ان تدخل الى بلدة بريتال البقاعية كصحافي يبحث عن <مطلوبين> او فارّين من وجه العدالة من دون موعد مُسبق لهو انجاز فعلي، فكيف اذا كان احد هؤلاء المطلوبين هو ماهر طليس الصادر بحقه اكثر من مئتي مذكرة توقيف من الدولة اللبنانية وآخرها خطف الطفل ميشال الصقر في منطقة زحلة والذي اعيد الى اهله سالماً بعد اقل من اربع وعشرين ساعة على اختطافه.
من هم الطفّار؟
الطُفّار، في جرود بعلبك الهرمل، هم المطلوبون من قبل الدولة اللبنانية لجنحة أو <جريمة> ارتكبوها، يُلاحقون على أساسها من قبل القضاء الذي وُضع على حجم الضعفاء غير المسنودين سياسياً، فيلجأ هؤلاء إلى الجرد، بعيداً عن أعين القوى الأمنية ومخبريها، تحت سلةٍ من الظروف القاسية، وفي حالات كثيرة قد يجد المرء نفسه امام طُفّار غالباً ما يكونون ضحيّة مجتمعهم المتعدد الاسباب وابرزها الجهل والفقر، وان سألت طافراً ما عن سبب الارتكابات التي اقترفها فسيؤكد لك ان عاملين اساسيين أديّا الى سلوكه هذا الطريق <الوعر> إمّا مكيدة دُبرت له عن طريق قريب، أو اضطراره للاخذ بالثأر وفي كلتا الحالتين يُصبح أمام خيار بين حالتين لا ثالث لهما، تسليم نفسه للعدالة، او سلوك طريق الطفّار.
وعادة ما يلجأ الطفّار الى الجرود مختزنين غضباً وحقداً ضد ما يعتبرونه ظلماً واجحافاً، واستهدافاً ومطالبةً بواجبات مواطنية، دون مقابل حقوقي يوازن هذه الواجبات، ومعظم شباب ا
لبقاع الصاعد، يتعاطف مع هؤلاء <المتمردين> لكونهم يعايشون الواقع ذاته، فيتحولون الى ابطال حكايات شعبية وقصص محلية واحياناً إلى مضرب مثل في البطولة وفي الكرم والجود والشهامة وعزة النفس.
الدخول الى بريتال والبحث عن الطفّار
مجموعة من الشبان تحلقوا حول عدد من <الفانات> عند مدخل البلدة، يبعدون عن حاجز للجيش اللبناني بضعة امتار قليلة. بعد القاء السلام نحاول ان نستدل منهم عن مكان ماهر طليس، ينظر احدهم في وجوهنا لثوان ومن ثم سألنا: <بدكن ماهر المطلوب او ماهر محمد؟>، اكيد ماهر المطلوب. لنعود ونكمل سيرنا باتجاه اقرب نقطة كان اشار لنا بالوصول اليها ولنجد انفسنا امام ساحة البلدة وتحديداً امام محل لبيع العاب للاطفال، سؤالنا الاول نُعيده على صاحب المحل والمفارقة انه اعاد على مسمعنا الاجابة ذاتها التي سمعناها عند مدخل البلدة: ماهر المطلوب؟ والجواب هو بالتأكيد <نعم>.
أين ماهر؟
يدعونا صاحب المحل للترجل من السيارة والدخول الى محلّه بعد كلمة> صغيرة قالها وهي <وصلتوا>. يتلهّى عنّا لدقائق معدودة بإشعال <الصوبيا> وتحضير الشاي. وبينما هو منشغل بالتحضير بدأت اسئلته تنزل علينا كالشتاء الحاصل في الخارج، من انتم؟ ومن اين اتيتم؟ ماذا تريدون من ماهر؟ من دلّكم على طريق البلدة؟ هل قابلتم الشبان عند مدخل البلدة؟ ورغم اسئلته الكثيرة فإنه لم يترك لنا مجالاً للاجابة عن اسئلته مُفضّلاً اجراء مكالمة هاتفية من جوّاله بأحدهم فكان الحوار على الشكل الآتي: <الو كيفك، شو بعدك نايم، لايك في عندي شخص صحافي بدو يشوفك، ولك لحظة شوي من بيت ح، شو؟>.
