بقلم طوني بشارة
قلبها هو بوصلتها في الحياة وفي الاغنية معاً، القلب نفسه جعلها أسطورة في الفن ومدرسة بحد ذاتها، منها تعلم الكثيرون ومن خبرتها الطويلة في الحياة استخلص العديد من الفنانين وغير الفنانين الحكمة والذكاء في التصرف واللباقة في الحديث، كما انها نموذج ومثال الأناقة للعديد من الفنانات، ومحط إعجاب الكثير من الرجال.
من زمن الفن الجميل، زمن تملؤه أحلام الفساتين و<الفونوغرافات> ورقصات الحب، من زمن الابيض والأسود وصولاً الى زمن <الديجيتال>، استطاعت صباح شحرورة الفن أن تحافظ على مكانتها المرموقة، وان تحفر توقيعها وبصمتها المميزتين على لوحة الفن الخالدة، لتكون واحدة من عمالقة الفن العربي وأعمدة التراث اللبناني بشكل خاص.صادقت الملوك والرؤساء في العالم، كما كانت صديقة البسطاء وحبيبة القلوب ومعبودة الجماهير، هي الاسطورة التي حافظت على مكانتها الكبيرة في قلوب معجبيها حتى اللحظة الاخيرة من حياتها، متجاوزة كل الانتقادات والشائعات وكل المصاعب والأحزان التي احاطتها.
حلت الشحرورة بهدوء وسلام بعدما تركت كنزاً ثميناً من العطاء الفني، فهي التي عاشت بتواضع. كانت جنازتها عرس الموت، حيث اختلطت الدبكة بالأغاني، البسمة بالدمعة وبمشاركة حشد سياسي وفني وشعبي.
برحيل صباح يطوي لبنان صفحة مشرقة ويودع رمزاً من رموزه الفنية الاصلية. ودع لبنان صباح بمأتم مهيب، ودع الاسطورة التي فارقت الحياة بعد رحلة فنية طويلة مكللة بالنجاح والعطاء رفعت خلالها اسم لبنان عالياً في العالم.
ودع لبنان صباح التي تركت دعوة <تذكروني بغيابي>، ونحن كأسرة تحرير <الأفكار> أردنا تذكرها على طريقتنا الخاصة، فقصدنا مسقط رأسها بدادون وقابلنا الأهالي ورفاق درب صباح وجئنا بالتحقيق الآتي.
العفريتة
لقاؤنا الأول كان مع برونيس الفغالي ابنة الـ92 عاما التي اعلمتنا ان صباح أي جانيت الفغالي ولدت في 5 ايار (مايو) 1927 وهو التاريخ الصحيح لولادتها وليس 10 تشرين الاول، فهي ولدت في اليوم الخامس من شهر العذراء على يد جدتي لوالدي، وهي الابنة الثالثة لوالدتها منيرة ووالدها جرجي الفغالي. بعد ولادة لميا وجولييت، والعائلة لاسيما والدتها منيرة كانت بانتظار ولادة الصبي بدلاً من صباح، فلم تتقبل الفكرة ولكن عمها شحرور الوادي بحنكته وذكائه جعل الوالدة تتقبل مشيئة الرب وتحتضن صباح بعد يومين من ولادتها، بعد سنتين، ولد شقيقها أنطون ومن ثم شقيقتها نجاة ومن بعدها سعاد.
ثم تضيف قائلة:
- لميا وأنا أكبر من صباح بخمس سنوات، وكانت بالنسبة لنا لعبة أهدانا إياها الرب سبحانه وتعالى، فقد تولينا ولأكثر من مرة، انا ولميا، مهمة الاعتناء بصباح اثناء انشغال اهلي واهلها بقطف المواسم. صباح لقبها الاقارب والجيران اثناء طفولتها بالعفريتة، اتذكرها فتاة ذكية تضج بالحياة والحيوية. كان جدي يستوقفها كل يوم سبت <وهي لم تكن قد بلغت بعد السادسة من عمرها> للاستماع الى صوتها الرائع وهي تؤدي اغنية ابو الزلف، ومن ثم يبادر الى اعطائها خمسة قروش مقابل كل اغنيتين، فتعمد ببراءة الطفولة الى الهرولة برفقتي ورفقة لميا الى دكان الضيعة لشراء كمية من السكر نبات والبزورات نتقاسمها فيما بيننا نحن الثلاث، ومن ثم بعد الانتهاء من الاكل، نقصد الارجوحة المعلقة بالجوزة لنلعب سوياً. صباح منذ صغرها كريمة وما بحوزتها ليس ملكاً لها بل تهوى مقاسمته ومشاركته مع جميع من حولها.
