لغط كبير دار خلال الأسبوعين الماضيين حول مبادرة روسية لحل الازمة الحكومية اللبنانية، وأن الدخول الروسي على الخط تم من خلال اتصالات أجراها نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف مع مسؤولين وسياسيين لبنانيين وان "تنافساً" ما حصل على "كسب ود" الروس في مبادرتهم سواء من خلال موفد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون النائب السابق امل أبو زيد، او من خلال ممثل الرئيس سعد الحريري في موسكو جورج شعبان واللقاءات التي عقداها مع مسؤولين روس من مستويات مختلفة. وما زاد الحديث عن "المبادرة الروسية" حركة غير مألوفة كما قام بها السفير الروسي في بيروت الكسندر روداكوف في زيارات لعـــدد من السياسيين والسفراء مــــا جعل الانطبــــاع عن "مبادرة روسية" من باب "تحصيل الحاصل" حتى اصبح الاستحقاق الحكومي مرتبطاً بشكل او بآخر مع تقدم موسكو في "مبادرتها" وتراجع غيرها في اتصالاته ومساعيه. لقد ذهب البعض الى حد الترويج عن تاريخ معين للمبادرة الروسية يبدأ في شهر آذار (مارس) المقبل، وانها ستقدم طروحات اكثر قابلية للحل المنشود. وصار كـــل فريق يقرأ "السعي الروسي" كما يرضي حساباته وتمنياته، في حين ان الواقع يشير الى وجود اهتمام روسي بالوضع الحكومي اللبناني لم يرتق بعد الى مستوى المبادرة. وفي هذا السياق تروي مصادر متابعة ان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وقبل اعلان مبادرته اجرى اتصالات بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وطلب منه الدعم وقد وعده بوتين بذلك. وهو كان اقنع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على مضض بها، ثم كان التواصل الفرنسي- اللبناني عبر وزير الخارجية جان ايف لودريان ومن ثم عبر زيارتين لماكرون الذي وجد صعوبات جمة في ترجمة مبادرته، سواء بفعل الشغب الأميركي المتمثل بفرض العقوبات على كل من علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، ومن ثم على جبران باسيل، او من خلال المصالح الداخلية المتشابكة إقليمياً من ايران الى السعودية. ومع تعثر او فشل المبادرة الفرنسية لم يعد احد يجرؤ على التقدم بمبادرة أخرى، بل ان الجميع وفي مقدمتهم الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن وروسيا ما زالوا على التزامهم بالمبادرة الفرنسية التي تنتظر زيارة ماكرون الى المملكة العربية السعودية ولقاءه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ليبنى على الشيء مقتضاه، خصوصاً انه بات معلوماً ان الحريري لن يشكل حكومة من دون رضا سعودي اوغض نظر على اقل تقدير، وهو الامر الذي سيسعى ماكرون الى الحصول عليه في زيارته المرتقبة، علماً ان لقاء الحريري مع ولي عهد أبو ظبي الأمير محمد بن زايد قد يساعد على تسهيل مهمة ماكرون في السعودية اذا ما قررت الرياض اظهار إيجابية غير مضمونة بعد.
حراك.... لا مبادرة
من هنا، فإن الاتصالات مع موسكو، واللقاءات في العاصمة الروسية او في بيروت تمحورت حول تسهيل الوصول الى التركيبة الحكومية لكن الكلام الروسي، وفق المصادر المتابعة ظل كلاماً عاماً خلاصته ان موسكو حريصة على لبنان وعلى تشكيل حكومة تكون قادرة على انقاذ اقتصاده المنهار، من دون الحديث عن "أفكار" يمكن ان تصبح مبادرة لها تفاصيلها واحكامها وموجباتها. اكثر من ذلك سمع اللبنانيون ان موسكو ليست في وارد الضغط على احد في لبنان ولن تدخل طرفاً مع جهة ضد جهة ثانية بل تلتزم تقريب وجهات النظر بين الافرقاء، كما تلتزم دعم المبادرة الفرنسية الى حين ترجمتها بإيجابية او اعلان أصحابها انتهاء مفاعيلها. الا ان ثمة من يتحدث عن "جو" روسي معين فهمه اللبنانيون يقوم على ضرورة الإسراع في عملية التشكيل ورفض أي مماطلة، وان موسكو قد تصل الى حد طلب من أصدقاء لها وفي مقدمهم رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ان يزور العاصمة الروسية للوقوف منه على واقع الحال وسماع وجهة نظره، لاسيما وان موسكو باتت على علم بوجهتي نظر الرئيسين عون (عبر النائب السابق أبو زيد) والحريري (من خلال مستشاره جورج شعبان).
لكن المهم في كل ذلك، كما تقول مصادر متابعة للموقف الروسي، ان موسكو حريصة على التوازنات في البلاد وان كانت تقترب من الموقف الرئاسي لاسيما وان بوغدانوف ابلغ من اتصل بهم ضرورة مراعاة خصوصية الرئاسة اللبنانية التي تريد ان تكون الحكومة العتيدة متناغمة ومتعاونة وقادرة على الإنتاج، لأن أي اخلاف داخل أعضائها سوف يؤثر سلباً على مجريات الأمور الحكومية والوضع العام في لبنان الذي يرزح تحت اخطار جمة.... وفي رأي المصادر نفسها ان موسكو راغبة في ان يكون لها الحضور في الساحة اللبنانية، وان كان حضوراً متواضعاً في البداية، خصوصاً بعد التغيير الذي طرأ على الإدارة الأميركية والحديث عن مفاوضات نووية يسعى كل طرف داخلي الى استغلال الوقت وفرض شروطه والاحتكام الى الدول المؤثرة في الملف اللبناني.
في أي حال، تبقى مسألة "المبادرة الروسية" غير مؤكدة بالنظر الى التحركات الروسية على الأرض، لكن الثابت وفق المطلعين، ان موسكو تتقاطع "من حيث المبدأ" مع المساعي الدولية لحل الازمة اللبنانية بــ "الطرق السلمية، وتحت الضوابط التي تحفظ سيادة لبنان". فعلى مستوى السفارة، تأتي حركة السفير الجديد، على خلفية التعارف مع القطاعات الأمنية والإعلامية وبعض السياسية، ولا يمكن وسمها في اطار "التحضير لمبادرة او تهيئة ظروفها"، فيما المبادرة التي قام بها بوغدانوف عقب اتصاله بكل من رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. تندرج، وفق أوساط ديبلوماسية، في خانة "المبادرات والعلاقات الشخصية". وهنا، تعتقد المصادر ان خطوة بوغدانوف غير رسمية، بل تأتي من خلفية الاستطلاع الشخصي، وهو ما يقود الى الاعتقاد ان بوغدانوف لم ينل بعد ضوءاً أخضر روسياً بالتحرك رسمياً تجاه بيروت. علماً ان التوصيف الرسمي الروسي للعلاقات مع الأطراف اللبنانيين، يأتي على قاعدة بناء علاقات متجانسة مع كل أطياف الشعب اللبناني سياسياً وطائفياً، وبالتالي فإن أي تحرك روسي، سواء اتى من بوغدانوف او غيره من المسؤولين الروس لا بد ان يتناغم مع هذا التوجه الذي يختصره ديبلوماسي روسي بالقول: موسكو على مسافة واحدة من جميع الأطراف اللبنانيين وما كان يحصل سابقاً من تجاوزات لن يتكرر!.