نسأل صاحب المحل عن نتيجة اتصاله ليؤكد لنا ان ماهر سوف يُرسل الينا سيارة تقلنا الى المكان الذي يوجد فيه، وخلال فترة انتظارنا كنا تعرّفنا تماماً الى موفق طليس صاحب المحل وتبادلنا معه ارقام الهواتف <جوّهة الله عليكم شو ما بدكن من البقاع ببتصلوا فييّ واعتبروا انو صار الكن بيت هَنا>. واثناء الحديث تصل سيارة رباعية الدفع زجاجها داكن يترجل من داخلها شاب حليق الرأس ويطلب منا الصعود معه لأخذنا الى حيث يوجد ماهر. وخلال تبادلنا الاحاديث مع الشاب تبيّن أننا ننتمي للعائلة ذاتها ليؤكد لنا ان قبول ماهر بلقائنا سببه العائلة ولنعلم لاحقاً ان الشاب نفسه لا يقل خطورة عن ماهر بالنسبة للدولة اللبنانية فهو مطلوب بأكثر من مئة مذكرة توقيف قضائية.
طليس لـ<الافكار>: انا شخص عادي ولد في زمن الحرب
نترجل من سيارة الشاب وإذا بنا امام رجل قطعنا كل تلك المسافات للقائه، انه ماهر طليس الشاب الثلاثيني والذي لم تفارق البسمة وجهه طوال لقائنا به. يدعونا للدخول الى <مضافة> كبيرة تقع على مسافة قريبة من مسكنه العائلي وداخل هذه المضافة مجموعة من اصدقائه المقربين لكنهم <اخوته> بحسب وصفه لهم، ويقول: <نحن هنا عائلة واحدة ومصاب احدنا هو مصاب للجميع لا يفرقنا سوى الموت والموت هذا عشناه ورأيناه الاف المرّات>. وعن خشيته من تعرّضه لمؤامرة من احدهم يؤكد ان هذا الامر مستبعد لكنه يروي لنا قصّة حصلت معه، وهي ان الدولة ذرعت ذات يوم احد الشبان المطلوبين ليبقى الى جانبه <مخبراً> لكنه كشفه بعد اقل من ساعتين على مجيئه ليقوم بعدها بالاتصال بأقرب مخفر ويُخبرهم بأنه القى القبض على مطلوب لكن الاخير رفض تسلّمه.
يُحدثنا بأنه شخص عادي ولد في زمن الحروب وفتّح عينيه على الدنيا فوجد المسدس والرشاش امامه، <انخرطت في طريق المطاليب مثلي مثل العديد من ابناء الفقراء واليوم كما ترى لا توجد اعفاءات لكي نعود مواطنين عاديين مثلنا مثل بقية الناس، ولعلم الجميع فقد اديت الخدمة العسكرية في الجيش اللبناني وتقدمت بطلب دخول الى الدرك ونجحت لكن الدورة الغيت لاحقاً ولذلك اعلم جيداً ما هي الواجبات الوطنية، لكن هناك دائماً اشخاص يحاولون اعطائي اهمية تفوق حجمي الحقيقي>.
وعن اول مذكرة توقيف صدرت بحقه يقول كان ذلك في العام 1999 بقضية اخذ الثأر بين عائلتنا وبين عائلة ابو اسماعيل. يومئذ قتلوا شقيقي واصبت انا بيدي بعدها قمت <اخدت بالطار> ووصلت الى هذه المرحلة بعدما رفض الجميع توظيفي، مع العلم انني كنت اعمل بزراعة التبغ والبطيخ والى اليوم ما زلت امتلك عدة الزراعة من الادوات الصغيرة وصولاً الى <التراكتور>، ويُضيف مازحاً شو بدك ياني اشتغل بهيداك الوقت بمعمل غندور يعني؟>، اما عن اول عملية قام بها، <ذات يوم جاء إليّ شخص من الضيعة وطلب مني ان اخبئ له سيارة مسروقة مقابل اعطائي خمسين دولاراً فوافقت على الفور، وبعد مرور وقت قصير جلست داخل السيارة وبدأت ابحث بين الاوراق الموجودة بداخلها حتى عثرت على اسم صاحبها ورقم هاتفه فاتصلت به على الفور وجاء بعد مفاوضات بيني وبينه ومعه مبلغ 1700 دولار فسلمته اياها وكانت هذه اول عملية اقوم بها ومن ثم تكررت العمليات الى ان اصبحت مطلوباً صادراً بحقه اكثر من مئتي مذكرة>.
ويُتابع طليس: خلال اطلالتي التلفزيونية منذ فترة قلت انني لم اتعامل بالسيارات المسروقة منذ ثلاث سنوات، وهنا اريد ان اوضح امراً في غاية الاهمية، هناك من يعتقد انني اقوم بنفسي بسرقة السيارات والموضوع ليس على هذا النحو، فهناك اشخاص من بيروت وغيرها هم من يقومون بهذه الافعال ومن ثم يبيعونها هنا، وانا كنت من الذين يشترون هذه السيارات، وهناك <حرامي> سيارات اعترف ضدي منذ اربعة اشهر تقريباً، نسأله هل هو نبيل م؟ يُجيب: لا بل شخص يُدعى اسحاق عاصي وهذا الشخص كنت ارسلت له رسائل تهديد منعته من القدوم الى البقاع. المهم انه اوفد لي رسالة مع احدهم قال فيها بالحرف الواحد <اذا كمشوني بدي جيب اسمك اول واحد>. وهناك رسائل اخرى اتمنى على الدولة ان تتمكن من الحصول عليها من هاتفه الخاص>.