تتنهد برونيس وتتابع:
- ما زال حتى الآن صوتها الطفولي عالقاً في اذني، عندما كانت تقف تحت شجرة الجنارك العائدة لأبي هاني الذي كان متيماً برنة صوتها وتغني ابو الزلف، فيقترب منها ابو هاني ليخاطبها ممازحاً: يا <عفريتة> تعلمين انني متيم بصوتك العذب، اطربيني وسأقطف لك اكبر حبات الجنارك. كان جميع ابناء الحي متيمين بجمالها الجذاب وصوتها الرائع وخفة دمها وعفويتها، فلقبها الجميع بعفريتة الحي.
رصاصة تقتل أختها
تستعيد برونيس شريط حياة الطفولة، لتعلمنا بغصة ان عائلة صباح عام 1937 فقدت جولييت ابنة الـ12 ربيعاً برصاصة طائشة اثناء اشكال وقع بين شخصين من آل فرح، فصباح كانت شديدة التعلق بإخوتها وموت جولييت كان بمنزلة الصدمة الاولى لها، فحاولت ولميا اقناع صباح بمشيئة الرب وحاولنا اقناعها ان جولييت ترانا وتستمع الينا وتراقبنا أثناء لعبنا وتراشقنا بالمياه على العين وحتى ونحن نتقاسم السكاكر والجنارك التي كانت صباح تحصل عليها اثناء تأديتها وصلات الغناء لجدي ولأبي هاني.
عام 1938 وبسبب كثرة المسؤوليات على عاتق العم جرجي والد صباح و قلة عمله كحلاق رجالي، قرر وزوجته منيرة ترك القرية وقصدا بيروت وسكنا في الاشرفية بالقرب من مدرسة اليسوعية، وكنت بالفعل امضي كل شهر حوالى اربعة ايام في بيروت لدى عائلة صباح، كما ان لميا وصباح كانتا أيضاً تقصدان الضيعة كل اسبوعين تقريباً، فبعد المسافة لم يفرقنا اطلاقاً عن بعضنا البعض.
وتتابع برونيس:
- أتذكر عام 1940 عندما اعلمتني صباح ان مدرستها قررت تقديم مسرحية <الاميرة هند> وهي ترغب بتأدية دور البطولة فيها وكانت على يقين انها ستحصل على هذا الدور لكونها زارت كنيسة في جل الديب وعرفت عن طريق الصدفة ان من يدخلها للمرة الاولى ويطلب امنية معينة تتحقق، وقد طلبت من شفيع الكنيسة ان يتم اختيارها لتأدية دور البطولة في المسرحية. وبالفعل حصل لصباح المؤمنة ما ارادت فرشحتها الراهبة المسؤولة لتأدية دور البطولة وكانت في الرابعة عشر من عمرها، فراحت الراهبة تخفق لها يومياً خمس بيضات، وتقول لها: <اشربي، سيفيد البيض صوتك ويجعله قوياً>. صدقتها صباح وواظبت على شرب صفار البيض المخفوق، وما ضاعف من ثقتها بنفسها ان الاشخاص الذين حضروا التمارين وشاهدوها وهي تستعد لأداء دور الاميرة شجعوها ومن بينهم عيسى النحاس المتخصص يومئذٍ في ملابس الممثلين.
وتستطرد برونيس:
- لم يتقبل الوالد فكرة ان تقف صباح على المسرح وتغني، الا انه ما لبث ان رضخ على مضض لأن المسرحية كانت تحت اشراف الراهبات ووافقه الرأي جدها الخوري لويس مؤسس الزجل اللبناني، ومن هنا كانت انطلاقة صباح الفنية واستجاب الرب لدعائها فصودف ان حضر المسرحية الاستاذ قيصر يونس صهر الممثلة والمنتجة آسيا داغر الذائعة الصيت في مصر آنذاك وحاول جاهداً اقناع الوالد بضرورة ادخال صباح عالم السينما، وهنا بدأت المشادة بين صباح الطموحة ووالدها الرجل المتحفظ ابن الخوري لويس.
