بقلم صبحي منذر ياغي
<حرب العصابات>، <حرب الدبور>، <حرب الضعيف ضد القوي>، <حرب البرغوث ضد الفيل>... تسميات عدة لحرب واحدة هي: حرب المقاومة الشعبية ضد الجيوش النظامية لأهداف كثيرة ومنوعة. وأدى هذا الاسلوب القتالي المتبع الى تحقيق غاياته في معظم الثورات الشعبية والتحررية التي أطلقها الثوار في العالم منذ فجر التاريخ، وبرزت في هذه الحروب الصغيرة شخصيات ثورية خلّدها التاريخ. واليوم باتت كل مجموعة وطنية مسلحة تخوض حرباً لتحرير أرضها من الاحتلال تعرف بـ<المقاومة الوطنية>، وإن اتخذت لنفسها تسمية وفق ايديولوجيتها ونظرياتها.
وفق المفهوم العسكري، ان حرب العصابات Guerrilla warfare هي حرب غير تقليدية بين مجموعات قتالية يجمعها هدف واحد وجيش تقليدي، حيث تتكون هذه المجموعات من وحدات قتالية صغيرة نسبياً مدعمة بتسليح أقل عدداً ونوعية من تسليح الجيوش، وتتبع أسلوب المباغتة في القتال ضد التنظيمات العسكرية التقليدية في ظروف يتم اختيارها بصورة غير ملائمة للجيش النظامي. ويرى الخبراء العسكريون ان حرب العصابات هي بمنزلة حرب تدور بين الوسائل البدائية والتكنولوجيا المتطورة لأن رجال المقاومة يستخدمون الأسلحة الخفيفة وحتى البدائية في بعض الاحيان، لمواجهة الجيوش النظامية التي تستخدم أحدث الأسلحة والمعدات المتطورة، وحتى الطائرات والمدفعية الثقيلة.
وقد بدأت حرب العصابات تشهد تطوراً ملحوظاً، وبات لهذه الحرب خبراؤها ومدربوها، إضافة الى تقنياتها وأساليبها وفنونها، وباتت كل مقاومة مسلحة تستفيد من خبرات المقاومات المسلحة الأخرى وتجاربها. وقد شهد العالم منذ عشرينات القرن الفائت أكثر من ستين حرباً من هذا النوع، واستطاع المقاومون أو رجال العصابات في الكثير منها تحقيق النصر وتحرير أراضيهم، وقلب الانظمة التي ثاروا في وجهها. ولعل المثل الاقرب الينا هو المقاومة الوطنية في لبنان.
تطور حرب العصابات
<حرب العصابات> تطورت كثيراً منذ العام 1834 عندما حاول <غسيبي غاربيالدي> الملقب بـ<أبي حرب العصابات> توحيد ايطاليا وتحريرها من سلطة الحاكم النمساوي، بحيث باتت حرب العصابات الاسلوب الاكثر شيوعاً في قضايا التحرير في مناطق عدة من العالم. ولعل التحول التاريخي الذي حدث في هذا الإطار كان في العام 1949 عندما انتصر الشيوعيون في الصين بعد حرب عصابات دامت 20 عاماً، بحيث ان العصابات الثوريـــــة المنتشرة في الجبال والوديان لا بد أن تتــــولى في يـــــوم من الايـــام مقالــــيد الحكم بعــــد دحرهــــا الجيوش الغازيـــــة والمحتلين.
ثم كانت التجربة الفرنسية خلال الاحتلال الالماني النازي لفرنسا والتجربة الفيتنامية والفلسطينية... وصولاً الى تجربة المقاومة الوطنية في لبنان.
<بوليفار> <جورج واشنطن أميركا اللاتينية>
وبرز في مجال النضال والحروب الشعبية قادة باتوا رمزاً للثورة والنضال والكفاح، ومن هؤلاء <سيمون بوليفار> القائد الثوري والسياسي الأرجنتيني، المولود في 24 تموز/ يوليو عام 1783، وهو الشخص الذي تدين له جمهوريات أميركا اللاتينية باستقلالها عن الحكم الاسباني. أطلقوا عليه اسم «جورج واشنطن أميركا اللاتينية» وذلك بسبب الدور الذي قام به في تحرير الكثير من دول أميركا اللاتينية التي كانت تحت الحكم الاسباني منذ القرن السادس عشر، واشتهر <بوليفار> كمحرر ولكنه تعرض لمعارضة شديدة تخللت أيامه الأخيرة عندما هدف إلى توحيد أميركا الجنوبية كلها تحت سلطته، وسميت دولة <بوليفيا> باسمه.
<ماو تسي تونغ>: حرب التحرير الشعبية
وعند ذكر حرب التحرير الشعبية، لا بد من التطرق الى الزعيم الصيني <ماو تسي تونغ> الذي وضع نظريات ودراسات في مجال هذه الحرب. سيطر <ماو> على الحكم في الصين بعد سلسلة من المعارك والنضالات، وعمل على تطوير مفهوم جديد للشيوعية سُمّي بـ<الماوية> وكان مزيجاً من شيوعية <لينين> و<ماركس>. وعمل على التحالف مع الاتحاد السوفييتي. في آخر عام 1950، أرسل <ماو> قوة عسكرية ضخمة من المتطوعين إلى شمال كوريا لمحاربة الجيش الأميركي تحت قيادة الجنرال <دوغلاس ماك آرثر> هازماً إياه، مما جعل الجيش الاميركي المهزوم يتقهقر إلى كوريا الجنوبية، وفي عام 1966، أشعل الثورة الثقافية الكبرى.