وحول التهمة التي وجهت اليه بخطف الطفل ميشال الصقر من مدينة زحلة يؤكد طليس التالي: يومذاك كنت استيقظت للتو من نومي عندما طرق باب منزلي احد المتعاونين مع فرع المعلومات فتناول هذا الرجل هاتفه المحمول على الفور واجرى اتصالاً باحدهم قائلاً بالحرف الواحد <يا سيدنا ماهر حدي وبعدو فايق من نومه عمبيفرك عيونه>. لكن بعدها تطورت الامور فمنهم من قال ان الطفل موجود عندي ومنهم من تأكد انه ليس موجوداً لدي، وكل النداءات التي كنت وجهتها للمسؤولين لم تقنعهم حتى حصل اقتحام البلدة ولغاية اليوم ما زلت اؤكد للجميع ان لا علاقة لي بموضوع خطف الطفل، فأنا اخاف على اولادي الصغار فكيف اقوم بعمل كهذا، كما وانني اعتقد بأن قصة الخطف كانت مفبركة وانصح كل شخص يريد ان يصبح نائباً ان يخطف ابنه>.
يلوم طليس الجميع على وصوله الى هذه المرحلة خصوصاً زعماء الطائفة الشيعية الذين لا يلتفتون الى ابناء البقاع. وبرأيه فإذا استمر الوضع على هذا الحال فإن كل الجيل القادم سيصبح مطلوباً للدولة. وهنا يستذكر اتهامه ببيع السيارات المسروقة للثوار في سوريا والذين يُرسلونها مجدداً الى لبنان بعد حشوها بالمتفجرات فيقول: <هذا اتهام سياسي مع العلم انه قبل الثورة كل الناس باعت سيارات لسوريا، ومن يتحدث اليوم عن معابر الموت فليأت الى هنا ليرى اذا كان هناك فعلاً ما يُسمى بمعابر الموت في مناطقنا نحن، فأنا اعطيت اسماء لحزب الله عن مجموعة اشخاص كانوا يقومون بتمرير سيارات مفخخة عن طريق عرسال وهذه المعلومات وصلت للدولة وقد جرى توقيفهم>.
يتمنى طليس لو انه يستطيع العيش كما بقيّة الآباء مع اولادهم، <اتمنى لو اتمكن من الذهاب برحلة صيد او <مشوار> الى البحر معهم. تصوّر انني اقمت لهم حوض سباحة وارضاً واسعة للالعاب لانهم ممنوعون من الذهاب الى البحر او مدينة الملاهي>، ويخبرنا عن مشكلة صغيرة لكنها تركت في نفسه اثراً بالغاً، وذلك اثناء وجود ابنه محمد في المدرسة. يومذاك عيّره احد رفاقه بوالده قائلاً < بيّك حرامي> فكل هذه الامور تترك في نفسه <حرقة> على مستقبل عائلته التي يخشى عليها ايضاً ان تتعرض للإهانة على يد رجال الامن في حال تقرّر مداهمة منزله مرّة ثانية>، ويُطالب ماهر طليس بالعفو من دولته او ان تُعاملهم كما عاملت العملاء علماً <اننا طوال فترة ملاحقتنا لم نقتل انساناً لكننا ندفع فاتورة ما سبق ان قام به الامين العام السابق لحزب الله الشيخ صبحي الطفيلي يوم انقلب على الحزب والدولة، هذا مع العلم انه من بلدة الطفيل وليس من بريتال>.
قاسم الحسيني <طافر> عن طريق المصادفة
هو شاب بقاعي لم يتجاوز عمره الثامنة والعشرين بعد، ابن عائلة بورجوازية، انيق المظهر، متحدث لبق لا يوحي مظهره الخارجي أنه <طافر> لولا <السترة العسكرية التي يرتديها. يأبى ان نغادر بريتال من دون استضافتنا في منزله <الغدا جاهز، وهيدي اهانة النا يا ابن عمي>. من الصعب جداً ان تفلت من دعوته ومع اصراره وجدنا انفسنا داخل منزل لم يكتمل بعد من انهاء ونشر اعماره. نجلس الى مائدة توزعت عليها <الصفيحة البعلبكية> بكل اشكالها اضافة الى المشروبات الغازية واللبن <تفضلوا بسم الله>، يحلو لقاسم الحديث اثناء الغداء حيث يعود بذاكرته الى اول مذكرة توقيف صدرت بحقه فيقول <هاجرنا لبنان في العام 1996 الى اوستراليا وتعلمت في مدارسها، والدي رجل معروف في البلد فهو صاحب شركات اعمار ومطابع في لبنان والخارج>.