قيصر يونس وفيلم <القلب له واحد>
وتتابع برونيس:
- في تلك الفترة، اطلعتني صباح ولأكثر من مرة على محاولتها البائسة لإقناع الوالد بقبول عرض الاستاذ قيصر،وبعد حوالى سنة تقريباً وافق الوالد واصطحب صباح الى مصر حيث كانت آسيا قد نشرت صورة لجانيت في مجلة < الصباح المصرية> طالبة الى القراء اعطاء اسم فني للوجه السينمائي الجديد فكان اجماع على اسم <صباح>.
وعن استمرارية الصداقة بينها وبين صباح اثناء وجودها في مصر تقول برونيس: صباح ابنة اصل، شهرتها لم تبعدها عني بل جعلت صداقتنا تتوطد وقد اطلعتني ان شهرتها جعلتها فتاة احلام الشباب، وهي تقرر الارتباط برجل اعمال يدعى نجيب الشماس، فارتبطت به وبالفعل كان نجيب متيماً بصباح ويحترمها اشد الاحترام وذلك بعكس ما كان يتهمه البعض بأنه بخيل واستغلالي، فعلاً كان الرجل الوحيد الذي احب صباح وخاف عليها، وسبب طلاقه منها عائد لعدم قبول الاهل بفكرة ان تكون زوجة ابنهم مطربة فوقع الخلاف بينهما عندما منعها من السفر الى القاهرة لتصوير فيلمها <سيبوني أحب>، فقام الشماس على مضض بإجراء معاملات الطلاق.
وتتابع برونيس:
- تركت صباح طرابلس وتوجهت مجدداً نحو بيروت ووافقت على الغناء في <ملهى طانيوس> في مدينة عاليه وفي تلك الفترة بدأت قصة حب بينها وبين احد امراء العرب، اعلمتني خلالها صباح ان شرطه الوحيد للارتباط بها هو اعتزالها للفن كون اهله يرفضون ان يرتبط ابنهم بفنانة، فاختارت صباح وللمرة الثانية الفن.
تحاول برونيس تمالك اعصابها وتمسح دموعها وتكمل حديثها:
- منذ تلك الفترة وبدأت معاناة صباح مع الرجال، فكل من ارتبطت بهم كانوا استغلاليين، استغلوا طيبة صباح وشهرتها لتحقيق مطامع معينة، فعازف الكمان انور منسي <والد هويدا> أوهم صباح بحبه لها، تزوجها ورزق منها بـ<هويدا> ولكنه اهملها وصرف اموالها على لعب القمار والسهر، فتمالكت صباح نفسها وطلبت الطلاق بعد زواج دام اربع سنوات، ومن ثم عادت وارتبطت بالمذيع المصري أحمد فراج، وهنا نبهتها من الزواج منه لكونه متدنياً وكنت خائفة من ان تتكرر مأساة الشماس من جديد، وبالفعل كانت مخاوفي في مكانها وحتى صباح اعلمتني بعدم رغبتها بالإنجاب خوفاً من ان تكرر مأساة ابنها صباح وابنتها هويدا، وبالفعل تم الطلاق بين صباح واحمد على ما اذكر عام 1963.
مع رشدي أباظة وسامية جمال
وعن زواجها من رشدي أباظة تقول برونيس:
- بالفعل عام 1967 اعلمتني صباح عن مدى اعجابها برشدي أباظة وجرى عقد زواجهما في المحكمة الشرعية في صيدا عام 1967 وفي 5 أيار (مايو) تاريخ ميلاد صباح الحقيقي، وسبب طلاقها منه بعد شهر تقريباً هو اكتشاف صباح ان سامية جمال ما زالت على ذمة رشدي وعندما واجهته بالأمر لم يستطع الإنكار فحصل الانفصال.
وتتابع برونيس:
- صباح بالرغم من حنكتها وذكائها لم تتوفق في اختيار شركاء حياتها، فعام 1970 ارتبطت بجو حمود، فحذرتها من فكرة كونه رجل سياسة وهي فنانة وتهوى الفن، وتحذيري كان في مكانه اذ انه عام 1972 وبعد انتهاء الانتخابات النيابية تخلى النائب عن صباح الاسطورة. بعد عام تقريباً اقترنت صباح بوسيم طبارة ولكنها بعد سنتين ادركت ان وسيم بات يهتم بنفسه اكثر مما يهتم بها فطموحه الفني لم يعد يكفيه فتم الطلاق.