الجنرال <جياب>: الاسطورة
وخلال التطرق للثورة الفيتنامية وحربها الطاحنة ضد القوى الاستعمارية الفرنسية والاميركية، يـبرز اسم الجـنرال <جياب> المـولـود عـام 1912 في قـريـة An Xa، وقاد <جياب> الثوار الفيتنام في حربهم ضد الجيش الاميركي، فكان الاسطورة والقائد الفذ الذي ما زال حتى ليوم رمزاً لكل دعاة الثورة والتحرير. وتمكن الشعب الفيتنامي بقيادة <هوشي منه> والجنرال <جياب> من هزم قوتين استعماريتين كبيرتين في غضون عشرين عاماً هما: القوة الإستعمارية الفرنسية، والقوة الإستعمارية الأميركية.
<شي غيفارا>
يعتبر الثائر الارجنتيني <تشي غيفارا> الذي قاتل في صفوف الثورة الكوبية التي قادها <فيديل كاسترو> في الخمسينات ضد حاكم كوبا <باتيستا> رمزاً لجميع المقاومين. وقد صار كتاب <غيفارا> الشهير <حرب العصابات> الذي وضعه عام 1960 مرجعاً لجميع الباحثين والدارسين في هذا الإطار.
ورأى الباحث نديم نحاس ان أفضل سبل حرب العصابات هي تلك التي تقوم فيها قوات المتمردين بالعمل ضمن نطاق من القوانين والانظمة غير المدونة، حيث تقوم بتوقيت معاركها واختيار ساحاتها من دون إتاحة المجال أمام خصومها لاستدراجها الى المعارك التي لا ترغب في خوضها.
وتابع نحاس: ان السرعة هي عامل مهم في هذا الإطار، اذ يجب مهاجمة القوات النظامية في الاماكن المنعزلة، او المناطق الوعرة اثناء محاولة تجمعها، حيث ينبغي ان يأتي الهجوم سريعاً مفاجئاً قبل اتاحة المجال لهذه القوات ان تكمل تجمعها. فعامل الوقت هو عنصر ثمين ينبغي استغلاله بمهارة فائقة، وإلا ضاع كل شيء كما حصل مع قوات العصابات في <الملايو> واليونان والفيليبين ابان الحرب العالمية الثانية.
المقاومة الفلسطينية
بفضل هذه المقاومة، اعترف العالم بمنظمة التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، واستطاع قائدها ياسر عرفات الوقوف على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974 مخاطباً رؤساء العالم: <جئتكم بغصن الزيتون وبندقية الثائر، فلا تسقطوا الغصن الاخضر من يدي>.
وكان لتجربة الثورة الفلسطينية تأثيراتها على معظم الثورات التحررية في العالم حتى ان العديد من قادة المقاومة في لبنان كانوا خريجي صفوف هذه الثورة من عماد مغنية الى السيد عباس الموسوي ... وغيرهما..
المقاومة الوطنية في لبنان
يجمع عدد كبير من المحللين والدارسين والمؤرخين للواقع السياسي الامني اللبناني الذي نشأ بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 على ان عملية مقهى <الويمبي> في بيروت في ايلول/ سبتمبر 1982 كانت الشرارة الاولى التي أعلنت ولادة المقاومة الوطنية اللبنانية بشكل عملي ضد الاحتلال الاسرائيلي، اذ اقدم الشاب اللبناني خالد علوان على إطلاق النار من مسدسه على مجموعة من الضباط والجنود الاسرائيليين الذين كانوا يتحلقون حول طاولة من طاولات مقهى <الويمبي> في شارع الحمراء، فأوقع في صفوفهم عدداً من القتلى والجرحى لتبدأ معها عمليات المقاومة ضد الجنود الصهاينة الذين كانوا منتشرين في شوارع العاصمة، الأمر الذي حمل الاسرائيليين على تسيير سيارة عليها مكبرات صوت تجوب الشوارع وتنادي: <يا أهل بيروت لا تطلقوا النار علينا نحن منسحبون>.
وكرّت سبحة العمليات وتزايدت وانحصرت في منطقة الشريط الحدودي المحتل في الجنوب اللبناني وكانت تستهدف <جيش لبنان الجنوبي> الذي أسسته اسرائيل والقوات الاسرائيلية، وحققت المقاومة انتصارات باهرة وقامت بعمليات جريئة لم تشهدها حروب العصابات في تاريخها.