ويُضيف الحسيني: في العام 2002 لم اكن انوي الالتحاق بالخدمة العسكرية فسافرت الى تركمانستان وهي بلدة على حدود ايران حيث ادرت مطعماً كبيراً لنا يتبع لاحدى مؤسساتنا الاعمارية يُديرها اكثر من ستة آلاف عامل، وبقيت هناك لغاية العام 2009، يومئذ تم الغاء الخدمة الاجبارية فعدت الى لبنان حيث تزوجت وقمت بتأسيس شركة تحت اسم <Honey rock> خاصة، وفي ذاك الوقت لم اكن اتقن اللغة العربية بشكل جيد، وفي تلك الاثناء قام احد اقربائي بعملية خطف خلالها السيد علي احمد منصور من بلدة غزّة البقاعية، يومئذ كان سكني في منطقة صفير في الضاحية الجنوبية واذ باخدهم يقول لي ان منزل اهل زوجتي في البقاع تتم مداهمته من قبل القوى الامنية، والغريب انهم كانوا يبحثون عن اسمي لأعود واعلم في وقت لاحق ان بعض المخبرين قد وضعوا اسمي لكي يبتزوني مادياً وهنا علمت ان اشقاء زوجتي هم من قاموا بعملية خطف منصور>.
ويتابع: بعدها تطورت الامور وتفاقمت وأصبحت مضطراً لاتابع قضية ملاحقتي بنفسي، وحينئذ اضطررت لاقفال هاتفي خوفاً من تعقبي لأنني متأكد من براءتي فبقيت على هذا الحال لفترة اسبوع تقريباً لاعود واسلم نفسي للدولة التي قامت بتحرياتها وأثبت لها بأنني بريء من هذه التهمة، لكن المشكلة انه في تلك الاثناء التي اقفلت فيها هاتفي واختفيت عن النظر، كان احد العملاء مع شركتي يبحث عني فقال له اهل البلدة انني هارب من وجه العدالة بتهمة الخطف عندها رفع هذا الشخص مجموعة دعاوى وشيكات مؤجلة بقيمة مليون ونصف المليون دولار علماً انني لم اكن استلمت منه سوى بضاعة بقيمة مئة الف دولار عبارة عن بلاط <غرانيت> لتكر بعدها السبحة واليوم انا مطلوب بأكثر من مئة مذكرة توقيف>.
اثناء الجلسة نسأل زوجة قاسم عن نوعية الحياة التي تعيشها مع زوج لا تراه سوى في المناسبات فتجيب: اخشى عليه وأخاف ان نفقده يوماً ما واحياناً اتمنى لو انه يسلم نفسه للدولة بدل ان يُقتل لا سمح الله>. وتحدثنا عن طفلهما محمد ابن السنوات الثلاث الذي يستيقظ من نومه اثناء الليل ليسأل عن والده، تبكي وتفيض الدموع من عينيها وهي تسترسل بالحديث عن عائلة اصبحت مفككة الترابط بسبب جرم لا ذنب لزوجها فيه <امنيتي ان نعيش كما بقيّة الناس، اكره الحياة بسبب ما حصل لنا، وخصوصاً بعد دخول القوى الامنية الى منزلنا وتفتيشه وكأننا <قتّالين قتلى> ابني اصبح يخاف مجرد رؤيته حاجزاً للقوى الامنية وهو يقول لي على الدوام إنه سيشتري بندقية ليطلق بها النار على عناصر الامن الذين <خرّبوا> منزلنا>.
لا ينكر الحسيني أن هناك دعويي خطف قام بهما، الاولى عملية خطف لرجل من الجنوب يُدعى نجيب يوسف اضافة الى ابن الحموي ابن رئيس الهلال الاحمر السوري، والاثنين حصلت منهما على اسقاط حق، فالاول قمنا بخطفه لأن هناك اشخاصاً لهم في ذمته بعض المال، لكن بعدما علمت ان من وراء هذه العملية هناك من يطلب فدية قمت بايصاله الى بيروت وتركه هناك. اما الحموي فنعم بقمنا باختطافه لاسباب سياسية فهو معارض للنظام وهناك من كان يتعقبه من داخل الاراضي السورية ويقوم بتزويدنا بالمعلومات المتعلقة به حتى اننا لم نتلقَ قرشاً واحداً منهما>. وفي نهاية حديثنا معه يتمنى قاسم لو تُعفي عنه الدولة اللبنانية وتجري محاكمته بعدل ويسأل: هل يردون لنا ان نبقى طُفّاراً الى الابد وان يتوارث ابناؤنا هذه المهنة؟.