بقلم وليد عوض
كأن معركة الرئاسة في لبنان موضوع أسقط في سلة المهملات العالمية. فقد جرت الحسابات على أساس أن توقيع إيران على الاتفاق النووي مع الدول الخمس زائد واحد، وعلى الأخص الولايات المتحدة الأميركية، سيحرر الموقف الإيراني في الأزمة الرئاسية اللبنانية، ويقول وزير الخارجية الإيراني <محمد جواد ظريف>: <الآن نستطيع أن نتحدث بشأن لبنان..>. وكانت المملكة العربية السعودية هي الجناح الآخر في حل المسألة الرئاسية اللبنانية ولكن انشغالها بمعارك <عاصفة الحزم> عطل الالتفاتة السعودية الى الوضع اللبناني ولها فيه التأثير الكبير.
وفي الأوساط الديبلوماسية الإيرانية ان التوقيع بالأحرف الأولى على الاتفاق النووي لا يضع النهاية المطلوبة لهذا الاتفاق ولا بد من الوصول الى نهاية حزيران (يونيو) المقبل حتى ينصرف الإيرانيون والأميركيون الى معالجة أوضاع المنطقة، ولاسيما اليمن، والعراق، وسوريا، ثم... لبنان الذي لا يعيش حالة اشتعال، مثل سوريا والعراق واليمن، بل يمكن القول انه يعيش حرباً باردة، وكل حرب باردة محكومة بزمن غير قصير، وأقصى ما يستطيعه لبنان الآن هو أن يكون في منأى عن عواصف المنطقة بانتظار حسم الموقف في اليمن وتحريره من انقلاب الحوثيين المدعومين من إيران وإعادته الى حضن الشرعية وادخاله مرحلة الاستقرار.
ولأن الموسم موسم مفاوضات واتفاقات، ذهاباً من اتفاق <لوزان> بين إيران والمحور الغربي، واخراج إيران من محور الشر، كما كانت التسمية للولايات المتحدة، فقد التقطت موسكو اللحظة الديبلوماسية ورعت يوم الأحد الماضي طاولة مفاوضات بين النظام السوري والمعارضة السورية، أو ما سمي <جنيف 3> اعتماداً على مؤتمر <جنيف واحد> الذي نص على انتقال السلطة في سوريا في أجواء وفاقية لا تعتبر فيها المعارضة السورية مهزومة، ولا النظام السوري في عنق الزجاجة.
وتريد روسيا من طاولة موسكو أن تقيم المعادلة في حل مشاكل العالم بين جبارين: الولايات المتحدة ومعها دول الاتحاد الأوروبي أنجزت الاتفاق النووي، وروسيا تملك القدرة على الوصول الى حل في الأزمة السورية، وإذا انفرجت الأزمة في سوريا انسحب هذا الانفراج على ثلاث دول مجاورة تعاني ولا تزال من تداعيات الأزمة السورية هي: لبنان والأردن والعراق. وبذلك يكون لروسيا في هذه الدول موقع متقدم، بعدما تكون قد نشرت السلام في سوريا. وأهمية طاولة المفاوضات الروسية في موسكو بين النظام السوري والمعارضة، داخلية وخارجية، أن موسكو وحدها قادرة على تطويع النظام السوري واقناعه بالتحاور مع المعارضة، وإلزام هذا النظام بتطبيق كل ما يجري الاتفاق عليه أمام طاولة موسكو، فلا يملك وزير الخارجية السوري وليد المعلم، ولا رئيس الوفد المفاوض بشار الجعفري سفير سوريا في هيئة الأمم حق الانسحاب من هذه الطاولة، أو خلق أجواء مضطربة بين المتفاوضين، لأن <سيرغي لافروف> سيكون لهم بالمرصاد.
وإذا توصلت موسكو الى اتفاق في سوريا بين النظام والمعارضة يجفف نهر الدم، ويحدد خسائر القتل والدمار والعودة بالبلاد الى القرون الوسطى، فإنها تكون قد أعطت المنطقة فرصة لالتقاط أنفاسها، والبدء في إعادة ورشة الإعمار، وهي معركة قيامة جديدة لا بد أن تضمن روسيا فيها حصتها من تأهيل مرافئ ومطارات وطرقات عبر خبراء شركاتها، تماماً كما تحاول الولايات المتحدة ضمان حضورها الاستثماري والمقاولاتي في إيران النووية سلمياً لا عسكرياً. ومن الآن ظهر التقارب واضحاً بين واشنطن وطهران من خلال الحديث الذي أدلى به الرئيس <باراك أوباما> يوم الاثنين الماضي الى <توماس فريدمان> قطب جريدة <نيويورك تايمس> وقال فيه للقادة الخليجيين والعرب اجمالاً: <إن إيران لا تهددكم من خارج بلادكم بل ان التهديد يأتي من الداخل>.
