بقلم سعيد غريب
شعب لا يعرف تاريخه، كيف له أن يحترمه، وشعب إذا عرف تاريخه ولم يحترمه كيف له أن يعيش الحاضر ويبني المستقبل؟ شعب لم يعرف في تاريخه سوى الهجرة والتهجير والتجارة، كيف له أن يستقر؟ شعب لا يعرف ماذا يريد، كيف له أن يعيش حياة طبيعية وهادئة؟ شعب لا ينتمي الى وطن بل الى طائفة، كيف له أن يرتاح الى المصير؟
المصير معلّق بخيط من القطن، والقادة اللبنانيون يريدون مقاعد لا انتخابات، وحصصاً لا رجالاً، ويبحثون عن حلول استراتيجية فقط لضمان المقاعد والحصص.
آلاف السنين من الوجود وعشرات السنين على الاستقلال، والمعضلة هي هي: دويلات تجمعها نظرياً دولة مركزية واحدة، شعوب مارونية، شيعية، سنية، درزية، أورثوذكسية، كاثوليكية، أرمنية، سريانية، أشورية، لاتينية، علوية، كلدانية، لا لبنانية، تبقى مرهونة لدى الزعامات والإقطاعيين ولا تستطيع فك أسرها رغم كل التطورات التي شهدها العالم.
شعوب تشهد على توريث معظم خيرات <ساحة الوطن> وأرسلت أبناءها الى أصقاع الأرض بحثاً عن موطئ قدم وطلباً للرزق وتأسيساً لغدٍ أفضل!
المطران <ايلاريون كبوجي> اختصر هذا الواقع، بل اختزله بهذه العبارات: <إن لبنان فرعان وليس مجموعة طوائف. الفرع الأول رجال لا مكان لهم إلا في الهجرة والفرع الثاني مجموعات هاجمة على الأماكن والكراسي والمقاعد مثل فيل مجنون في مخزن الخزف>.
وكان كافور يردد بعد توحيد ايطاليا: <لقد أقمنا ايطاليا ولكن قد لا نتمكن من إقامة ايطاليين>…
والمقلق في الحالة اللبنانية ان الناس التي تحمل الجنسية اللبنانية بدأت تسأل بصوت عالٍ ما كانت تفكر فيه بصوت منخفض: لماذا الاستقلال، هل استحققناه؟ بمَ نختلف عن جزيرة <السيشل> مثلاً وغيرها من المستعمرات الفرنسية القليلة الباقية على وجه الأرض؟ هل كان على حق من ردد مراراً اننا شعب قاصر لم نبلغ سن الرشد؟
الواقع ان جميع المحاولات للانتقال الى الوطن قد باءت بالفشل منذ إعلان دولة الاستقلال لا استقلال الدولة! وان الناس أصبحت واقعية في تشاؤمها!
هل من حلول تزيل القلق على المصير؟
لا شك ان الاحباط حالة يعيشها جميع اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين وعلمانيين.. انهم محبطون من السياسيين لأنهم لا يستطيعون بناء دولة، ومحبطون لأن القانون ليس واحداً على الجميع، ولأنهم غير متساوين قيمة وحقوقاً وواجبات.
من هنا، يرى بعض من تبقى من فكر مسيحي ان اللامركزية يمكن أن تشكّل أولوية مطلقة للتخلص من الوضع المتردي والمزمن <للدولة>…
ولكن المنظّرين للامركزية فاتهم ان المسألة مرتبطة بالديموقراطية، وان ممارستها تتطلب وعياً وثقافة وسعة اطلاع ما يعني حسن اختيار أعضاء المجالس وحكّامها.
لقد أثبتت تجربة الناس مع البلديات ان خيارات الناس لم تكن موفقة. فرؤساء عدد كبير من بلديات لبنان عاثوا فساداً في مناطقهم، وهم يتصرفون على أساس ان الأرض ملكهم. يقطعون الأشجار ويقفلون طرقاً لتمرير مشاريع <إنمائية> لأولادهم وأحفادهم، اقتلعوا الصخور وغيّروا مجاري الأنهار والينابيع وغضوا الطرف عن مبانٍ سكنية مشوّهة ولم يبالوا بصرخات الناس لأن هؤلاء بفعل القانون البالي يصوّتون في مناطق أخرى…
إنها خيارات الناس، أتت بهؤلاء في صناديق الاقتراع. ولكن هل نيأس؟ بالطبع لا، فمن أجل ان تنجح هذه اللامركزية في تشكيل وعي المواطن، علينا أن نجعلها موسّعة الى أبعد الحدود، وعليها أن تقيم علاقات وثيقة بين المواطن وسلطات الدولة، بحيث تجعل المواطن أقل ميلاً للانقياد الى زعمائه.
وفي الوقت عينه، تخلق اللامركزية موجبات ومسؤوليات جديدة، فهي على ما جاء في كتاب <لبنان المستقر> لروجيه ديب تستلزم تغييراً جوهرياً للسلوكيات، على مستوى الدولة المركزية وعلى مستوى الوحدات المحلية والمواطنين.
والأهم من هذا كله، هل نحن قادرون على اعتبار إعادة النظر بالمركزية الصارمة للدولة مشروعاً جدياً للمصير المشترك أم اننا سنبقى ننظر إليه على أنه مشروع تقسيمي مهدد للوحدة اللبنانية؟!
يبقى أن المسيحيين الذين اخترعوا فكرة العروبة، والقومية العربية، والاحزاب العلمانية في المنطقة، تحاول قلة من المفكرين لديهم إيجاد صيغة جديدة لهذا البلد الذي يعتبره البعض مجرد فكرة لم تتحقق والبعض الآخر مجرد مصيف وإقامة موقتة.
وفي الوقت ذاته، هناك من أعاد إحياء فكرة الفيدرالية وهي الصيغة المهذبة للتقسيم!
ماذا سيفعل المسلمون ليحافظوا على وجود لبنان وتمايزه؟ وماذا سيفعل المسيحيون ليحافظوا على صيغة العيش المشترك؟
أي لبنان نريد؟ سؤال طرح قبل ثمانين عاماً ولا يزال صالحاً وبقوة للطرح اليوم…