تفاصيل الخبر

هذا ما أوصلنا الى ”الثورة“! 

17/01/2020
هذا ما أوصلنا الى ”الثورة“! 

هذا ما أوصلنا الى ”الثورة“! 

بقلم ابراهيم عوض

الكلام والشكوى من الدوائر الحكومية ليسا بجديدين، فما نسمعه عن عذاب المواطنين الذين لديهم معاملات فيها لا يحصى ولا يعدّ، مع الإشارة الى أن وجود نقص في عدد الموظفين يجعل الأمور أكثر تعقيداً وصعوبة، كما هي الحال في دائرة الصندوق الوطني الاجتماعي الموجودة في طرابلس.

وإذا ما تجنبنا الحديث عن الدائرة المذكورة، وتناولنا غيرها من الدوائر الرسمية التي تشهد فائضاً في الموظفين، لوجدنا <الكارثة> ماثلة أمام أعيننا. هذه المرة لن أعتمد على رواية قريب أو صديق بل سأقصّ عليكم ما عاشته زوجتي من تجربة مرّة في دائرة رسمية طرابلسية أعرض تفاصيلها بما يتبع:

أمسكت زوجتي بملف يحتوي على جميع الأوراق والمستندات المطلوبة لانجاز معاملة خاصة بعائلتها التي تمتلك أحد العقارات، بعد أن باتت المسألة إجراء روتينياً مع بداية كل عام، وتوجهت الى حيث اعتادت ايداعه، أي الموظف المسؤول عن هذه المعاملة الموجود في الطابق الثالث ولنسمه بحرف <م>.

دخلت مكتبه فلم تجده. ولما سألت عنه أُجيبت بأنه يأتي من الساعة السادسة صباحاً حتى الثامنة بعدها يقوم بمهمة خارج الدائرة، لذا عليك الحضور باكراً. قفلت صاحبة الملف عائدة الى المنزل استعداداً لليوم التالي حيث حضرت الى مكتب السيد <م> عند الساعة السابعة فلم تجده، كما أن الكثيرين من الموظفين لم يكونوا قد اتوا بعد باستثناء اثنين أو ثلاثة التقتهم في المصعد لدى خروجها، وقد أخبروها بأن الشخص المقصود جاء وغادر وقد يعود عند الثامنة فانتظريه.

عملت بالنصيحة وانتظرت جالسة على كرسي وجدته في الرواق. ولما تجاوزت الساعة الثامنة والربع تحركت تبحث عنه في مكتب مجاور فاغتاظ من قصدته وأجابها بفتور <هذا ليس مكتبه.. انزلي الى الطابق الثاني وهناك بامكانهم أن يفيدوك عنه>.

الى الطابق الثاني درّ.. هناك جلست مجموعة من الموظفات، واحدة منهن تصحح مكياجها، والثانية ترتشف القهوة، والثالثة تتحدث على الهاتف مع ضحكات مسموعة في الأرجاء.. وقفت زوجتي لدقائق من دون أن تعيرها واحدة منهن اهتماماً ولما توجهت اليهن بالسؤال عن <م>، موضحة أن زميلاً لهن في الطابق الثالث أخبرها بأن لديهن الجواب الشافي، ردت احداهن بانفعال <لا حبيبتي غلطان يللي قلك هيك.. روحي اسألي عنو بمكتب المدير تحتنا>. متسلحة بالصبر نزلت الى مكتب المدير لتلتقي بالسكرتيرة وقد تحلق حولها عدد من الأشخاص ينتظرون الدخول لمحادثة المدير. اقتربت منها زوجتي طالبة النجدة علّها ترشدها الى <م> أو تعلمها أي شيء عنه، فجاءها الرد الصادم <لم أره اليوم.. راجعي في الطابق الثاني>، وحين أبلغتها زوجتي أنها كانت هناك للتو انفعلت وردت <هيدا يللي عندي> وعندها طلبت زوجتي رؤية المدير فأجيبت بأنه غير موجود وقد خرج منذ لحظات، ولكن يا للغرابة فالمدير داخل مكتبه حياً يرزق والكل بانتظاره! هكذا من دون أن يرف لها جفن تصرفت سكرتيرة المدير أو بالأحرى كذبت على من يفترض أن تلقاهم بالترحاب والكلمة الحلوة والتصرف بلباقة... أوَليس من واجبات السكرتيرة، أي سكرتيرة، أن تعرف كيف تخاطب الناس وتعكس تلك الصورة المحببة لمَن تتولى إدارة شؤون مكتبه؟