وتستطرد برونيس:
- الاعلام عام 1987 كان ظالماً بحق صباح التي وبسبب طيبة قلبها وحبها لمساعدة الغير ارتبطت وهي في الستين من عمرها بشاب لم يبلغ بعد الاربعين، شاب استغلالي يدعى فادي القنطار اراد الشهرة على حساب صباح، فطالها الاعلام بشائعات عديدة اكره فكرة تذكرها، ولكن صباح بعد زواج دام 15 سنة اعلمتني ان زواجها من فادي غلطة لن تسامح نفسها عليها، وأبلغتني ان سبب زيجاتها هو احترامها لمكانتها كمطربة معروفة فهي لا تسمح لنفسها بإقامة علاقة محرمة مع احد. كما ان المسلسل الذي تناول سيرة حياة صباح فيه مغالطات عديدة ومنها ان صباح شحذت للحصول على راديو وهذا امر بعيد كل البعد عن الحقيقة، فصباح لم تمد يدها لأحد بل ان الجميع مد يده لها طالباً مساعدتها.
فيما يتعلق بارتباط صباح بقريتها بدادون، تعلمنا برونيس:
- أحب اغنية على قلب صباح هي اغنية <عالضيعة> التي لحنها لها الموسيقار محمد عبد الوهاب، فهي بصدق تحب قريتها واهل قريتها، فإلى جانب مشاركتها بمهرجانات بعلبك وبيت الدين وجبيل،والى جانب غنائها على مسرح الاولمبيا في باريس ومسارح نيويورك ودار الاوبرا في سيدني، كانت ونزولاً عند رغبتي، تشارك سنوياً ومجاناً في مهرجانات السيدة ومهرجانات الجنارك، حيث كنت واياها نستعيد ذكريات الماضي ونسرد اقاصيص الولدنة من سرقة الفول والبازيلا والتوت وسرقة جنارك أبي هاني عندما تكون صباح لا ترغب بالغناء له مقابل حصولها على الجنارك.
فيما يتعلق بعلاقتها بأبنائها، تقول برونيس:
- في هذا المجال، كانت الصبوحة متكتمة نوعاً ما، ولكنها كانت مولعة جداً بابنها صباح وبأحفادها، فلطالما اخبرتني عنهم، كانت تزورهم سنوياً وحتى ان ابنها صباح علاقته كانت جيدة معها، وفرحت بإطلالة هويدا مع صباح عام 2007 مع طوني خليفة، فكانت حلقة رائعة جداً.
وتقاطعنا لتمسك برونيس الدف وتغني أغنية صباح <عالضيعة يما عالضيعة>، وتمسح دموعها وتقول:
- اتصلت منذ أسبوع تقريباً بصباح فردت عليّ ابنة أختها كلودا واعلمتني أن صباح نائمة، عندئذٍ قلقت على صباح وكان قلقي في مكانه فتوفيت صباح تاركة وراءها غصة وفراغاً، وبالفعل تحققت امنيتها فهي لطالما أرادت ان تدفن في مدافننا، وانا فرحة جداً لأنني بعد موتي سأرقد الى جانب صباح وسأنام بالقرب منها كما تعودنا في صغرنا.
نترك برونيس ونقصد المدرسة التي تعلمت فيها صباح اثناء الطفولة، فنلتقي صاحب المنزل جان عزيز وصهره زميل صباح في الدراسة جميل الفغالي، وابن عمه ميشال الفغالي فهم من جيل صباح. اعلمونا ان صباح كانت شديدة الذكاء في صغرها، تعلمت القراءة والكتابة بسرعة، مما جعل المربي فريد الفغالي يعجب بذكائها ويعلم عمها شحرور الوادي بأن لصباح مستقبلاً باهراً ان لم يكن في الفن فسيكون بالفعل في مجال العلم، وذكاء صباح وحبها للعلم كانا وراء نزوح الوالدة منيرة (التي توفيت في ظروف غامضة بسبب فبركة أقاويل ضدها) ونزوح الوالد الى الاشرفية بغيـــــة تعليــــم الأولاد وخاصة صباح التي كانت بالفعل مميزة، ولكن شــــاءت الصدف ان تعمل صباح في مجال الفن فتحققت نبوءة المربي فريد.
أهالي بدادون جميعهم يتباهون بمحبة صباح لقريتها وبمدى اخلاصها لرفقاء دربها لاسيما برونيس الفغالي، فجميعهم يرددون جملة واحدة مفادها: ان شهرة صباح ومعاشرتها لعمالقة الفن وللرؤساء والنواب لم تنسياها رفقتها ومحبتها لابنة بدادون برونيس الفغالي فبقيت حتى اللحظة الاخيرة تتصل بها وتطمئن عليها وعلى صحتها، انها بالفعل ابنة أصل.