نعيم قاسم
وبرزت <المقاومة الاسلامية> التي أسسها حزب الله كفصيل أساسي في حرب المقاومة، نظراً الى ما توافر لها من دعم عسكري ومادي من ايران. ويقول نائب أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم في هذا الصدد: <... اعتبر الصهاينة ان اجتياح لبنان سيؤدي الى ضرب البنى التحتية للمقاومة الفلسطينية المسلحة وتعطيل قدرتهم المستقبلية على المقاومة، مما يسهّل الخطوات السياسية الرامية لتثبيت الكيان الاسرائيلي ضمن الحدود التي تضمن استمراريته واطمئنانه في هذا المحيط العربي. في ظل هذه الاجواء التي أحاط بها مناخ عربي متراخٍ ومستسلم، كان يمكن لاسرائيل أن تحقق ما تريد... وتركزت الاولوية على المقاومة، ما استدعى تسخير كل الامكانات والطاقات في هذا الاتجاه وكانت معسكرات التدريب التي يشرف عليها الحرس الثوري الاسلامي الايراني في منطقة البقاع هي الخزان الرئيسي لرفد المقاومة الاسلامية بالمجاهدين>.
ويضيف قاسم: <... كان من أبرز نقاط التقدم العسكري للمقاومة دقة إصابة الأهداف لسلاح الهندسة والمدفعية، حيث كانت القذيفة تسقط في <الدشمة> أو الموقع المحدد لها، وإتقان احداثيات جغرافيا إطلاق صواريخ <الكاتيوشا> ومعرفة نقاط ضعف دبابة الـ<ميركافا> العادية والمتطورة التي تحولت مقبرة لمن في داخلها (وقد تعطلت صفقة بيع دبابات الـ<ميركافا> المتطورة الى تركيا بعد اول عملية للمقاومة الاسلامية ضدها، وكشف عدم قدرتها على الصمود أمام من يعرف كيفية مواجهتها)، وإتقان إعداد العبوات الناسفة وخطط الاستطلاع التي مكنت المقاومين من الوصول الى نقاط تمركز العدو وعملائه>.
ويعترف الكولونيل الاسرائيلي المتقاعد <صمويل غوردن> في كتابه <النسر والثعبان> بتطور أداء حزب الله العسكري ضد اسرائيل، ويقول: <... لقد أظهرت عمليات ميليشيا حزب الله تحسناً مهماً في الاداء وشجاعة متزايدة، إضافة الى تطور في التنسيق والتخطيط واستخدام بارع للأسلحة المتطورة نسبياً، والاجهزة الأخرى التي زود بها الجناح العسكري لـحزب الله>.
وقد تطور آداء المقاومة بشكل فاعل وكانت حرب تموز/ يوليو 2006 محطة مهمة في تاريخ المقاومة التي استطاعت الصمود والتصدي للعدو رغم الدمار الوحشي الذي الحقه بلبنان، ورغم كرة القتل والموت التي استباحت المناطق اللبنانية كافة. وفي حين خرج الجيش الاسرائيلي مهزوماً يناقش عبر لجان برلمانية اسرائيلية أسباب الهزيمة كانت قيادة المقاومة تواصل تدريباتها واستفادتها من خبرات حرب تموز/ يوليو واستطاعت تطوير بنيتها العسكرية بشكل فاعل حتى انها قاربت ان تصبح جيشاً نظامياً مسلحاً بحوالى 40 ألف صاروخ بعيد المدى وربما أكثر بكثير، فضلاً عن التجهيزات العسكرية المتطورة وباتت قوة المقاومة قوة ردع فاعلة لحماية لبنان .
إلا ان هذه القوة بحد ذاتها باتت عبئاً على الدولة اللبنانية في حال بقيت خارج إطار الشرعية وإطار الدولة الرسمية، لذا ارتفعت الاصوات لوضع استراتيجية دفاعية عن لبنان تشارك فيها المقاومة والجيش والعمل على وضع حلول لدمج هذا السلاح ودمج المقاومة بالجيش لتشكل معه قوة دفاع حقيقية بوجه اي عدوان، إلا ان الموضوع ما زال حتى اليوم إشكالية معقدة على الساحة اللبنانية.
قد تكون <حرب العصابات> فشلت في أماكن معينة من العالم، لكن الثابت انها استطاعت تحقيق أهدافها في عدد من الدول. فلقد لعب المقاومون الفرنسيون (الانصار) دوراً مهماً في إلحاق الهزائم بجيش المانيا النازية الذي احتل فرنسا في الحرب العالمية الثانية، واستطاعت المقاومة الروسية ان تحطم عنفوان الجيش الالماني وتطرده من أراضيها. وبسبب هذه الحرب، خرجت الولايات المتحدة الاميركية من فيتنام مهزومة خائبة، كذلك الاتحاد السوفياتي من أفغانستان.
ولا عجب ان أصبحت هذه الحرب من الحروب العصرية والتي تلجأ الى اتباعها في بعض الاحيان الجيوش النظامية، عبر فرق <الكوماندوس> والمغاوير ووحدات التدخل التي صارت من أهم سرايا هذه الجيوش وكتائبها.
ويبقى السؤال: اذا كانت المقاومة هي <البرغوث> والفيل هو <الجيش>، فهل ينتصر <البرغوث> دائماً على الفيل؟