وبالعودة الى الملف الذي جهدت زوجتي بغية ايصاله الى الهدف المنشود، فقد خرجت غاضبة من مكتب المدير وهي تشكو من سوء المعاملة ليتلقفها موظف في مكتب مواجه حاول تهدئتها والاستفسار منها عما تريد، وما ان فرغت من اسماعه ما لديها حتى أمسك بالهاتف وتحدث الى الامبراطور <م> وأعلمه بالأمر فأجابه الأخير بأن عليه الاهتمام بها كونها زوجة صحافي <منخاف لسانو> ثم كلمها بدوره معتذراً، طالباً تسليم الملف الى من استقبلها وطيّب خاطرها، كما زودها برقمه الخليوي للتواصل معه والاستعلام عن أحوال المعاملة التي سيتولى أمرها.

ما ذكرته سابقاً لا يحتاج الى تعليق بالتأكيد، وما معاناة زوجتي سوى واحدة من مئات الآلآف... ثم يحدثونك عن الدولة العصرية واللامركزية الادارية والمكننة الى غير ذلك من الوعود التي سمعنا عنها منذ سنوات من دون أن نشهد أي أثر لواحدة منها، مع العلم أننا راضون بالموجود شرط تحسينه وضبطه ووقف الفلتان واشعارنا حين ندخل مؤسسة رسمية أنها كذلك بالفعل لا <خنفشارية>!

ما أوردته في الأسطر السابقة حدث قبل انطلاق <الثورة> عندنا والتي لم تكن لتحصل لولا هذه العينة من اهتراء مؤسسات الدولة متمثلاً باستهتار العديد من الموظفين (قلنا العديد وليس الكل حتى لا نعمم) في القيام بواجباتهم التي تعهدوا بأن يتمموها على أكمل وجه ويراعوا ويحترموا من يأتي اليهم لانجاز معاملة، لا أن يديروا الظهر لهم ويستهتروا بمطالبهم أو يهملوها من منطلق أن الموظف الرسمي كسول، وهذا ما لا نرضاه، مع التنويه بان الصفة المذكورة لا تشمل الجميع باعتبار أن هناك موظفين مثاليين يسعد المرء حين يلتقي بهم في هذه الدائرة أو تلك.

لا أبالغ اذا قلت بأن أكثر ما يؤرقني هو الذهاب لاتمام معاملة ما، مع العلم أنني كثيرا ما أحظى باهتمام خاص مراعاة للمهنة التي أعمل فيها منذ أكثر من اثنين وخمسين عاما، لكن هذا لا يسعدني وأنا أرى غيري يئن ويشكو ويصرخ لعدم الاكتراث له.

واذا كان الكثيرون قد ذاقوا اللوعة جراء تصرفات موظفين في الدوائر الرسمية معهم، فها قد انسحب المشهد، وان بشكل مختلف، على المصارف حيث بات المودعون <يشحدون> أموالهم ويتوسلون أصحابها والعاملين فيها لزيادة <الخرجية> الأسبوعية المخصصة لهم.

بالله عليكم ألا يؤلمكم منظر العشرات وهم يتجمعون يوميا أمام <الشبابيك> للحصول على مبتغاهم وان بـ<القطارة> ويمضون وقتا طويلا قبل الخروج ظافرين بحفنة قليلة من الدولارات أو الليرات؟!.. كان ينقصنا هذا الاذلال والعذاب وكأن كل <البلاوي> التي أطبقت على أنفاسنا لم تكفنا، وقد كشفت الحقيقة الكارثية ألا وهي تدحرج أسس بنيان الدولة حتى لا نقول انهيارها... ولا أظن أنني بحاجة هنا لمزيد من الشرح والتفسير اذ أن كل فرد منا بات مدركا لما أصاب وطنه ومن أوصله الى هذا الدرك.

أما بعد، فهل هناك من يستغرب أو يتساءل: لِمَ انتفض الشعب؟... أعتقد أننا تأخرنا كثيرا في <دب الصرخة> علّها تلقى الصدى اللازم أو تُدفن بحجة <أن لا حياة لمن تنادي>.