ولا تطلب إيران شهادة أفضل من هذه الشهادة التي تأتي على لسان عدو قديم كانت تصفه بالشيطان الأكبر، وقد أصبح الآن حليفاً.
محمد بن نايف في أنقرة!
وإيران تطل من بين سطور اتفاق <لوزان> كلاعب مهم في شطرنج الشرق الأوسط، وبقدر ما تحمل على المملكة السعودية والدول الخليجية الداخلة في <عاصفة الحزم>، بقدر ما تبدي استعدادها للحوار، وهي لعبة الذي يريد أن يكون حاضراً في الحرب والسلم.
ولأن سفير تركيا في الرياض <يونس بنيرار> أبلغ الخارجية السعودية بأن الرئيس التركي <رجب طيب أردوغان> سيقوم بزيارة رسمية لإيران، فقد رأت السلطات السعودية أن يتوجه ولي ولي العهد وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف الى أنقرة ليدخل على الخط الديبلوماسي بين تركيا وإيران، وينقل الى الرئيس التركي <رجب طيب أردوغان> ما أعلنه الملك سلمان بن عبد العزيز في جلسة مجلس الوزراء السعودي يوم الاثنين الماضي وهو: <ان <عاصفة الحزم> جاءت لإغاثة بلد جار وشعب مكلوم وقيادة شرعية استنجدت لوقف العبث بأمن اليمن ومقدراته والحفاظ على شرعيته ووحدته الوطنية وسلامته الاقليمية واستقلاله وسيادته، ولذلك حظي التحالف للدفاع عن الشرعية في اليمن بالمباركة الواسعة والتأييد الشامل من الأمة العربية والاسلامية والعالم>.
واختيار ولي ولي العهد لزيارة تركيا هو بحد ذاته رفع من درجة تمثيل المُحاور، وتحقيق وعد تركيا بتقديم الخدمات اللوجستية لمعركة <عاصفة الحزم>، وإبلاغها بأن السعودية داعية سلام لا داعية حرب ولكنها لن تتأخر عن نجدة أي جار يستجير بها!
ويبقى أن نسأل: هل في اتفاق <لوزان> ما يمكن اعتباره من الخافي الأعظم؟!
لا يمكن القطع بهذا الجواب قبل مطالع تموز (يوليو) المقبل، بعدما تكون الولايات المتحدة، أو إيران، قد كشفت عن الملاحق المعلنة أو المكتومة، ومن ذلك طبيعة التفاهم على حل مشاكل المنطقة وإطفاء البؤر المشتعلة فيها.
وما تريده واشنطن من طهران أن تكون رأس حربة معها ضد الجماعات التكفيرية في العراق وسوريا ولبنان، وليبيا، وأن تساعدها في وضع حد لانتشار تنظيم <داعش> والاستعداد لمعركة تحرير الموصل الذي أعاث فيه تنظيم <داعش> فساداً ودماراً وأنزل التماثيل والنصب التذكارية وواجهات الكنائس على الأرض. ويكفي بقاء إيران على الحياد في معركة الموصل حتى لا تشعر الولايات المتحدة بأن هناك عدواً من الداخل يتربص بها، ويعيق مخططاتها، خصوصاً إذا قرر <أوباما> استجابة لخبرائه العسكريين، أن يدفع في العراق بكتيبة أو كتيبتين أميركيتين في حرب برية، وإلا فهناك استحالة في كسر شوكة <داعش> وأخواتها، فلا تعتبر طهران هذا الداخل البري تهديداً لأمنها وأمن حلفائها.
الكاردينال في <الإليزيه>
الى الموصل إذن در وانتظر!
