مناقصة النفايات في البقاع. شركة <سايفكو اندفكو>: النفايات في المتن وكسروان وجبيل. شركة <لافاجيت>: النفايات في بيروت والشمال. شركة <رياض الأسعد>، <الجنوب للإعمار> وشركة <هيرا> الإسبانية: في الشوف وعاليه وبعبدا. شركة <باتكو>: النفايات في الشمال. شركة شريف وهبي <الموارد المائية والتنمية> وشركة <التنظيف الكويتية>: النفايات في الجنوب.
وبعد ان تردد أن أسعار الشركات الفائزة في عروض المناقصات هي أعلى من أسعار شركة <سوكلين> أوضح وزير البيئة في بيان صدر عن مكتبه الاعلامي ان الأسعار المذكورة للشركات تشمل إقامة معامل للمعالجة وتحضير وتجهيز المطامر في وقت كانت شركة <سوكلين> تشغّل معامل موجودة، كما ان هذه الأسعار تشمل موضوع الكنس الذي لم تكن <سوكلين> تقوم به خارج بيروت.
<طلعت ريحتكم>:
العودة الى الشارع
بعد إعلان وزير البيئة المناقصة دعت حملة <طلعت ريحتكم> في مؤتمر صحفي عاجل الى إعلان بطلان المناقصات التي أعلنها وزير البيئة محمد المشنوق اليوم وإعادة تسليم مسألة النفايات الى البلديات، مشيرة الى أن وضع مجلس الوزراء يده على أموال الصندوق البلدي المستقل يجعل كل قصة المناقصات عملية سلب للمال العام، والكل مشارك في عملية السطو.
كما رأت الحملة ان السلطة حاولت تحويل المشكلة وكأنها صراع طائفي رافضة زج هذا التحرك في المحاصصات الطائفية، واتهمت السلطة بإطلاق النار على المتظاهرين بدءاً من يوم السبت في وسط بيروت، معتبرة ان هذا التحرك أيقظ اللبنانيين من جديد، وتعهدت بتعزيز القدرات التنظيمية في تحركاتها المقبلة ودعت الجميع إلى المشاركة في مسيرة إضاءة شموع تنطلق من أمام قصر العدل باتجاه ساحة رياض الصلح على أن يعود الجميع إلى التظاهر يوم السبت المقبل في وسط بيروت خارج ساحة رياض الصلح. وناشدت الحملة المغتربين اللبنانيين التظاهر أمام السفارات اللبنانية في الخارج دعماً لتحركهم في لبنان.
الجدار العازل
بدورها يبدو أن القوى الأمنية المولجة حراسة السراي الحكومي قد وجدت حلاً أخيراًَ لمحاولات المعتصمين تجاوز الأسلاك الشائكة، وذلك من خلال بناء جدار اسمنتي يفصل بين ساحة رياض الصلح والسراي الحكومي. وهذا ما وصفه البعض تعدياً اضافياً على المجال العام، خصوصاً ان الساحة المقابلة للسراي والتي تحتوي على تمثال الرئيس الراحل رياض الصلح من المفترض انها ساحة عامة.