وأثناء هذا الانتظار تبرز زيارة البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي لفرنسا، يوم الأحد 26 نيسان (ابريل) الجاري لإلقاء كلمة أمام المجلس التنفيذي لمنظمة <اليونيسكو>، وقد أعد مندوب لبنان في <اليونيسكو> السفير بطرس عساكر كل الترتيبات المطلوبة لاستقبال رأس الكنيسة المارونية، وقيام البطريرك الراعي كذلك بتدشين مقر مطرانية أوروبا، وتكون محطته الثالثة في قصر <الإليزيه> حيث سيلتقي الرئيس <فرانسوا هولاند> ويكون ثالثهما موضوع الشغور الرئاسي في لبنان.
وعلاقة البطريركية المارونية وفرنسا متجذرة في التاريخ، منذ أن توجه البطريرك الياس الحويك من ميناء جونية الى مرفأ <مرسيليا> عام 1919، على رأس وفد من الأحبار والمطارنة، لمقابلة رئيس وزراء فرنسا <جورج كليمنصو> الذي كانوا يلقبونه بالنمر، من حيث قراراته المفاجئة أحياناً، كوثبة النمر. يومئذ لم يكن هناك شغور رئاسي في لبنان، بل كان هناك شغور جغرافي على خريطة الشرق الأوسط سيمتلئ بدولة لبنان الكبير.
مما لفت الرئيس <كليمنصو> يومئذ الموكب الطويل في وفد البطريرك الياس الحويك، فقال للبطريرك باسماً:
ــ إن كنت تعتقد انك ستقنعني بما أنت آتٍ إليه بهذا الوفد الكبير من الأحبار فسوف تكون على خطأ!
وكانت المعاناة بين <كليمنصو> والبطريرك الحويك، عندما فرش الرئيس الفرنسي خريطة المنطقة على مائدة في مكتبه، والى جانبه البطريرك الحويك، وأمعن في استخدام القلم، ليرسم حدود لبنان الكبير، وقيل، والعهدة على الراوي، ان البطريرك الحويك نكز الكوع الأيمن لـ<جورج كليمنصو>، عند الوصول بالقلم الى منطقة البقاع فإذا بالقلم يضم الدائرة التي تقع فيها بعلبك ومعلقة زحلة وراشيا وحاصبيا، وتصبح الأقضية الأربعة جزءاً لا يتجزأ من لبنان.
وثبة <النمر>!
وبهذه الخريطة التي رسمها <النمر> احتفل يوم 31 آب (أغسطس) بولادة دولة لبنان الكبير داخل قصر الصنوبر في بيروت مقر المفوض السامي الفرنسي.
صورة هذا الانجاز التاريخي مرسومة على طول الخط في ذاكرة البطريرك بشارة الراعي. وهو يدرك تماماً بأن الرئيس الفرنسي <فرانسوا هولاند> يملك المساحات القادرة على اقناع بعض الزعامات اللبنانية الشاردة عن الاستحقاق الرئاسي بأن لبنان بدون رئيس جمهورية يعاني أزمة وجود، وان تحريك أوصال الدولة اللبنانية، وانتخاب برلمان جديد خارج دائرة التمديد يتوقف على اثنين: العماد ميشال عون رأس الحربة في تفريغ جلسات مجلس النواب من النصاب، على أساس انه يحب أن يكون <المبارك الآتي>، وحزب الله الذي أعلنه كمرشح باسمه لرئاسة الجمهورية، لن يتراجع عن حلفه مع العماد عون، وإلا انفضت من حوله كل الأطياف المسيحية، واتفاقية كنيسة مار مخايل بين السيد حسن نصر الله والعماد ميشال عون عام 2006 هي المحور والركيزة.
ومؤخراً غاب العماد عون عن قداس عيد الفصح في بكركي، ولم يكلف خاطره بتهنئة البطريرك بالعيد المجيد، وذلك رداً على استهدافه من قبل البطريرك كعنصر تخريب لانتخابات الرئاسة، ومن غير أن يسميه.
ومهما كان حجم تأثير الرئيس <هولاند> محدوداً في معركة الرئاسة اللبنانية، فالكحل أفضل من العمى، وأن يقال: <فرنسا مع انتخاب رئيس في لبنان> أفضل من أن يقال: <فرنسا على الحياد>، كما يفعل الآن الرئيس الأميركي <باراك أوباما> عبر موفده نائب وزير الخارجية الأميركي <طوني بلانكن>.
مع ذلك لا بد من كلمة <فرانسوا هولاند>!